الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سجناء الطونا(جان بول سارتر):محاكمة للفرد نفسه

بلال سمير الصدّر

2018 / 8 / 8
الادب والفن


سجناء الطونا(جان بول سارتر):محاكمة للفرد نفسه
يا سكان السقوف المقنعين...انتبهوا يا سكان السقوف المقنعين انتبهوا!
الجميع يكذبون عليكم.ملايين الملايين من شهود الزور.ملايين من شهود الزور في كل ثانية!انصتوا الى شكاوي الناس،لقد خانتنا افعالنا،وخاننا كلامنا وخانتنا حياتنا القذرة.اشهد انهم كانوا لايعون ما يقولون ولايفعلون ما يريدون.أننا ندفع بأننا غير مذنبين.
ولاتصدروا على الاخص احكاما على اساس اعترافات وان كانت موقعه.كان يقال في عصرنا لقد اعترف المتهم فهو بريء اذا.
ايها المستمعون الاعزاء،ان عصري اشبه بمزاد علني،حيث قررت تصفية الجنس البشري سلطات عليا.بدأت بالمانيا حتى العظم-(يصب الشراب في قدح ويشرب) واحد فقط قال الحقيقة:التيتان المهشم عاهد الله أو لم يعاهده شاهد عيان الى ابد الآبدين...لقد مات الانسان وانا شاهده...(من مسرحية سجناء الطونا)
إذا يعلن جان بول سارتر في آخر مسرحياته موت الانسان....
الموت بالتأكيد،وهو موت حضاري واخلاقي في مسرحية كئيبة هدفها نعي القرن العشرين...بل نعي التاريخ الانساني برمته اكثر من تأكيد العنصر الجوهري الوجودي،وبالنسبة لما نعرفه عن سارتر كفيلسوف يستخدم الرواية والمسرحية لشرح المفاهيم والحالة الوجودية-السارترية-تكاد تكون هذه المسرحية خالية من هذا الهدف ويمكن قراءة العنصر الوحيد الواضح للوجودية وهو حرية الاختيار بشكل محايد بل والتغاضي عنه،لتقرأ مسرحية عن انحسار الخيار الاخلاقي تامة حين يكون الانسان معلقا بين العديد من الخيارات افضلها سيء....أي غير اخلاقي
هذا الحوار المكثف الكئيب المشبع بالندم على خيارات الماضي،على الحرية المعلقة تماما على الاختيار،وبهذا يعقب سارتر ان الخيار المتاح للإنسان لن يكون ابدا ذو مسار صحيح،بل ان حرية الاختيار بحد ذاتها هي عبء على صاحبها لأن فرانتر المعتزل البشرية قد أوصله الندم على خيارات الماضي الاجرامي حد الجنون،وليس الخيار اللحظي مقبول،بل ان الانسان هنا مجبر كاره مضطر احيانا أن يتجه نحو الخيار الأسوأ،لأن الخيار معلق بالفرد...فإذا قامت الحرب مثلا وكنت ألمانيا فيجب ان تحارب مع الألمان،على انه خيار سيء على أية حال،ولو خيرت بين التضحية باسير أو التضحية بأخاك فطبعا أنت واقع في خيارين كلاهما فظيع،ولكن القرارالفردي يسقط كل التفكير المنطقي لهذا القرار والتبعيات الاجتماعية ايضا وهذا عين مذهب المسرحية.
وكأن سارتر يرثي الانسان وحالته الوجودية التي جعلت منه أساسا معلق بالخيار،الخيار سيمتاز لاحقا عندما يصبح فرانتر مجرم حرب،بل ويحاكم نفسه عى اساس انه مجرم حرب.
فالحتمية للقرار في النهاية واقعة،وبالتالي فان الوجودية ليست مثالية،بل ليست مثالية على الاطلاق،فالقرار هو الذي قاد الى القلق الذي قال عنه سارتر ذات يوم انا قلق فأنا موجود.
وعندما تنهزم ألمانيا في الحرب ستنقلب الموازين وستصبح الضحية هي الجلاد،وحتى لو كان فرانتر يقول:
أنني احتقر الضحايا الذين يحترمون جلاديهم...
انعزاله عن العالم لمدة ثلاثة عشرة سنة اساسه هذه الجملة،لأن الضحية وقعت ضمن هذا المصطلح بناءا على قرار مسبق مختار من قبل الجلاد،والضحية –وهي وصف اتهامي للشخص الذي جعل منها ضحية-وعند انقلاب الموازين،ستصبح المانيا بعد معاهدة فرساي،على ان التكرار يفرض علينا احترام الجلاد حتى لو أن المانيا اصبحت هي الضحية بناءا على حتمية القرار للطرف الآخر..فالكل ضحايا حتى لو اصبح تصرف أو فعل أو خيار الجلاد مبررا،وبالتالي يصبح التاريخ البشري ضحية للقرارات المحسومة ولكن غير المحسوبة،وهذا هو انتقاد للحروب برمتها ومن ضمنها المأساة التي ارتكبتها الاستعمارية الفرنسية في الجزائر...
الأب-أب فرانتر-كان قد وشى بجندي في مقابل انقاذ حياة ابنه...تتساوى الحيوات-جمع حياة- ولكن حياة الابن هي الخيار الأبوي.
بالضبط هذا ممكن قياسه على التاريخ برمته...
فرانتر يعلق في غرفته صورة كبيرة لهتلر،ويسجل صوته على اشرطة ويعتقد بانه يعيد صياغة التاريخ:
كل شيء يتماسك(التاريخ) كلمة مقدسة.أذا غيرت فيه فصلة واحدة لن يبقى منه شيء
التاريخ هو الحكم...هو الذي سيقدم الحكم لاحقا بكل هدوء والتاريخ مزدوج ايضا لأنه كان ذات يوم محكوم عليه،هي المحكمة التاريخية التي تختار رجالها بعشوائية مطلقة لتقدمهم لاحقا الى المحاكمة تمتلك فعلا كل الحقوق...وكأن فرانتر يقول بأنه ايضا كان معدوم الخيار أمام هذا الاختيار التاريخي المطلق.
لماذا يختار التاريخ رجاله ثم يحكم عليهم...
ثم أن فرانتر يعتقد بوجود سرطانات البحر من حوله،فيتعمق سارتر بالخيال وبالذكرى السيئة لسرطانات البحر القابعة في ذهنه،وربما يكون هذا التصور هو اشهر ما في المسرحية وهو ما دعوته ب(الحالة الشعبية للرؤيا)
يعتبر سارتر سرطانات البحررمزا لشيء غير انساني،وان عالمها متعارض تماما مع عالم الانسان وان محكمة الكابوريا والمحار لشيء مرعب فظيع الى اقصى حد....
ويستطرد سارتر:أنني اعتقد ان محكمة التاريخ تحكم على الناس وفقا لمقاييس لا نعرفها،وقيم لايمكن ابدا ان نتصورها،وربما راى التاريخ ان هتلر عظيم-بالرغم من ان ذلك يصيبني بدهشة هائلة-والمسألة هنا أننا نعرف التاريخ سيحكم على انفسنا وعلى اعمالنا،وهذا شيء مرعب،وعلاوة على ذلك،يقال ان التاريخ في تقدمه يسير بطريقة جانبية،في حركة جانبية اشبه بحركة الكابوريا وقد كان هذا جزءا من فكرتي التي اردت تصويرها...
ولكن لماذا يجعل سارتر من ليني مفتاحا لكل رغبات فرانتر الجنسية وهي في الحقيقة اخته...لماذا يقدم السفاح بالشكل الواضح والمفضوح الى هذه الدرجة...في الحقيقة من الممكن ان اقدم تعليلان:
أولها تأكيد سارتر على حمق الشخصية الرئيسية(فرانتر) صاحب المسؤولية التاريخية أو ربما ليقدم صورة اخرى عن التشتت الذهني للشخصيات،فالشخصيات تسير بقدم واثقة الى الجنون وان كان الجنون واضحا على فرانتر ومن ثم الأب ومن ثم ليني الاخت الصغرى التي تعلقت باخيها المحبوس في الغرفة منذ 13 عاما الى حد الامتلاك.
ان جميع شخصيات المسرحية سجناء في اسر لامهرب منه،رغم ما فيه من تفسخ وعبث...انه عالم مسدود

هذا التكثيف الدرامي الحزين والكئيب عالي المستوى بدا انه بعيد جدا عن الوجودية.
وصفت المسرحية بأنها الأقل من كتب ساتر اهتماما بالفلسفة والاكثر اهتماما بالانسان-ولكن لانستطيع القول ابدا
-وان كان المعنى والمغزى عام- ان سجناء الطونا تقدم محاكمة مفتوحة للتاريخ الجرمي للانسان،بل انها تقدم محاكمة للفرد نفسه.
بلال سمير الصدّر
6/8/2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة