الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: الفصل الرابع 3

دلور ميقري

2018 / 8 / 8
الادب والفن


أنفاسه، خرجت حرّى مرهَقة، شبيهة بدفعة المسافرين هذه، الدالفة تواً من القطار: " إنها مراكش، أخيراً! "، قالها سراً ما دامَ بلا صديقٍ يَسمعُ صوتَه. ما كاد يستردّ أنفاسه، هنالك عند مدخل المحطة، إلا ورجل يندفع باتجاهه في خفة وكأنما لغاية تأكيد الصداقة الإنسانية. كون الرجل سائقاً، لم يُحبط " سيامند " البتة. إذ ما أن نظرَ الأول إلى الرقعة، المدوّن عليها عنوان شقة الإيجار المطلوبة، حتى تمتم بلهجة البلد العَسِرة على الفهم: " إقامة ابن خلدون؟ أوه، إنها قريبة جداً! في وسعك الذهاب إليها مشياً ". فلما عاين وجومَ الشاب الغريب، المتمثل في نظرة قانطة إلى حقيبة السفر الكبيرة، فإنه استدرك قائلاً: " لا بأس، ولتدفع لي ما تشاء ولو درهماً واحداً! ". ارتسمت نصفُ ابتسامة على وجه الشاب المتعب، نصف النائم. وجدَ نفسه مرة أخرى على سفر، يكاد يحسّ بشعور الرحالة المغربيّ، " ابن بطوطة "، العائد إلى بلده بعد قرون عديدة مُستعملاً كل وسائل النقل الحديثة؛ الطائرة، السفينة، القطار.. ومن ثم السيارة، المنطلقة الآنَ بسرعة شهابٍ أخرق، مخترقة شوارعَ مظللة بأشجار النخيل والليمون والزيتون؛ سيارة، تستدير بشق الأنفس في ميادين مزدحمة، متفجّرة نافوراتها بمياه فاترة، لتتهادى أخيراً في دربٍ ضيق تكاد تتلاصق على جانبيه الأبنية الأنيقة والشاهقة.
السائق، وكان رجلاً فاتح البشرة ذا ملامح متناسقة وبشوشة تمنحه سنّاً على أعتاب الأربعين، لم يستعمل خلال الطريق بوقَ السيارة كيلا يُقلق الزبونَ المُرهق. ولكنه خرجَ عن الصمت، ليستأذن في إشعال سيجارة. عند ذلك، تذكّر " سيامند " بدَوره حاجته إلى التدخين: " تفضل، وجرّب السيجار لو شئتَ! "، قال لسائق العربة العتيقة وهوَ يقّدم له اللفافة الفاخرة. أمسك الرجلُ بالسيجار يقلّبه بين أصابعه، فيما كان المُضيّف يُخرج من جيبه قداحةً مذهّبة وكما لو أنه ودّ مضاعفة الشعور بالعَظَمة. على أثر نفث السائق لباكورة الدخان الثقيلِ المَحْمل، دهمته غصّة خفيفة. ثم عاد إلى سؤال الشاب، شاملاً هيئته بنظرة مقتضبة: " حضرتك من سورية، إذاً؟ "
" نعم.. "
" فأنتَ مقيمٌ في أوروبا، على ما أعتقد؟ "
" لا، أنا قادمٌ رأساً من الشام ولكن عن طريق اسبانيا "
" الشام؛ يا لها من مدينة عظيمة، شبيهة بفردوس الله! "، هتفَ السائقُ فجأةً متهللَ الأسارير. رمقه " سيامند " بنظرة مليّة من عينيه الخضراوين، الداكنتين. استمرَ الآخرُ بالقول مع ابتسامة متخابثة نوعاً " لا تعجب من كلامي، فإنني أعرفُ دمشق بشكلٍ جيد. لقد جئتها أول مرة عسكرياً، وذلك في خلال حرب عام ثلاث وسبعين.. "
" أنت؟ كنتَ مع الجيش المغربي على جبهة الجولان؟ "، قاطعه الشابُ الغريب متقمّصاً شعورَ الدهشة. هزّ رأسه المحاربُ السابق، مُؤكّداً على الطريقة المحلية: " أييه..! ". ثم تساءلَ عما لو كان الشاب يذكر تلك الحرب. فأجابه " سيامند " ضاحكاً، بأنه كان آنذاك في الثالثة من عمره. تابع السائق ذكرياته، كاسياً نبرته بلحن حنين: " أما أنا، فلقد تجاوزتُ الأربعين. بعد عقد من السنين تقريباً، رجعتُ لمدينتكم كتاجر ملابس نسائية، كونها مشهورة بأسواقها وقماشها وصنعتها. كذلك زرتُ حلبَ واللاذقية، فضلاً عن بعض القلاع الأثرية ". وكانت الرحلة قد تناهت إلى منتهاها، ثمة عند مدخل بناء حديث من ستة أدوار. تأمل الشابُ اللوحة المعدنية، المنقوش عليها بأحرف عربية بارزة، " إقامة ابن خلدون "، بينما السائقُ يُخرج الحقيبة الكبيرة من صندوق السيارة. أراد هذا الأخير، مرتبكاً، ردّ الورقة المالية ذات العشر دولارات. إلا أنّ " سيامند " عادَ وأسقط المبلغ في جيب الرجل، قائلاً له وهوَ يربت على كتفه بود: " سأقيم هنا في نفس الشقة، التي سبقَ لشقيقيّ الراحلين أن عاشا فيها قبل نحو خمس سنين. وإنني أعتبركَ بمثابة أخ، متمنياً أن توافيني في الغد لو أمكنك ذلك ".

***
مَن تدعوه السيّدة السويدية، " عبد "، المتعهّد صفةَ المرافق تارةً والسائق تارةً أخرى، ظهرَ لعينيها متأخراً قليلاً. من فوق شرفة شقة الإيجار، المعتلية الدورَ الثاني للعمارة، تابعت باسمةً سيارة " بيجو " المتهالكة وهيَ تحاول التملّصَ من عربة " كوتشي "، مزيّنة كعروس، تسدّ الدربَ الضيّق بقعقعة حوافر فرسَيْها وصليل عجلاتها. بينما ضجّة كلا وسيلتي النقل تصدى في سمع " تينا "، كان عقلها ينبضُ بفكرةٍ عن هذا العالم المراكشيّ المدهش، المتداخلة فيها البدائية والحداثة بسهولة ويُسر سطوع قوس قزح في سماءِ صيفٍ مُعَمّر وعريق الجفاف.
" مراكش المزيَّفة، بحَسَب تعبيركِ يا سيّدتي، تنمو بسرعة خارجَ الأسوار مُكتسحةً عَرَصاتِ النخيل والزيتون، وكذلك القيمَ والعادات "، علّقَ الرجلُ على فكرتها فيما كان يرتشفُ قهوته. خشيةً من تماديه في الفلسفة، راحت تلقي نظرة قلقة على ساعة يدها. الحق أنّ قلقها جدَّ مع صعوده إلى الشقة، على الرغم من إشارتها له من فوق الشرفة بالانتظار عند باب السيارة. لقد نسيت عندئذٍ أنه ليسَ سائقاً لديها، أو مرافقاً. وكان عليه أن يُذكّرها بذلك، دلالياً على الأقل، حينَ بادرَ إلى ارتقاء الدرج ومن ثمّ مداعبتها بالسؤال عما إذا كانت تناولت قهوةَ الصباح بدونه. لم تكن مرتابة في مَسلك الرجل، بأي شكلٍ من الأشكال. ولكن كونها متوحّدة في الشقة، ربما جعلها تشعر بشيءٍ من الضيق والحَرج.
هكذا تملّصت أخيراً من ذلك الشعور، آنَ اصطحبها " عبد الإله " في سيارته باتجاه فيللا الأسرة المُحسنة، غير البعيدة عن الشقة. سألها أثناء الطريق، عما ستفعله بعد الفطور. ردّت فيما كانت تتفحص سحنتها في مرآة حقيبة زينتها، الجلدية الدقيقة الحجم: " سألتقي سيامند في كافيه دو فرانس. عليّ أن أعرف منه ما إذا كان سبب وجوده في مراكش، المعلوم، له فائدة بالنسبة لمهمّتي أم سيعارضها ". تململ الرجلُ في مقعده، وراحَ بدَوره ينظر إلى صورته المرتسمة على المرآة الصغيرة، الخاصّة بالسائق. ثم أنتقل بعينيه إلى ساعة يده، قبل أن يُعقّب وهوَ يتثاءب: " لن أكون حاضراً بالطبع، طالما أنكما اتفقتما على الموعد بدوني! ". لقد خرجت الجملة من فمه، متكلّفة متصنّعة، جديرةً بممثل ناشئ على مسرحٍ طلابيّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن