الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أساسيات التغيير والتطوير في المجتمع الإسلامي

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2018 / 8 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قبل البدء بالتنظير في هذا الموضوع لا بد أن نشير أن ما يطرح هنا ليست سوى أفكار قابلة للتعديل والتحديث والتطوير، بل وحتى يمكم البحث عن غيرها بالأضافة والحذف والتجديد، وهذا ما يمكن أن يحدث بقليلا من الجهد والأجتهاد وفقا لمعطيات وواقع كل مرحلة يمكن أن ينجح المشروع التغييري أن يصلها، لكن لا يمكن أن يكون في أي حال هي النهاية أو الأفكار المعتصمة بعنوانها أو تجميد العمل النهضوي عندها، كما لا يمكننا أن نضع ونصنع منها خطوات متسلسلة يتبع بعضها بعضها.
فقد تكون الأفكار متداخلة ومتتابعة وتتواصل فيما بينها وتتلاقح بالنتائج وطبيعة المنهج وإحداثيات التغيير، كما أننا نؤمن بأن الأليات المقترحة يمكنها أن تتحول إلى جزء من التراث الفكري بأختراع وأستشكاف أفكار جديدة وفقا لخارطة الواقع وتجليات الحاجة وأستجابة للظروف العملية، ولكن من المؤكد في كل مرة يجب الأنتباه إلى قضية التلائم والأنسجام بين الفكر التغييري وبين حالية الممكن العملي إلى أقصى حد يمكن أن يكون عامل مساعد أضافي لمواصلة ومتابعة ما نصبو له.
الأفكار التغييرية ذاتها لا تقبل الثبات ولا التوقف في نقطة واحدة أو نقاط متعددة على أنها ل الحل، فقد تختلف الأليات وتتقدم وتتأخر بناء على طبيعة المجتمع وطبيعة الفكر الأجتماعي الذي يتصف به، فهناك مجتمعات متعلمة وقابلة للتغير أكثر من المجتمعات والنظم الأجتماعية التي تحتاج إلى بلورة سياسة تعليمية جديدة، تركز على الحاجة إلى إعادة بناء أستراتيجيات وتكتيكات تعليمية تغير من طريقة التعامل مع العلم والمعرفة الواقعية وطريقة التفكير وتغيير أساليب التعامل مع الفكرة الدينية أصلا وصولا إلى القناعة الجمعية بالتغيير والبناء العلمي والمعرفي.
التحرر والتغيير أيضا في منهجة يستهدف العقل الفردي وصولا لخلق حالة جماعية عقلانية ومتعقلنة، ترى أن البقاء والتمسك بالواقع المأزوم والأصرار في كل مرة على أن إعادة تجربة تأريخية ظن الكثيرون أنها كانت ناجحة وقادرة في كل مرة أن تأت بالهدف، سوف تحبط الغائية والهدف المعلن ولا بأس أن نستمد الروحية العملية منها لا أستنساخ الشكل دون مضمون قابل بالقوة على التجديد، فالعقل الإنساني عندما يتعامل مع الإشكاليات الأجتماعية يجب عليه أولا أن يقر بأحقية الزمن ومتطلبات التطور فيه، لا أن يحاول نتيجة الكسل والعجز أن يتكأ على التراث والتأريخ مهما كان مجيدا أو ناجحا.
التأريخ إذا ليس معينا ينبض دوما بالحلول وليس في حد ذاته كامل الواقعية والمصداقية ولا يملك بذاته أن يكون بديلا عت الخلق الجديد الذي يجب أن يرافقنا في كل مجالات العلم والمعرفة، التأريخ الذي لم يتفق عليه يوما أن كان صادقا وحرفيا وذا بعد يملك المصداقية التامة لأن يكون أساسا لقواعد التفكير لا يمكنه أن يكون صادقا في نتائجه ولا في مؤشراته لتحديد نقاط الحركة المستقبلية كما أنه منطقيا لا يمكن إحيائه على أي قاعدة عقلية أو منطق معرفي صحيح لكل ما يجب أن يكون عليه صورة الحاضر والمستقبل، ولكننا يمكن أن ننجح في أن نستقرئ منه أسباب الفشل والأختلاف والتراجع لأنها موروثاته وفعل في دائرة التكوين العقلي المعرفي.
خلاصة ما تقدم يجب علينا ونحن نؤسس لمشروع كوني مستجد ومتجدد أن نضع الهدف صنع المستقبل لا أحياء الماضي ولا تجسيد تجارب تأريخية أرتبطت براهنية زمنها وأستجابت لظروف واقع تغير ولم يعد باق منه شيء قادر على التفاعل معه، نحن أبناء واقع وزمن وحال ومعرفة وعقلانية مغايرة عما سبقه، وأمامنا أهداف ومشاريع وواقع يرتبط بحاجات تغيرت ومفاهيم تبدلت وأحداث فقدنا القدرة فيها على المجاراة والتتبع المنضبط ، عصرنا اليوم هو عصر المعلومة التي تخلق سلسلة أخرى منها مستجدة ومتطورة وغير ثابتة بمعنى أنها غير راكنة للنتائج مهما كانت عملية وعلمية.
من هذه الحقائق إذا علينا أن نبني معرفة ونخلق رؤى ونستنبط نظريات عملية أيضا تتصف بذات صفة التحرك والأستيلاد الذي لا ينتهي بخواتم ونهايات ثابتة، يمكننا مثلا أن نقارن ونقارب وندرس التجارب الإنسانية الحديثة لا لأجل نقلها أيضا بصورتها وألياتها بل بروحها ومناهجها في التغيير، بل ولا بد من أن نخضع كل مدرسة منها للنقد والتفحص والتفكيك، فليس المهم أن تستدل على تجربة ناجحة بل الأهم أن تعرف أولا أسباب نجاحها والظروف والمعطيات التي ساعدت ومهدت للنجاح.
التجربة الإنسانية اليوم غنية بالتجارب الموفقة، وغنية بالمناهج التي صنعها الفكر والفلسفة والمعرفة والعلم، وعلينا أن لا نضع كل تجربة في موضع الشك والأتهام لأنها تكونت ونمت في مجتمعات لا تشاركنا الرؤية الدينية ولا تماثلنا في المعتقدات والأفكار، فالتجربة قيمتها فيما تعط لا فيما تتبنى من قواعد عمل، حتى التجارب التي أستبعدت الدين وحيدته لا يمكن عزلها عن الدراسة الأهتمام لأنها أعتمدت العقل العامل الحر ونجحت أن تعط ما لم تعطه تجارب تمسكت بالتجربة الدينية وفشلت فيه لأنها أعتمدت على أطار شكلي معتمدة على إحساس أناوي منحاز للنقل وجنبت العقل الحر أن ينتقد ويمارس وظيفته كما ينبغي أصلا في جوهر الفكرة الدينية .
التغير بالنهاية هو عملية تكليف العقل والمنطق والمصلحة لتحقيق توازن حقيقي وموفق بين هدفنا أن نرتقي ونتجدد ونحقق مشروع الفكرة الأولى، وبين حاجتنا إلى أن نتمسك من جهة أخرى بقاعدتي الحق والخير التي نؤمن بها أنها جوهر الدين وجوهر إرادة الله التي يجب أن تسود، إن التعكز على الرصيد الإرثي بما فيه من غث وسمين لا يمكن بأي حال وخارج المراجعة النقدية المستمرة له، أن يمنحنا أي فرصة ممكنة وقادرة للتتغيير طالما أننا لا نستطيع مغادرة التأريخية الإرثية وكأنها القدر المحتم علينا من الله، هذه ليست دعوى للمقاطعة مع التراث ولا أستبعاد للفكر الإنساني في مسيرته، ولكنه أمتحان له وتطهيره من عوامل الزيف والتحريف والتغرير.
قبل سنوات، تساءل المفكر الفرنسي "روجيه جارودي": كيف نفتح أفقًا جديدًا ومستقبلاً ذا وجه إنساني وراء ساحات الدمار، وبعيدًا عن "حفَّاري القبور"؟! في إشارة منه إلى كثرة التنقيب اللا مجدي في التراث الإنساني عامة والإسلامي خاصة فيما يتعلق بالبحث عن حلول لرؤية المستقبل، الحقيقة أن العين التي تنظر للخلف دوما لا يمكنها أن ترى ما أمامها ولو كانت عيون زرقاء اليمامة، يجب أن توجه العقول والعيون اليوم للمستقبل فقط، ويكفيني البحث عما في جيوب الأموات من حلول أعجازية لفتح أبواب المستقبل المغلقة علينا بفكرة أن الماضي (السعيد) كان خيار الله لنا.
الحاجة للتغيير أذن ليس ترفا فكريا ومحاربة للدين بقدر ما هي حالة ضد من ظواهر التخلف والإنكسار العلمي والمعرفي الذي يؤسس للتحول إلى المستقبل القادم والحامل معه كل أمال وطموحات الإنسان بالتكامل مع الأخر ومع ذاته وتجاوز حالة الأخفاق المتكرر، يقول الدكتور أحمد نصري في مقالته عن ملامح التغيير الحضاري أن (الاعتراف الروحي والعلمي والعملي بأن قيام الأمة الإسلامية يستلزم العلم والعمل لإعادة تشكيلها من جديد، وبلورة معالمها الحضارية والإنسانية من خلال الإيمان بمعالجة الأخطاء الذاتية، والدفع بدورة الفاعلية والنهوض والانطلاق، والأخذ بعين الاعتبار السنن التداولية للحضارة، وذلك بتمثل الرؤية القرآنية الشاملة، وتحقيق مشاريع الاستخلاف والتسخير والعمران، لممارسة مشروع التغيير المأمول وتحقيق البديل المطلوب) .
هنا يمكننا أن نستحضر الكم الأهم من أليات التغيير للتوافق الأجتماعي المنشود تغيرا وتجديدا للواقع بأعتبار أن الواقع الحقيقي هو الذي يجسده العقل المفكر والمعرفة المنتجة منه، وبالتالي فالأيات الأساسية هي أليات أعادة تفعيل العقل بالدرجة الأولى، وتتركز على إعادة خلق طرائق التفكير المنتجه فيه، هذا يأت توافقا مع كون الدين أصلا هو خطاب للعقل يستهدف تفعيل محركاته الأنتاجية ليفعل لمرحلة ما بعد الوعي.
أولا. أعادة جدولة المهام العقلية للفرد كونها نواة التغيير والأس الذي تتركز عليه في مجمل العمل التغييري، هذه الجدولة العقلية تتضمن أفكار عديدة تتوزع بين تجديد مناهج التعليم وتحريرها من الأيديولوجية الفكرية، وفتح المجال لتطبيق نظريات ما بعد التعليم التي تؤسس لقيمة العلم كونه حاجة ضرورية وليس هدف يتلخص بالحصول على فرصة عمل وكفى، وأيضا منح المادة العلمية نفسها قوة التغيير من خلال تبني أستراتيجيات الزج بها في كل التفاصيل والتفرعات الحياتية، وجعل العقل مشغولا بتحرير الفكرة العلمية بدل تسجيلها وخزنها دون أن تكون حاضرة في الواقع.
من قضايا جدولة العقل العمل على فصل العلم عن النظام السياسي وتحرير المعهد والمؤسسة العلمية من سطوة وإرادة السياسي الذي يمارس دور المرشد أو الموجه لها، وأعلان أستقلال المعرفة عموما عن تبعيتها للتصنيفات التراثية في تقسيم العلم والمعرفة إلى علم ومعرفة شرعية وأخرى علوم ومعرفة غير شرعية، يقول كاتب مصري في نقده لهذه الظاهرة بقوله (إن واحدة من المشكلات الكبرى التي تواجه سؤال النهضة والتقدم، هو حصر عدد كبير من علماء الدين مفهوم العلم في العلم الشرعي، خذ على سبيل المثال ما يلي العلم من وجه آخر شرعي وغير شرعي) .
فالعلم الشرعي الذي يصنفه رجال الدين ليس علما متميزا بخصائص العلم التجريبي وهو في كل الأحيان معرفة بشرية نتاج قراءات فكرية تأملية لا تخضع لمنطق العلم ولا تتوافر على الحد الأدنى من مستلزماته، هذا الفرز والتحديد مهم في تقديم العلم وفي تقديم المعرفة كلا حسب وظيفته وكلا حسب ما يمكن أن يقدمه للمجتمع والإنسان من حصيلة تطويرية.
ثانيا. إعادة الفرز بين التأريخية الفكرية وبين المحصلة الحضارية للإنسان في تأريخه، الأولى تحرص على تقديم التأريخ أنموذج وتصر على أن الفعل الإنساني قادر أن يتكرر بنفس الصورة دون الأهتمام بالظروف والأحوال، أما المحصلة الحضارية فهي عملية مستدامة تبني على النتائج ولا تهتم بالسيرورة التأريخية إلا من خلال مساهمتها في صنع الحضارة وتطورها، إن التركيز على فكرة كون الحضارة الإنسانية هي مجموع الجهد العقلي البشري وتراكمه ليكون متاحا للجميع ينفي عن الحضارة مفهوم التأريخية، فالحضارة للأن هي فاعلية مستمرة لم ولن ولا تتوقف.
ثالثا. ضرورة بناء وعي متكامل يفرق بين الدين كفكرة فوقية وخطاب عقلي وبين مظاهر التدين والفكر الديني، لأن الأول مجموعة من الخيارات التي تطرح للعقل وتستند في فوقيتها على قدرة العقل على أستيعابها وإدراكها ومن ثم هضمها معرفيا لتتحول إلى قواعد عمل ترسم للعقل طريقة التعبير، أما التدين والفكر الديني فهي أما أنعكاس أو تجسيد أو فهم ذاتي فردي وجماعة لذلك الخطاب، وليس بالضرورة أن يكون الأثنان على مستوى واحد من التمثيل أو التماثل، هذا يقودنا إلى القدرة على الفرز بين رؤية الله ورؤية الإنسان وتجريد التعبد والفكر الديني من القداسة التي حطمت الإنسانية في ذات الفرد المسلم، لأنه مقهور ومجبر على الخلط بينهما على أنهما واحد.
رابعا. العمل على أستراتيجية نفسية أجتماعية تعيد للذات المسلمة تقديرها الحقيقي وأنتشالها من أزمة الثقة التي زرعتها الأفكار التأريخية من خلال تبني فكرة أن الإنسان بطبيعته مذنب، وعليه أن يسعى للتوبة وطلب المغفرة حتى لو كان بريئا من كل ذنب، هذا ما يؤكده البعض من الكتاب الذين خاضوا في البحث عن أساسيات التغيير والتحول، يقول الكتور أحمد نصري من منظري حركة التنوير المعاصرة (إن مهمة المثقف المسلم المساهمةُ الرئيسة في صياغة مشروع التغيير بإحداث ثقافة النهضة، وتأكيد القيم الأساسية والآليات الضرورية وتحرير الإنسان -فرداً وجماعة- من الهزيمة النفسية، وتركيزه على قدراته وإمكانياته في إعادة البناء والنهوض الحضاري المنشود، وإقامة مجتمع إنساني يقوم على العدل والإحسان ونبذ الاستكبار، بتحقيق العمران وتفعيل مشروع الاستخلاف، وتيسير وظيفة التسخير) .
خامسا.التلازم الوظيفي بين الدين والحضارة يحتاج إلى فهم مشترك لقضية الإنسان، وبالتالي عندما نريد أن ننخرط بالمشروع الإنساني العالمي علينا أن ندرك حقيقة هذا الترابط، وجعله من ضمن الأسس والأفكار التي تصوع الأليات التوافقية، فالأنعزال والتقوقع ومحاولة تصوير هذا العمل الإنساني على أساس أنه أنتقلص ومس بالخصيصة الأجتماعية أو مسا بالقواعد الثابته في العقيدة يعد شكلا من أشكال العمل الضدي المعادي لفكرة التغيير والتجديد الحضاري، هذا ليس أستنتاجا عابرة بل هو من ضمن بديهيات السنن التأريخية الحضارية، إلى ذلك يشير الدكتور نصري إلى هذه الحقيقة (إن نظرة مقارنة إلى القواسم المشتركة بين الثقافات الناهضة التي ولدت حضارات شامخة عبر التاريخ تظهر أن الثقافة الناهضة تتميز بخصيصتين رئيسيتين: (1) القدرة على توليد تضامن داخلي يتمثل بتعاون أفراد المجتمع الناهض وتلاحمهم وتكامل جهودهم، و (2) القدرة على تحرير الطاقة الخلاقة المبدعة للفرد والجماعة، وبالتالي تمكينهم من تطوير أدواتهم وزيادة فاعليتهم) .
الخلاصة النهائية التي نستنتجها مما تقدم هي أن صناعة الإنسان الجديد وإخراجه من قمقم التأريخ والتراث وإعادة بعثه كائنا منتجا للمعرفة ، هو الأساس العملي والرئيس في كل آليات التوافق، بغير صناعة هذا الإنسان وتجهيزه بالأدوات التغيرية يبقى حلم التحول والتجديد مجرد أفكار عابثة لا تخرج من بنيتها التنظرية المجردة لتكون الداينمو المحرك لكل أحلام وأمال المجتمعات العازمة على النهضة وريادة المستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش


.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى




.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة