الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيلفي عمار علي حسن في -مكان وسط الزحام-

طارق سعيد أحمد

2018 / 8 / 8
الادب والفن


يبدو أن الحديث في البداية عن عنوان سيرة الروائي والمفكر السياسي عمار على حسن الذاتية، والذي تصدر غلافا وضعت عليه دار النشر "المصرية اللبنانية" صورته لأول مرة شيئ منطقي. حيث أن الكاتب يترفع عن اختيار العناويين التجارية البراقه بشكل عام في رواياته وأعماله الفكرية، وما نحن بصدد سبر أغواره بشكل خاص ـ أي العنوان ـ يحمل صفة النواة أو الجوهر لبدايات ووشائج كان الطفل عمار على حسن يلعب فيها دورا مهما في انتاجها.. كما كان للقدر!.

"مكان وسط الزحام" وهو عنوان رغم بساطته انفصل إلى "مكان" و"وسط الزحام" لفظيا، بينما اتصل بدلالاته النشطة بالماضي، وأُقر في الحاضر بـ آنيته السردية، واستقر في المستقبل بواقعيته الغامضة، ومن يتتبع أعمال الكاتب يعرف جيدا أنه كاتب "مكاني" بإمتياز، إذ يطمئن له، ويرسي على صلابته قواعد أفكاره وينهل من واقعيته المجردة والسحرية ما يدفع البناء الروائي أو القصصي رأسيا وأفقيا للإكتمال والتزين.

وفي سيرته الذاتية أعاد الكاتب اكتشاف "المكان" حيث أنه اسقط كل حمولاته وتركه مجردا، كالمرآة التي كلما تحركت عكست من اتجاهها المعاكس للعالم أطنانا من الأحداث والمعاني والشخوص وقطع من التاريخ.

ويتضح ذلك من اختيار العنوان حيث جاءت لفظة "مكان" معبرة عن مسقط رأس الكاتب بمحافظة المنيا بشمولية، وأحيانا أخرى انكمشت وكثفت منظور الرؤية لتكشف تفاصيل دقيقة في "الغيط"، وأحيانا كثيرة انسحبت على الكاتب بذاته وطبعته بصفات وخصائص المكان، ومن هذا يأتي "وسط الزحام" الجزء الثاني من العنوان "اللغز" ليكتشف القارئ أنه جاء بمعنى العالم أو الآخر في بعض المواضع، وامتد هذا المفهوم منذ نعومة أظافر الكاتب إلى اللحظات الأولى من كتابة سيرته الذاتية


سردية الآن/ نوستالجيا المنطق

"أدخلت نفسي المدرسة".. هكذا بدأ عمار على حسن الأديب الحديث عن عمار على حسن الطفل، كسرت صمتي وشحذ ذهني وابتسمت لهذه الجملة وأظنه ابتسم حينما تجلت صورته في ذهنه وهو يذهب مع "العيال" غير مدرك إلى أين هم ذاهبون مع آبائهم وأمهاتهم متشابكي الأيدي بملابس نظيفة ونعال الـ "الكاوتشوك" يسارعو ذهبية أشعة الشمس في ماراثون صباحي هو الأول من نوعه حيث خدش المجال المعرفي وأصاب الطفل "عمار" بذهول!.

مالبث أن سأل أحدهم إلى أين أنتم ذاهبين؟، لم يفكر للحظة واحدة أو يخشى عصبية والده الغضوب الحنون كان قراره هو قائده ـ ومازال الكاتب هكذا ـ فقط ذهب مع "العيال" إلى المدرسة!.

مشهدية ينطوي عليها ويؤثر فيها مبدأ يقول.. أن الحنين إلى الماضي وحده لا يكفي، بينما المنطق متجلي ويزحف على الجنبات ويطفو على سطح الأحداث ويُعمق اللحظة التي يلتقطها "عمار / الكاتب" من بداية سرديته إلى منتهاها الذي تجاوز "الآنية" واستمر في الزمن بتقنيات دلالاية وتراكيب تراكمت بطبيعة الحال عبر مشوار من المعارف الإنسانية والفكرية.

مغامرة صغيرة ـ وهي أولى المغامرات بلا منازع ـ تحدث في الفصل الدراسي بين "عمار / الطفل" وبين إدارة المدرسة الإبتدائية حينما اكتشف المدرس خلو كشف أسماء الطلبة الجدد من اسم هذا الفتى الذي لا يرتدي الزي المدرسي من الأساس، تفضي إلى خروجه بطريقة دراماتيكية عنيفة من المدرسة كلها ـ يشرحها الكاتب بدرجه لا تقل عن عنفوانها الأول ـ ومن ثم يأخذه عامل النظافة إلى البيت بأمر من الناظر، ويصادف والده "الغضوب الحنون" في منتصف الطريق العائم فوق ترعة صغيرة وعلامات القلق تغزو ملامح وجه ويصاحبه إلى البيت.. ثم يتآمر العالم على "عمار / الطفل" إذ لا أحد من "العيال" يذهب إلى المدرسة في اليوم التالي.. إنها حرب 1973 !.

تشابُك الأحداث وترتيبها الزمني المتصاعد ـ حيث لا مفر من ذلك ـ والضمير المتكلم والتقنيات السردية شكلت القالب أو الهيكل الخارجي للسيرة الذاتية وأوقفتها على قدميها بين السرديات الأخرى ـ للكاتب وغيره ـ بينما صُهرت سوائل الماضي ببطء في هذا القالب السردي الأقرب لرواية مقطرة، وكأن الكاتب أخرج من ذاكرته تاريخه الذاتي على شاكلة كتل من معادن لا شكل هندسي محدد لها وأخذ يُصهر قطعة قطعة بأدوات صهر صًنعت وطورها مرور الزمن ومن ثم سكبها في مكانها المحدد في سيرته، حيث أن الكاتب تخلص من الزوائد النفسية المصاحبة للأحداث والترهل اليومي والسخافات والنواقص قبل أن يمسك بتاريخه ويحفره في ذاكرته، ولم يتخلص من كل تلك الأمور أثناء الكتابة أو التحضير في المسودات الأولى.. هذا ما يطلق عليه الأصالة؟

ذاتية السيرة الذاتية

لماذا السيرة الذاتية؟.. لتثبيت الذات في الماضي على قواعد الأحداث كما هي أو المفتعلة منها والتي يلوي الكاتب فيها رقبتها لتعترف ـ أمام القارئ ـ بوجوده المؤثر!، أو الكاذبة منها، في نهاية الأمر هي محاولة ناجحة جدا لقول "أنا" بمنتهى الأريحية، وهذا الأمر مشروعا بل وأعتبره ضرورة إنسانية بحته وأحرض الجميع على كتابة سيرتهم الذاتية ـ الجميع بمعناها الواسع ـ ليس فقط على قواعد الأحداث الحقيقية بل بالأحرى على قواعد إنسانيتهم الصادقة وهي الفرصة العظيمة التي تتيح لنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا أو على أقل تقدير الإنساني منه كهذه السيرة التي انتقت أحداثها بدقة فائقة من بين أكوام اليومي المكرور بحكم البيئة الجغرافية صاحبة السُلطة الأولى.

فقد جاءت الكتابة سينيمائية تسعى لشق كتل الظلام المحيطة بمصرية أزمات إنسانية تقع في ريفها ـ وأماكن أخرى ـ المترامي جغرافيا وثقافيا خارج السياق العام "المركزية" لهذا الدولة التي لابد من أن يتعجب العالم لها، وخصوصا الباحثين في الشأن الإجتماعي ليس فقط لخصوصية أزماتها ومدى تعقيدها وتشابكها مع حياة الفرد اليومية بينما التعجب وعلامات الدهشة تطفو على الوجوه حينما نكتشف في تفاصيل السرد أن كل الشخوص المحيطة بـ "عمار / الطفل" أبطالا حقيقيون خطاهم يترك أثره على أرض الواقع لا في ذهن المتلقي كما تفعل أبطال الروايات ولا يذكرها أحد!، يكمن هنا شيئ ما قصد ما وراء تلك الحواديت المتلاحقة سرديا وجاثية في الخلفية حُبكت بـ "خبث حميد" كخبث الآباء حين يحاولون لفت انتباه أبنائهم لشئ خارج مجالهم البصري أو ضروريات حياتهم ورغباتهم ما أطلق عليه هنا مجازا رسائل "عمار / الكاتب" الواعية

من حين إلى آخر ينفتح كادر الكاميرا بإتساعها على حياة الكاتب أو هكذا يشعرك السرد كلما داقت حدقة عين الكاميرا قبيل أن تبث قطعة من مسيرة تخرج دفقات من الإمتاع البصري رغم الشجون المطل برأسه بين الفقرات التي حملت على متنها لحظات اليأس والإصرار والجوع والصدمات والحب المفاجئ والغربة وحلاوة الرجوع ومعاني أخرى قفزت طوال الرحلة منذ الطفولة التي اتكئ على رؤيتي هذه عليها لما وجدته فيها من أثر بالغ انسحب بشكل أو بآخر على حياة الكاتب الكلية


وتحققت بشكل جلي أثناء فترة قضاء الخدمة العسكرية ـ مثلا ـ حيث الصحراء والعزلة الاجتماعية والتي أظهرت رسوخ مفاهيم أرستها "أم" ـ بألف رجل ـ خلال تربية الصبي الذي يبدو مطيعا وعنيدا في نفس الوقت والتي يذكر منها أنها عاقبته حينما دخل عليها يحمل في يده حزمة من البصل الأخضر وبعد تحقيق بسيط معه اعترف الصبي بأنه خلعها من غيط أحدهم وما كان عليها إلا أنها أمرته أن يأتي بموقد ومعلقة وهو أمامها أشعلته ووضعت فوقه المعلقة حتى احمرت وطلبت منه بسط يده أمامها وإذ بها تضعها على اليد التي خلعت البصل الأخضر حتى لا يفعل فعلته ـ العفوية ـ مرة أخرى.. وأظن أنها تؤلمه وتشتد حُمرتها إلى يومنا هذا كلما تذكر!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي