الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مطلب الحرية بين النظر العقلي والفعل الإرادي

زهير الخويلدي

2018 / 8 / 9
حقوق الانسان


يتطلع الكثير من الناس إجادة الاختيار في المواقف والأشياء والأفعال وإلى التمتع بالحرية، ولكن لا أحد يدرك قيمتها ولا يفهم معناها إلا حينما تضيع منه ويخسرها في معركته من أجل المحافظة على الوجود. فهل يمكن للناس أن ويحكموا ويصدروا قراراتهم ويختاروا أفعالهم دون إكراه أو ضرورة أو ضغط؟
هذا المشكل الفلسفي يطرحه الفكر النظري أمام العقل العملي ويعثر عليه التجريبيون في خضم أبحاثه العلمية ويعيشه الوجوديون أثناء وضعياتهم الحياتية ويدافع عليه الشخصانيون ويناضل من أجله الجدليون.
لا يمكن لتصور الحرية في الفلسفات العقلانية أن تكون سوى مسار تحرر وعملية تحرير وتجربة انعتاق وخلاص، ويتمثل التحرر في بذل الجهد للمرور من حقل الضرورة النفسية إلى حقل الضرورة المنطقية. كما لا يخسر المرء فقط هذه الضرورة بل لا يوجد مكانا الحرية ولا يغير المرء سوى المستوى حيث يخرج من ذاته لكي يندرج في الضرورة الكونية ويصبح حرا حينما يتخلص من الخارج ويعود إلى ذاته.
يبدو أن الحرية تكون مفهومة عندما يتم إدراكها بالخصوص ضمن النسق الكوني حيث يتقوم النظام الثابت للكون من محايثة العقل الكلي له لما يقوم بتحديد قبلي وبرمجة تصميم تتالي جميع الأحداث وكل الوقائع.
ينحدر المرء إلى مرتبة العبد ويخسر حريته عندما تتغلب عليه القوى الخارجية والانفعالات والأهواء الذاتية وتتقاذفه العواطف الجارفة والمشاعر السلبية مثل الخوف والألم والحزن وتغترب طبيعته العاقلة.
يصبح الإنسان حرا عندما يفعل من خلال توظيف طبيعته الخاصة وتفعيل ملكة العقل في ادراك ما يحيط به وفي الاقتدار على فهم النظام العقلاني للكون والتمييز بين الأفعال القادر عليها والأخرى المقدرة عليه.
يصدر من هذا التصور الرواقي للحرية تصورا مبسطا للأخلاق يقوم على اللامبالاة والاتفاق مع الطبيعة والافتتان بالكون وتمجيد النظام والولع بالنافع وتمجيد وتوقير الترتيب الكوني للموجودات ضمن العالم.
من هذا المنطلق يجوز للفلسفة العقلانية أن تقر بصورة قطعية أن الشعور الداخلي بالحرية هو مجرد وهم ناتج عن جهل البنية الداخلية للواقع والعلل الحقيقية للفعل والقوانين الطبيعية التي تؤثر في حركة الأجسام.
أن نتدرب على معرفة النظام الرياضي والقوانين العقلية التي تتحكم في الكون هو أن نعترف بالماهية التي ترد إليها طبيعتنا والخصائص المادية والمعنوية التي تتشكل منها ذواتنا وأن ننمو فعليا على درب الحرية.
الإنسان الحر هو الكائن البشري الذي أنجز ذاته من خلال السيطرة على ذاته وامتلاك ناصية نفسه بنفسه وبالتالي هو ذلك الذي تفادى إتباع الأهواء المضطربة وشطط الغرائز واستبداد النوازع وجموح الرغبات.
هكذا ينتقل المرء من كائنا منفعلا وموجودا بصورة سلبية وفي وضعية تأثيرية إلى كائن فاعل وموجودا بصورة ايجابية وفي وضعية إبداعية ويجعل من الضرورة الكونية امتلاء للجوهر الفرد وأرضية خصبة تنمو فوقها نبتة الشخصية المتدفقة و تتفتح زهرة الحرية بالنسبة إلى الكائن وتتحقق الإرادة الصلبة للبشر.
لكن كيف يساعد جهد المعرفة على الانتقال من نظام العبودية الى نظام الحرية ويفك الارتباط بالانفعالات ويمنح الكائن القدرة على مقاومة الحتمية النفسية والضغوطات الخارجية ويتيح رسم درب جديد للتحرر؟
يرفض معظم الباحثين في الحقول العلمية وجود الحرية والاختيار والفعل الإرادي ويقولون بالضرورة الشاملة ومبدأ السببية والحتمية الكونية والحركة الاضطرارية ولذلك سحب العلم في القرن التاسع عشر النتائج التي توصل إليها كل من الفيزياء والكيمياء على كل المجالات الأخرى ووصفوا الحرية بأنها مجرد مصطلح ذاتي لا وجود موضوعي له ولم يتركوا له مكانا في النسق المعرفي للطبيعة والمجتمع والعقل.
بعد ذلك ظهرت بحوث جديدة في مجال العلوم الدقيقة تخص الأعضاء الحية تفند آراء السلوكيين وأفكار الوضعيين وتبين بأن القوانين الطبيعية هي في حد ذاتها جائزة وتقريبية وتخضع للعرضية والحدوث.
لقد تمكن هذا التجديد العلمي من إثارة مفارقة تتضمن تناقضا حادا تتمثل في القول من جهة بأن الإنسان جزء من الطبيعة ولذلك هو خاضع بالضرورة للحتمية ولا يتمتع بالحرية ومن جهة ثانية تبين أن قوانين الطبيعة نفسها غير محددة وحادثة وتقبل التجويد والتطوير وأمكن بالتالي إنقاذ مبدأ الحرية الإنسانية.
من جهة مقابلة لم يعد مفهوم الحتمية يعتبر بنية موضوعية للطبيعة وإنما مجرد مبدأ موجه للبحث العلمي وفرضية عمل يخضع وفكرة ناظمة تخضع للتغيير والتصحيح من طرق التقدم العلمي ويجوز تجاوزها.
لقد تم تعزيز هذا التوجه من طرف علم نفس الأعماق لما كف عن تمجيد الحتمية النفسية وقام بتفسير الحرية بأنها انبثاق للوعي عبر أفعال لاواعية تم الإعداد لها بصمت ويجهل الإنسان التحفيز المؤدي إليه ولا يعرف أن الطبع هو الذي يتحكم في ردود أفعاله ومزاجه هو الذي يؤثر على تصرفاته ويوجه ذوقه.
يعتقد المرء أنه قادر على إصدار القرار بحرية حول أفعاله وبالتالي أن يكون أصيلا في حين أن أسلوبه في الحياة وأفكاره نفسها هي محددة بواسطة تاريخه الثقافي وماضيه الطفولي وتكوين طبعه وبنية مزاجه.
إن تراكم الحتميات والضرورات التي يكتشفها العلم لا يحول دون ملاحظة إمكانية التحرر من طرف الكائن البشري من الطبع والمزاج والدوافع اللاواعية وبلوغ درجة مواتية من الحرية لكي يفعل وينتج.
إن الوعي بالذات يتحقق بتوسط المعرفة بالذات والمعرفة بالعالم الخارجي والتحليل النفسي للعادات والشخصية ويتجه نحو المستقبل ويعمل على تغيير عالم الحياة ويلتزم بمشروع يحرص على القيام به.
في هذا الإطار ماهي مختلف صيغ الحرية؟ وما علاقتها بالتاريخ؟ وهل تعارض الأديان التمتع بها؟ وماذا لو وجد قانون فوق البشر يجدر الاهتداء وفقه؟ الى أي حد يتحمل الناس مسؤولية صنع مصيرهم بأنفسهم؟
ثمة منهجان كبيران يتم بلورة واقع الحرية عبر السير فيهما ويتمثل الأول في فلسفات التاريخ والمجتمع والجدل والنقد والوعي بالعالم بينما يتحرك الثاني ضمن تجربة الوعي بالذات وبالغير وعلم النفس العقلي.
لقد انقسمت الأديان حول مسألة الحرية وظهرت عدة الأزواج المفهومية مثل القضاء والقدر والجبرية والقدرية والتسيير والتخيير والكسب والفعل والتحسين والتقبيح والخلق والصنع والمسايرة والمعاندة.
إذا كان الإنسان متناهي وخطاء وغير معصوم ويسقط كثيرا في الذنب والإثم والزلل فإنه يستطيع إصلاح ذلك بالعمل الأخلاقي وفعل الخير والإحسان للغير والالتزام بالواجب والإرادة الطيبة والنية الحسنة والبر.
بهذا المعنى يجوز اعتبار الحرية هي الحركة التي يقوم بها الكائن لكي ترتقي به من وضع محدودية الأنا أمام العراقيل والضغوطات والحتميات إلى منزلة إنسانية شريفة تتميز بالاستقلال والتنمية الدائمة للقيم.
هكذا تمر الحرية بجملة من المراحل حيث تبدأ بالسلبية والتلقائية والانعطائية واللامبالاة وعدم الاكتراث والاستمتاع باللذة وتتحول إلى الاختيار والقرار والحكم وإعادة خلق القيم وتنميتها والالتزام بها عمليا.
من وجهة نظر فلسفة التاريخ لا تتحقق الحرية إلا بعد صراع شاق مع ما يضادها وخاصة أشكال العبودية والاغتراب والقيود المادية والسلاسل الاجتماعية التي تشل حركة الإنسان ولا يل إليها المرء إلا في إتمام حركة التاريخ دورتها وبلوغ الوعي المطلق وتطبق العقل مع الواقع وصار العالم حقيقي والحقيقة عالمية. لم يكن العبد شخصا حرا بل لم يحصل على الوعي بكونه في وضع وجودي يتصف بالعبودية ولا يرتقي إلى الحرية سوى بالانتصار في معركته مع غيره من أجل السيادة على العالم وتجسيد ذلك في التاريخ عن طريق الانخراط في المؤسسات السياسية واحترام دولة القانون وبالتالي لم يتعلم المرء كيف يكون حرا بل فاز بالحرية حينما تمكن من الانتقال بالوعي من اليقين الحسي الى حال الوعي الشقي إلى المعرفة بالذات.
من هذا المنطلق يتمخض عن صراع الإنسان مع الطبيعة عن طريق العمل ومن صراعه مع الإنسان من خلال النضال السياسي افتكاك موقع في الواقع الاجتماعي وانجاز الثورة على التراتبية الطبقية للمجتمع.
بطبيعة الحال لا تتمثل الحرية في المرور من مستوى الجهل بالقوانين الطبيعية إلى المعرفة بها والسيطرة عليها وإنما التخلص من الأنانية الفردانية والاندراج ضمن الضرورة التاريخية والتضحية من أجل الناس. أليست الحرية بهذا التمشي التاريخي هي الوعي بالضرورة؟ ألا تتطلب تحدي القدر لكي يصنع المصير؟
كاتب فلسفي













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لازاريني: المجاعة -تحكم قبضتها- على قطاع غزة • فرانس 24


.. مجازر وجرائم مستمرة وتفاقم الوضع الإنساني في غزة




.. «أكسيوس»: عباس يرفض التراجع عن التصويت على عضوية كاملة لفلسط


.. الأمم المتحدة: المجاعة التي يواجهها شمال غزة معقدة جدا




.. حملة اعتقالات في إيران لمنتقدي الهجوم على إسرائيل.. ما الاته