الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: الفصل الرابع 1

دلور ميقري

2018 / 8 / 5
الادب والفن


عندما انسابَ " سيامند " في المركب الكبير، الخائض في مياه الخليج الزرقاء، الفاصلة أوروبا عن أفريقيا، كان الفجرُ الأبيض ما ينفك يتثاءب. وكانت العتمةُ أضحت أكثر نأياً من أرض الأندلس، التي شعرَ كأنه غادرها مع المسلمين واليهود، المطرودين أبداً من مسقط رأسهم. لعل أحد هؤلاء الشبّان، المشكّلين صُحبةً حميمة مذ لحظة انطلاق المركب، تجري في عروقه الدماء الأموية ـ الدمشقية. ولكن الأمرَ الأكثر واقعية، هوَ انضمام " سيامند " لصُحبتهم بيُسر بعدَ تعارفٍ اتّسمَ في بدايته ببعض الحذر والريبة.
" آه، أنتَ إذاً من سورية "، قال له الأطول بينهم ممدداً حرفَ الواو مع يده الممدودة بعود ثقاب مشتعل. ثم عاد الشابُ ليكمل حديثه مع صديقيه بلغة غريبة، تخللها ألفاظ عربية. عندئذٍ حَسْب، فهمَ المسافرُ الغريب سببَ نكوصهم عن سبيل التعارف. وكان قد أمل الخروجَ من لجّة الفكر، حينَ طلبَ من أحدهم عودَ ثقاب كي يُشعل سيجارته. هكذا آبت أفكاره إلى مستقرها الأول، مُحالةً هذه المرة إلى الموقف المُلتبس، المنقضي.
تصادفَ اشتعالُ المنطقة، عقب أزمة الكويت، مع تشتت أفراد أسرة كردية ـ دمشقية. " سيامند "، كان في مبتدأ خدمته العسكرية، الإلزامية، حينَ طارَ أخواه غير الشقيقين إلى السويد بهدف طلب اللجوء. أما أخاه من أبيه الراحل، وهوَ بكرُ هذا الأخير، فإنه قد سبقَ وأودعَ مستشفى الأمراض العقلية. هكذا تعيّنَ على الأم " خَجي "، المعروفة بقوة شكيمتها ورباطة جأشها، أن تغدوَ وحيدةً في الدار مثل شمعة مضمحلّة النور. وهيَ ذي تُبلغ ذاتَ يوم ابنَها الأصغر، العائد في إجازة بعيد إنهائه دورة التدريب الأساسية، بمعلومة لم يكد يستوعبها في الوهلة الأولى: أخواه، اتصلا بها من المغرب قبل قترة قصيرة ويبدو أنهما في ضيافة أسرة مُحسنة.
المغرب! إنه اسمٌ غريب على ذهنه بقدَر بُعده جغرافياً عن المشرق. ولطالما تردد في سمعه المثلُ المصريّ المعروف، " ايه جمّع الشامي عالمغربي؟ "، المبثوث على ألسنة أبطال هذا الفيلم أو ذاك المسلسل. وإنه اسمٌ، صارَ بدوره على ألسنة وسائل الإعلام، عقب أزمة الكويت، وما جدّ من حركات احتجاج في بعض الدول العربية رداً على التدخل الغربيّ. ما لم يكن ليخطر في ذهن " سيامند " قط، أنّ الأزمة نفسها ستتيحُ له التعرّف على المغاربة عن قرب: الحرب، هذه الهُولة الجاثمة على صدر الخليج عقداً من الزمان، لن تلبث أن تورّط جيوشَ المشرق والمغرب سواءً بسواء.

***
الوقتُ كان ما يفتأ باكراً، آنَ خروج السيّدة السويدية إلى الشرفة المربّعة، المتمدد تحتها، مُتناعساً بعدُ، دربٌ ضيّق متفرّع عن الشارع ذي الاسم الملكيّ. من هذا الأخير، كان يصدى مع الفجر ضجيجُ السيارات والحافلات والدراجات النارية، مُشكّلاً ما يُشبه خلفيّة موسيقية لأذان المساجد القريبة. غير أنّ " تينا " تآلفت مع كلّ تلك الأصوات، التي رافقتها بدَورها خلال أسبوع من إقامتها المراكشية.
النسيمُ الربيعيّ، المشحون بأنفاس حديقة الدور الأرضيّ، الكائنة تحت موقف " تينا " مباشرةً، هذا النسيمُ حملَ إليها أيضاً أصوات زقزقة العصافير وتغريد غيرها من الطيور. ربما يتهيأ الآنَ بعضُها لرحلة الإياب إلى سموات الشمال الأوروبيّ، بما فيها اسكندينافيا القصيّة. ولعل الريش الملوّن، المتناثر على أرضية الشرفة، ذكرى من الطيور لصديقاتها الأقرب؛ لورود الجوري وأزهار البوكسيا والخبيزة وتاج النار والياسمين، الملتصقات بتربة الأصص الفخارية والمحرومات من نعمة الأجنحة. كذلك تتبادل الكائنات لعبة الذكرى ـ كما فعلت العروس " باربي " مع ابنة صديقها الراحل، حيث تنام إلى جانبها على السرير معبّقة برائحة الفردوس المفقود.
إفاقة " تينا " المبكرة، ما كانت من نتائج عملها في المستشفى حَسْب، بل ولرغبتها خصوصاً عدم تفويت ساعاتٍ تتمتع فيها بتأمل معالم المدينة. فيما مضى، قُدّرَ لها في موطنها أن ترى بعضَ هذه المعالم مرسومة في لوحات " فرهاد " أو مزخرفة على لسانه. كان ذلك بالطبع قبلَ أن يَطمُسَ رحيلُه المفاجئ، المأسوي، صورةَ المدينة الحمراء في ذهنها بلون الحِداد الأحاديّ. ولكن، أيّ معالم يُمكن الحديث عنها، هنا في حي غيليز: الأبنية الإسمنتية، المنقلب الكثير من شققها إلى مواخير كي تستوعب عدد الرجال الأجانب، المتزايد عقب تحوّل مراكش إلى مقصدٍ مفضّل، سياحيّ واستثماريّ؟ أم الشوارع الأنيقة ذات الإسفلت اللامع كالياقوت، أين تتبختر أحدث السيارات يقودها محدثو نعمة أو عشيقاتهن المثقلات بالجواهر؟ أم المطاعم الراقية، المباح فيها التبغُ والنارجيلة والخمر جنباً لجنب مع التلاعب بفاتورة الأسعار؟
كلّ تلك المعالم المزيَّفة للحضارة، كانت السيّدة السويدية قد رأتها أيضاً فيما مضى خلال رحلتها المغربية، الأولى. آنذاك كانت في مدينة أغادير، في صُحبة شخصٍ لا يقلّ زيفاً. وها هيَ تلوّح بيدها، طاردة الذكرى المقيتة، فيما ترتفقُ حافة الشرفة. إنها على موعدٍ مع مَن تدعوه، " عبد "؛ مع مَن أضحى ( وفق رغبته بالطبع ) بمثابة المرافق. إنه مصطلحٌ غامض، متداول على نطاق واسع في هذا البلد المحكوم بثقافة السيّد والعبد. أول مرة تسنى فيها للشقيقين الدمشقيين معرفة المصطلح ( ريشُ الذكرى يتطاير مرةً أخرى! )، حينَ التقيا " الشريفة " في فيللا الأسرة المُحسنة.. هنالك، أين ستتناول السيّدة السويدية طعامَ الفطور مع " المرافق " العتيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع