الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنطونين أرتو راثيا فان غوخ

مازن كم الماز

2018 / 8 / 3
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


إننا أمام عالم مصر على إهلاساته و نفاقه و ازدرائه لكل ما هو إنساني حقا أو قد يحمل بذور شيء ما أكثر إنسانية , إننا أمام عالم يقوم على إشباع نوازع الظلم البدائية , نوازعه الجريمة المنظمة .. هكذا بدأ أنطونين أرتو "رثاءه" لفان غوخ .. تصلح هذه الكلمات أيضا لافتتاحية جريدة يسارية أو ليبرالية و حتى دينية إصلاحية الخ الخ .. لكن أرتو ليس "مثقفا عاديا" , إنه لا يريد مجرد انتقاد خصم أو إثبات صحة فكرة أو موقف سياسي و لا حتى "إصلاح" العالم .. يحفر أرتو عميقا , أعمق مما يحلم أي يساري أو ليبرالي , أي "مؤمن" بالذهاب .. يقول أرتو أن هذا العالم ( و المجتمع الذي يتمتع باهتمام و عطف اليساريين و الليبراليين و "المثقفين" عموما ) قد اخترع الطب النفسي ليدافع عن نفسه ضد مغامرات بعض العقول الجريئة على تحدي مسلماته و وضع كل ما يؤمن به و يقدسه موضع التساؤل .. بالنسبة للجماعات , للمجتمع , هذه الأسئلة مستحيلة , غير محتملة , محرمة .. أما بالنسبة لأرتو فلا وجود لأي مجانين , "لم يكن فان غوخ مجنونا" , فقط أن "رسوماته كانت انفجارات من النار الإغريقية , و القنابل النووية ... القادرة على إزعاج التماثل الشبحي لبرجوازية الإمبراطورية الثانية" .. قنابل نووية , نار , انفجارات , فجأة يكشف أرتو , كما فعل فان غوخ من قبله , أمام أعيننا كل تلك الحياة الرتيبة و الموت العبثي , "عالم يأكل كل يوم مهبلا مطبوخا بالصوص الأخضر أو قضيب طفل رضيع جلد و ضرب حتى هرس و نضج" , جهنم التي يمجدها الجميع باسم التماثل و التطابق و التشابه .. قال نيتشه أن الجنون نادر في الأفراد لكنه الخاصية المميزة لكل الجماعات تقريبا : ليست الأديان , الحروب , هستيريا اصطياد الساحرات و الطهرانية الجمعية إلا بعض مظاهرها فقط .. و خاصة ذلك الإشباع المزيف الذي تبلغه الكائنات المحبطة و المقموعة جنسيا , و لاوعيها المقموع , عندما تتهم المختلف - الآخر بالجنون , و تلك السكينة التي يحصل عليها ذلك الوعي المريض عندما يسجن خصمه و يقتله عقابا على مغامراته غير المتوقعة و غير المرغوبة .. المجنون عند أرتو شخص فضل أن يصبح مجنونا بالمعنى العام ( المجتمعي ) للكلمة على أن تصادر أفكاره , كرامته , ذاته .. المجنون هو شخص لا يريد المجتمع أن يسمعه لأنه يخشاه و يخشى كلماته , لأنه حر لدرجة يمكنه أن يقول أي شيء يريده , حتى ما يجب ألا يسمعه الآخرون , لأنه لا يردد ما يفترض أن يردده , ما يردده الآخرون .. أي مجتمع , أي حاكم , أي دين أو إيديولوجيا , يمكنها أن تطيق مثل هذه "الحرية المنفلتة" .. يسمونها "مستشفيات أمراض عقلية" , لكنها سجون من نوع خاص , لمساجين من نوع خاص , أخطر المساجين على الإطلاق .. يرفض أرتو حكم المجتمع و جلاديه الذين يرتدون البالطو الأبيض للأطباء النفسيين المسؤولين عن فرض التطابق العام و الغباء السائد و حمايتهما : لم ينتحر فان غوخ في نوبة من نوب "جنونه" , بالعكس , لقد انتحر عندما اكتشف حقا من هو , عندها نحره المجتمع لأنه تجرأ على أن يكون , لأنه تجرأ على التملص من براثنه .. في رسومات فان غوخ "وعي فوق طبيعي" , "فوق مستوى الإنسان العادي" , "في كل مجنون عبقرية غير مفهومة , أثارت فكرتها المشرقة .. رعب الناس و كان الهذيان هو الحل الوحيد للاختناق الذي أعدته الحياة له" .. "قضيت شخصيا تسع سنوات في مستشفى أمراض عقلية و لم أشعر أبدا باستحواذ الانتحار , لكني أعرف أن أية مناقشة مع أي طبيب نفسي , عند كل صباح .. تدفعني للرغبة في أن أشنق نفسي مدركا أني لا أستطيع أن أحز عنقه" .. لكن أرتو الذي يصر أن فان غوخ قد نحره المجتمع يقول أيضا في مكان و زمان آخرين "إذا انتحرت , لن أكون قد دمرت نفسي , بل قد لملمتها مرة أخرى . سيكون الانتحار بالنسبة لي الوسيلة الوحيدة لأستعيد نفسي بالقوة , لأجتاح وجودي بوحشية , و أترقب اقتراب الإله الوشيك . بالانتحار أعيد تكويني إلى الطبيعة , و أشكل الأشياء لأول مرة وفق إرادتي" .. قد يكون فان غوخ أحد أكثر نماذج الأنتي هيرو اكتمالا .. و لذلك رثاه أنطونين أرتو من دون أكاليل الغار أو أية محاولة أو رغبة بالتطويب أو التقديس , دون أوهام الخلاص , و دون دموع مزيفة مرعوبة حتى الموت من الإرادة الحرة و من الموت و الحياة .. الأنتي هيرو هؤلاء لا تقام لهم تماثيل في الساحات العامة و لا يهتف بأسمائهم الجنرالات و لا رجال الدين أو الحراس و لا تطبع صورهم على أوراق النقد أو أعلام الدول أو الصفحات الأولى للصحف اليومية و لا على شواهد قبور شهداء لا أسماء لهم في حروب سرعان ما تنسى .. مثل فان غوخ , كان أرتو خارقا للإجماع , لكنه أضاف إلى جنون فان غوخ هوسه بالعنف و بالأفيون : "ليس الأفيون هو الذي يدفعني للعمل بل غيابه . لكن لكي أشعر بغيابه يجب أن يكون حاضرا من وقت لآخر" .. الظريف في الموضوع أنه مات بجرعة زائدة من المخدر , و لا يمكننا أن نجزم إن فعل ذلك "عمدا" أو "دون قصد" ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة