الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا نعني بالمجتمع الاشتراكي؟

جون مولينو

2021 / 12 / 23
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ترجمة: وائل جمال
العنوان الأصلي للكراس: المجتمع الاشتراكي المقبل

مقدمة

ما الذي ستكون عليه الأمور بعد الثورة؟ كيف سنتعامل مع هذه المشكلة أو تلك في إطار الاشتراكية؟ كيف سيتم تنظيم أ وب وج من الموضوعات؟ هذا النوع من الأسئلة عادة ما يوجه إلى الماركسيين. ويجب أن يقال إن الإجابات المعطاة كثيراً ما تكون مبهمة. ومن المؤكد أن كتابات ماركس في هذا الموضوع كانت هزيلة بالمقارنة بتحليله الضخم البارز للرأسمالية، وكتاباته في التاريخ والسياسة المعاصرة. وعلى الرغم من أن ما اضطر ماركس لقوله في هذه القضية احتوى كل ألمعيته المعتادة، وشكل الأساس لكل التفكير الماركسي اللاحق حول الاشتراكية، يبقى الحال هو أنه تعامل مع المشكلات الأساسية فقط في أكثر أطرها اتساعا وعمومية.

قبل ماركس، كانت المدرسة الاشتراكية المسيطرة هي مدرسة “الطوباويون” أمثال سان سيمون وفورييه في فرنسا وروبرت أوين في إنجلترا. تخصص الطوباويون في رسم برامج وخطط ضخمة للتنظيم المستقبلي للمجتمع الاشتراكي، لكنها كانت ينقصها أي إستراتيجية لتحقيقها وتنفيذها غير مناشدة النوايا الطيبة للطبقة الحاكمة.

كان ماركس مصمما على التفرقة بين اشتراكيته العلمية وبين أحلام يقظة الطبقة الوسطى تلك. من هنا أكد على أن الاشتراكية يمكن أن تتحقق فقط انطلاقا من المتناقضات الموجودة فعلا في الرأسمالية – فوضى الإنتاج الرأسمالي، والعداء بين الطبقة العاملة والبرجوازية. ووضع هذا عنده حدودا صارمة للتنبؤ فيما يخص تنظيم المجتمع الاشتراكي، وهي حدود تستبعد أي محاولة لصياغة مخطط تفصيلي. وفي الأساس تبقى هذه الحدود فاعلة اليوم.

فبما أن الاشتراكية تنبع من الرأسمالية كنتيجة لنضال ناجح ضدها بقيادة الطبقة العاملة، فإن الإجراءات المحددة التي ستتخذها الحكومة الاشتراكية الثورية، ستعتمد بشكل واضح على الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في وقتها.

ولا يمكن أن نعرف مقدما أي حال ستكون عليه هذه الشروط، بالقدر نفسه الذي لا يمكن به أن نتنبأ باليوم الذي ستقع فيه الثورة. أيضا، بما أن المغزى الأساسي للثورة الاشتراكية هو وضع المجتمع تحت السيطرة الواعية للطبقة العاملة، فإن هناك أسئلة عديدة لا جدوى من محاولة الإجابة عليها مقدما، ويجب أن تترك ببساطة للعمال لاتخاذ قرار بشأنها في المستقبل. على سبيل المثال، ليس هناك معنى لمحاولة رسم خطط الآن للتصميمات السكنية في المجتمع الاشتراكي. فالأمر كله سيعتمد على نوع المنازل التي سيختار الناس العيش فيها في المستقبل.

برغم ذلك تتبقى أسئلة. إذا كان للناس أن يناضلوا من أجل الاشتراكية، فإنهم يريدون أن يعرفوا ما الذي سيناضلون من أجله. وبشكل خاص يصبح هذا صحيحا مع ازدياد الأمر غموضا بالسحب التي تحجب الرؤية التي سببتها الظاهرة الستالينية في روسيا وأوروبا الشرقية والأنظمة الأخرى المتعددة حول العالم التي ترفع راية الاشتراكية.

هناك حاجة في الدعاية الاشتراكية للإدانة الغاضبة للرأسمالية. وهناك حاجة للتحليل المتماسك لاستراتيجية وتكتيك حركة العمال. لكن هناك حاجة أيضا للإلهام، لرؤية للهدف الذي يجعل للنضال قيمة.

أكثر من ذلك، ففي جوانب معينة نحن مؤهلون أكثر من ماركس للإجابة على هذه الأسئلة. هناك مائة سنة مرت من التطور الرأسمالي الذي أعد الأرض بشكل غير مقصود للاشتراكية بطرق متعددة، وجعل من الأسهل تصور كيف يمكن تحقيق أهداف بعينها وضعها ماركس من حيث المبدأ، مثل تحقيق الوفرة المادية أو التغلب على تقسيم العمل.

أيضا نحن نمتلك ميزة قرن من النضالات العمالية. من الصحيح أننا إلى الآن ليس لدينا التجربة الاشتراكية الكاملة بالمعنى الماركسي، لكن لدينا تجربة الأعوام القليلة من الثورة الاشتراكية في روسيا، وإخفاقات متعددة كانت قريبة للغاية من تحقيق النصر (الثورات العمالية غير الناجحة في أسبانيا 1936 أو المجر 1956) واحتوت على بذور الاشتراكية.

لهذه الأسباب سيحاول هذا الكراس تحديد الرؤية الماركسية للمجتمع الاشتراكي المقبل ببعض التفصيل. وأنا أؤكد على كلمة “سيحاول” لأنه بالإضافة إلى الأخطاء الشخصية والمزاجية التي يمكن أن تتسلل إلى تفسيري، فان هناك شيئا مؤكدا، هو أن واقع الاشتراكية سيختلف بشكل ملحوظ عن أي توقع ممكن له. بالرغم من ذلك فان المشروع لا يبطل – أن نحاول إظهار كيف يمكن للبشرية بشكل محدد ، عبر الاشتراكية، أن تزيل المشكلات الرئيسية التي تكبلها في ظل الرأسمالية، وأن تحصل على الحرية الحقيقية.

هناك نقطة مبدئية أخرى تحتاج للتأكيد. فالاشتراكية أو الشيوعية (إذا استخدمنا اصطلاح ماركس الأصلي) ليست حالة اجتماعية جاهزة الصنع يمكن الوصول إليها في اليوم الذي يعقب الثورة. بل هي عملية تاريخية.

هذه العملية تبدأ بتحطيم الدولة الرأسمالية بالثورة العمالية، وتكتمل فقط عندما يتم تحقيق المجتمع اللا طبقي بشكل كامل على مستوى عالمي؛ عندما يدير الجنس البشري كله أموره بشكل جماعي بلا عداوات طبقية أو صراع طبقي.

وبين الإطاحة بالرأسمالية وتحقيق المجتمع اللا طبقي، هناك فترة انتقالية سماها ماركس “ديكتاتورية البروليتاريا”، لكن يمكن تسميتها ببساطة سلطة العمال.

عندما نناقش المستقبل الاشتراكي، من الضروري أن نضع هذا نصب أعيننا، لأن ما يمكن عمله وما سيتم عمله في هذه المرحلة الحاسمة – عندما تكون الطبقة العاملة (رغم كونها في السلطة) مكبلة بالصراع مع البرجوازية المنزوعة سلطتها – لا يماثل بأي شكل من الأشكال الإمكانات التي تتفتح عندما تصبح البشرية أخيرا موحدة بشكل كامل.

1 ـ انتزاع السلطة السياسية

إن المهمة الأولى والأكثر إلحاحا التي تواجه ثورة عمالية ناجحة هي تعزيز حكمها والدفاع عن نفسها ضد الثورة المضادة للرأسمالية. وهذا أمر حاسم – في الحقيقة مسألة حياة أو موت – لأن تجربة كل الثورات، من كوميونة باريس فصاعد، ترينا كيف تكون البرجوازية مستعدة للجوء لعنف لا يرحم من أجل الحفاظ على سلطتها أو استرداد سلطتها التي فقدتها.

ومن أجل تحطيم المقاومة الضارية للطبقة الحاكمة المسلوبة (والمدعومة من باقي الرأسمالية العالمية)، على الطبقة العاملة أن تخلق دولتها هي. هذه الدولة، مثل أي دولة أخرى، ستكون تنظيما مركزيا يمارس سلطة قصوى في المجتمع ويمتلك تحت تصرفه قوة مسلحة حاسمة.

لكن هنا ينتهي التشابه بين دولة العمال الجديدة والدولة الرأسمالية المنتهية. فقوات الرأسمالية المسلحة القديمة وشرطتها ستكون قد سُرحت وحُلت – في الجوهر ستكون بالفعل في حالة انهيار إذا كان للثورة أن تكون ناجحة، وسيتم استبدالها بتنظيمات من العمال المسلحين، أي ميليشيات عمالية.

وغالباً ما سيكون تأسيس هذه الميليشيات قد تم بالفعل في مجرى أحداث الثورة. ومن المحتمل أنها ستكون نابعة من وستبقى ذات صلة بالمصانع وأماكن العمل الرئيسية. وما لم يكن على الثورة أن تخوض حربا أهلية شاملة أو تواجه غزوا، فإن الخدمة في الميليشيات ستكون على أساس تعاقبي من أجل تدريب ومشاركة أكبر عدد ممكن من العمال في الدفاع المسلح عن سلطتهم، ومن أجل التأكيد على ألا تفصل الميليشيات نفسها عن الطبقة العاملة ككل.

ستكون الميليشيا أيضا مسئولة عن تطبيق القانون والنظام اليومي، وهي مهمة – بسبب جذور المليشيا في المجتمع – ستكون أسهل وأكثر كفاءة بالنسبة لها مقارنة بالبوليس الرأسمالي.

سيتم انتخاب كل الضباط في الميليشيا، وسيخضعون لإعادة انتخاب دورية وستُدفع لهم أجور العمال المتوسطين. وهي مبادئ ستنطبق على كل موظفي الدولة الجديدة.

على أي حال، فان المؤسسة الرئيسية في الدولة الجديدة لن تكون الميليشيا العمالية، بل شبكة من المجالس العمالية. ومجالس العمال هي أجهزة إقليمية من المندوبين المنتخبين من أماكن العمل، والتي بدورها سترسل مندوبين إلى المجلس العمالي القومي. وهذا الأخير هو الذي سيمتلك أعلى سلطة في البلاد وستكون الحكومة والميليشيا وكل مؤسسات الدولة الأخرى مسئولة أمامه.

وستعمل الأحزاب السياسية المختلفة، طالما أنها تقبل الإطار العام للثورة، بحرية داخل المجالس، بينما يشكل الحزب الذي يحوز تأييد أغلبية العمال الحكومة. وغالبا ما سيكون هذا هو الحزب الذي قاد الثورة.

والسبب الذي يمكننا من التنبؤ بهذا الدور للمجالس العمالية ليس أنه قد تم الإلهام به من قبل ماركس (في الحقيقة ماركس لم يشر أبدا إلى المجالس العمالية)، وإنما أن كل ثورة عمالية وكل محاولة لثورة عمالية خلال القرن العشرين خلقت مثل هذه الأجهزة أو أجنّة لمثل هذه الأجهزة.

ظهر أول مجلس عمالي، أو “سوفييت”، كما أُطلق عليه، في سان بطرسبرج في روسيا خلال ثورة 1905. وظهرت أمثلة أخرى بعد ذلك، كالسوفييتات الروسية في 1917، المجالس العمالية في ألمانيا 1918-1919، والمجلس العمالي المركزي في بودابست (المجر) في 1956. أما الأمثلة على أجنّة المجالس العمالية فهي مجالس المصانع في إيطاليا 1919-1920، و”الكوردونز” في شيلي في 1972.

لنفس السبب سيكون من العبث أن نحاول البحث تفصيليا فيما سيكون عليه تنظيم المجالس العمالية. مثل هذه المجالس لا تظهر بعد الثورة متوافقة مع خطة معدة مسبقا، وإنما في مجرى الثورة، من أجل تمكين الطبقة العاملة من تنظيم وتنسيق قواتها. وكأجهزة للثورة، فإن بنيتها الأولية ستكون مرتجلة بالضرورة لكي تفي بمتطلبات اللحظة، ولهذا ستتنوع بشدة اعتمادا على الظروف.

عند هذه النقطة يظهر سؤال حيوي: إلى أي حد ستكون سلطة العمال ديمقراطية؟ الحقيقة أن حكم مجالس العمال لن يكون، بالمعنى الشكلي، ديمقراطية مطلقة. لن يكون هناك اقتراع عام كامل لأن طبيعة النظام ستستبعد البرجوازية القديمة وأصدقاءها من العملية الانتخابية. لكن ما هو ناقص بالمعنى الشكلي، سيكون أكثر من موجود من منطلق المشاركة الديمقراطية الحقيقية لجموع الناس.

ستؤسَس ديمقراطية المجالس العمالية على المناظرات والمناقشات الجماعية وعلى قدرة الناخبين، كجماعة، على التحكم في ممثليهم. وستكون آلية هذا التحكم بسيطة للغاية. لو أن المندوبين لا يمثلون إرادة ناخبيهم، سيتم استدعاؤهم ببساطة واستبدالهم من خلال اجتماعات جماهيرية في أماكن العمل.

ومن الطبيعي أن هذا النوع من التحكم مستحيل في الدوائر الانتخابية المقسمة على أساس جغرافي في النظام البرلماني. فبدلا من ديمقراطية يوم واحد كل خمس سنوات، سيكون هناك في المجتمع الاشتراكي اشتراك متواصل في الإدارة الحقيقية للدولة من خلال الأغلبية الواسعة للناس.

في بعض الأحيان يقلق الناس من أن نظاما مؤسسا على أماكن العمل قد يستبعد أجزاءً من الطبقة العاملة مثل ربات البيوت، أرباب المعاشات، العاطلين..الخ، من الذين لا يتواجدون في أماكن للعمل.

لكن واحدة من الفضائل الكبرى للمجالس العمالية هي مرونتها وقدرتها على التكيف مع التركيب المتغير للطبقة العاملة.

في الثورة الأسبانية عام 1936، على سبيل المثال، وبين الأجهزة الأساسية لسلطة العمال كان هناك لجان الأحياء التي شكلت في كل مناطق الطبقة العاملة في المدن الكبرى. هذه الأجهزة، كممثلة لكل سكان الحي، نظمت وأدارت وتحكمت في الميليشيات العمالية وتوزيع الطعام والتعليم وأوجه أخرى عديدة في الحياة اليومية.

وفي حالة ما إذا كان قلب هذا الشكل الديمقراطي التمثيلي متجذراً في أماكن العمل، لن يكون هناك سبب يمنع المجموعات الأخرى من تشكيل جماعات يشارك مندوبوها في المجالس العمالية.

سيكون الملمح الرئيسي لدولة العمال أنها تعبئ وتعتمد على النشاط الذاتي والقدرات التنظيمية وإبداع جماهير الطبقة العاملة لبناء مجتمع جديد من أسفل لأعلى. بهذه الطريقة سيكون هذا المجتمع الجديد أكثر ديمقراطية ألف مرة من أكثر الديمقراطيات البرجوازية ليبرالية التي تعتمد، بلا استثناء، على سلبية الطبقات العاملة.

كل هذا يبدو رائعا وصحيحا. سيكون الأمر بالفعل بمثل هذه الروعة كما أظهرت لنا الفترات القصيرة عندما استطاع العمال التحكم في الأمور. اقرأ على سبيل المثال كتاب جون ريد عن الثورة الروسية في 1917 “عشرة أيام هزت العالم”، أو كتاب جورج أورويل عن برشلونة 1936 “الطريق إلى كتالونيا”. لكن إلى أي مدى سيكون هناك ضرورة للقمع؟ وما مدى الحرية التي سيتمتع بها أولئك الذين يفكرون بشكل مختلف؟

2 ـ القمع والحرية في ظل سلطة العمال

بفضل دعاية الطبقة الحاكمة، ترتبط الثورة في أذهان العديد من الناس بالمقصلة وفرق الإعدام. وكنتيجة للستالينية، فإن الناس عادة ما يفكرون في النظام ما بعد الثوري كتماثل قمعي رمادي ينال فيه أي شخص يخالف خط الحزب زيارة في الرابعة صباحا.

هاتان الصورتان ترتبطان بظروف تاريخية محددة، على رأسها هزيمة الثورة الروسية. وكما أوضح القسم السابق، يعتبر الماركسيون سلطة العمال ديمقراطية عمالية نابضة بالحياة من شأنها أن تزيد بشدة سلطة وحقوق وحريات الشعب العامل.

برغم ذلك، يجب أن يشار بوضوح إلى أن بعض القمع وبعضاً من استخدام القوة المباشرة سيكون ضروريا، ليس فقط للإطاحة بالدولة الرأسمالية، ولكن أيضا فيما بعد الثورة للحفاظ على سلطة العمال. الصراع الطبقي لا ينتهي بانتصار الثورة، خاصة عندما نتحدث عن انتصارها في بلد واحد (كما هو الحال الآن).

أكثر من ذلك، فان حداثة دولة العمال ستجعل حكمها هشا لفترة. وستعتبر الطبقة الحاكمة القديمة، وأقسام من الطبقة الوسطى، نظام العمال انحرافا مؤقتا، ولن تقبل لا شرعيته ولا سلطته، وستراهن على سقوطه. وبلا شك، سيحاول هؤلاء عرقلة وتخريب بناء المجتمع الجديد، وإذا أعطيت لهم الفرصة، تحطيمه بالقوة.

لا يجب أن يعطى هؤلاء الفرصة. يجب تحطيم المقاومة الرأسمالية بثبات وبلا هوادة وبالقوة التي يتطلبها الأمر.

لكن تجاوز هذه المقولة العامة، وتخمين حجم القمع المطلوب بالضبط، أو تحديد من ستتم محاكمتهم مقدما، أو ما الذي سيتم عمله معهم..الخ، يبدو بالنسبة لي بلا معنى. سيعتمد الأمر كله على توازن القوى بين الطبقات. كلما ضعف موقف الطبقة العاملة، وكلما زادت المقاومة البرجوازية، كلما كانت الحاجة أكبر لاستخدام القوة الثورية المباشرة. وكلما كانت قوة الطبقة العاملة طاغية كلما صارت القوة القانونية كافية في ذاتها.

لهذا السبب، لا يمكن اعتبار التجربة الواقعية الحقيقية لسلطة العمال التي بين أيدينا – السنوات الأولى من الثورة الروسية – نموذجاً للممارسة المستقبلية. فقد كان وضع الطبقة العاملة الروسية، كأقلية صغيرة في بلد متخلف اقتصاديا دمرته الحرب وتواجهه ثورة مضادة مسلحة شاملة وتدخل أجنبي على نطاق واسع، صعبا بشكل استثنائي. لم يكن أمام البلاشفة خيار سوى تقديم نظام عالي السلطوية.

ومن المؤكد عمليا أنه في أي بلد كبير اليوم – بما فيها كل الدول المصنعة حديثا حيث مستوى قوى الإنتاج ومستوى المعيشة وحجم الطبقة العاملة كلها أعلى مما كانت عليه في روسيا – سيكون وضع الطبقة العاملة أفضل بكثير. في هذه الظروف، سيكون القمع المطلوب قمعا لأقلية صغيرة من قبل الأغلبية الكاسحة، ولذلك سيكون أقل حدة بكثير، ليس فقط مما كان عليه في روسيا، بل أيضا مما يحتاجه المستغلون للحفاظ على حكمهم في المجتمع الرأسمالي الحالي.

أكثر من ذلك، فبالوضع في الاعتبار أن الثورة ستنتشر في البلدان الأخرى (وهو سؤال سنتعامل معه لاحقا)، ستختفي بسرعة الحاجة للقمع، بينما تتحول البرجوازية إلى تاريخ، ويصبح إعادة الرأسمالية أملا كاذبا وسخيفا أكثر فأكثر.

أما فيما يتعلق بحرية التعبير والصحافة والتنظيم السياسي، فمن الممكن أن نقول الكثير. تضخم البرجوازية كثيرا من التزامها بهذه الحريات، لكن في الممارسة تحد البنية الاقتصادية للرأسمالية بشكل مستمر من قدرة الناس العاديين على الاستفادة منها. على العكس من ذلك ستعني سلطة العمال، منذ البداية، زيادة هائلة في الحرية الحقيقية في كل هذه المناطق لكل أقسام السكان، باستثناء الطبقة الحاكمة القديمة وأولئك الذين يرغبون في التحريض على الثورة المضادة.

ستتولى دولة العمال تسهيل وجعل الوقت متوفرا لكي تصبح المشاركة الجماهيرية في النقاش العام حقيقة. قبل كل شيء، ستصبح أماكن العمل – حيث حرية التعبير في ظل الرأسمالية محدودة للغاية بسلطة صاحب العمل في التعيين والترقية والفصل – مراكز للمناقشات الديمقراطية. ليس ذلك فقط، بل سيريد الناس الاشتراك في المناقشة لأن ما يقال – بدلا من كونه تنفيسا ضائعا واحتجاجا بلا فائدة – سيكون له تأثير مباشر على تحديد كيف سيتم تنظيم حياتهم اليومية.

في ظل الرأسمالية، ليست حرية التعبير إلا أسطورة. فنشر الصحف، لكونه صناعة ونشاط اقتصادي، يتحكم فيه رجال الأعمال الكبار والطبقة الحاكمة. أما في ظل سلطة العمال، فسيتم تأميم المطابع ومخزون الورق..الخ، لكن استخدامها سيكون متاحا للجماعات والمنظمات في إطار الشعب العامل طبقا لدرجة التأييد التي يحوزونها. سيقود هذا إلى تنوع أعظم بكثير للآراء ومناقشة وجدل أنشط وأقوى بكثير مما هو الحال الآن.

3 ـ انتزاع السلطة الاقتصادية

إن أساس الاشتراكية، مثلها مثل كل الأشكال الاجتماعية الأخرى، يكمن في الاقتصاد. تبعا لذلك، ستهاجم الطبقة العاملة فورا، باستخدام سلطتها السياسية، لانتزاع السلطة الاقتصادية – وهو ما يعني أن تأخذ في يديها كل وسائل الإنتاج الرئيسية في المجتمع. وما لم يتم ذلك بالسرعة المناسبة، لن يكون العمال قادرين على الاحتفاظ بحكمهم السياسي.

أما الآلية العرفية التي سيتم بمقتضاها تأسيس السلطة الاقتصادية فهي آلية مألوفة، وهي ما يسمى بالتأميم.

ستبدأ العملية غالبا كما حدث في الثورة الروسية، بتأميم كل الأرض. ولأن الأرض غير قابلة للتحريك، فسيكون هذا إجراء بسيط للغاية ويمكن تنفيذه بمرسوم في اليوم الأول من الثورة. أيضا سيكون أمرا عاجلا أن يتم تأميم البنوك، وفرض قيود صارمة على التبادل مدعومة بإجراءات ثورية أخرى لمنع المحاولات الحتمية لتهريب رؤوس الأموال للخارج.

من هناك ستتحرك دولة العمال نحو استيلاء متصاعد على الشركات والصناعات الرئيسية. ويمكن ترك المؤسسات الصغيرة، التي توظف عاملا أو اثنين في الأغلب لوقت لاحق. المهمة العاجلة ستكون كسب السيطرة على الروافع الأساسية للسلطة الاقتصادية، على “القمم المسيطرة” كما أطلقت عليها العديد من البيانات العمالية.

على كل حال، من الضروري هنا أن نميز بوضوح بين هذا التأميم الثوري وبين نوع التأميم الذي كان ينفذ في الماضي، من قبل حكومات العمال والمحافظين في بريطانيا مثلا. الاثنان شكلان من ملكية الدولة. لكن في هذه الحالة، الدولة محل السؤال هي منظمة لعموم الطبقة العاملة في مواجهة الشكل الآخر للتأميم في الماضي في ظل الدولة الرأسمالية – منظمة الطبقة الرأسمالية.

لذلك، أولا، لن يكون التأميم ببساطة خطوة تتخذ من أعلى من قبل سلطة الدولة المركزية. بل ستجمع الخطوة الاستيلاء القانوني في القمة والفعل العمالي في القاعدة. وفي حالات كثيرة من خلال احتلال العمال للمصانع.

ثانيا، سيكون التأميم بلا تعويضات، بما أن هدف تنفيذه بالضبط هو تحطيم القوة الاقتصادية للبرجوازية.

ثالثا، والأكثر أهمية، سيكون التأميم تحت سيطرة العمال. من المستحيل التنبؤ بأشكال محددة لذلك، لكن على الأغلب سيدار كل مصنع أو مكان عمل عن طريق مجلس منتخب يكون مسئولا أمام اجتماع عام دوري لقوة العمل. ومن الممكن أن ينطبق ترتيب مماثل على إدارة القطاعات الصناعية لكن بوجود ممثلين للنقابات العمالية وحكومة العمال.

سيكون تحكم العمال في الصناعة أساسيا. فطبقة عاملة غير قادرة على التحكم في أماكن عملها لن تكون قادرة على التحكم في دولتها. ولو انتقل التحكم في الصناعات الحكومية الجديدة إلى بيروقراطية لها وضعها المتميز، كما حدث في روسيا، فإن عاجلا أو آجلا سيؤدي ذلك لممارسة نفوذ مؤثر في المجتمع، وستعيد الفروق الطبقية تأسيس نفسها مرة أخرى.

في العادة بالطبع تكون قدرة العمال على إدارة الصناعة أمرا مشكوكا فيه. “يجب أن يكون هناك خبراء”، و”الخبراء هم الذين سيتحكمون حقيقة في الأمور”.

هذا الكلام تقليل من إمكانيات الطبقة العاملة وإساءة فهم لدور الخبراء التقنيين. فحتى في ظل الرأسمالية، عادة ما يكون العمال بشكل عام – وليس رجال الإدارة – هم الذين يمتلكون إدراكا أفضل لعملية الإنتاج المباشرة. وعادة ما تكون العديد من مهارات الإدارة مرتبطة بالتسويق والحفاظ على معدلات الاستغلال وليس الإنتاج – وهي مهارات ستكون زائدة عن الحاجة في المجتمع الجديد.

أما بالنسبة لشريحة الخبراء التقنيين، فسيكونون ضروريين لفترة حتى يتحسن تعليم العمال بشكل كبير. لكن ببساطة سيعمل هؤلاء للمجلس العمالي في المصنع وتحت توجيهه، كما يعملون اليوم بالضبط لأصحاب الشركات. وإذا عرقلوا أو خربوا، سيتم تأديبهم والتعامل معهم، بالضبط كما يحدث معهم إذا عرقلوا أو خربوا شركة رأسمالية.

وإذا كان هذا أمرا ضروريا بشكل مطلق، سيكون عليهم أن يعملوا وبنادق العمال موجهة لرؤوسهم. لكن في الحقيقة من الطبيعي والمنطقي أن نفترض أن الثورة الاشتراكية المنتصرة ستكسب إلى صفوفها أغلبية هؤلاء.

وبمجرد أن يتم تأمين ملكية وتحكم العمال في الصناعة سيكون من الممكن التقدم نحو إنشاء اقتصاد مخطط. ومرة أخرى، من الضروري التمييز بين التخطيط في ظل الاشتراكية وبينه في ظل الرأسمالية ورأسمالية الدولة، أو التخطيط كما عهدناه. لن تكون الخطة برنامجا صارما مفروضا من أعلى. الطبقة العاملة يجب أن تكون الفاعل وليس المفعول به في الخطة.

ستبدأ عملية التخطيط في القاعدة، في اجتماعات أماكن العمل ومجالس المصانع والمجالس العمالية، بتحديد لاحتياجات وأولويات الناس وتقييم للقدرات الإنتاجية لكل موقع عمل. وعلى أساس من هذا المدخل من أسفل، سيكون على الحكومة أن ترسم خطة متماسكة توفق بين القدرات والحاجات. عندئذ يجب تقديم الخطة بكاملها للطبقة العاملة لمناقشتها، ولممثليها في المجالس العمالية لتعديلها وإقرارها.

ستكون هذه عملية ديمقراطية بشكل مكثف. وفقط على أساس ديمقراطي، سيكون هناك أمل في نجاحها. لأن التخطيط البيروقراطي السلطوي، كما أظهرت تجربة روسيا الستالينية، يقود إلى تغذية الخطة بمعلومات غير صحيحة من أسفل، وإلى انجاز شكلي أكثر منه حقيقي.

لن يحل اقتصاد العمال المخطط مشاكل الرأسمالية الأسوأ فقط (البطالة، التضخم..الخ)، وإنما سيفتح الباب لإمكانيات هائلة للمستقبل.

عند هذه النقطة من المستحيل تأجيل سؤال نشر الثورة إلى البلدان الأخرى أكثر من ذلك. لأنه ما لم يتم التعامل مع هذه المشكلة، ستنتهي كل آمال وخطط الاشتراكية إلى لا شيء.

4 ـ نشر الثورة: البعد الأممي

سيكون من مصلحة الاشتراكية والطبقة العاملة بشكل هائل أن تحدث الثورة الاشتراكية متزامنة بشكل أو بآخر في عدد من البلدان. بالرغم من ذلك، افترضت حتى الآن في هذا الكراس أن الثورة ستحدث قبل أي شيء في بلد واحد.

هذا افتراض واقعي. فتجربة كل الثورات إلى الآن تقترح ذلك. فبالرغم من تقارب وتداخل كل الأمم في عالمنا المعاصر، مازالت هناك اختلافات في الأنماط القومية للصراع الطبقي، بطريقة تجعل من الغالب أن الاختراق الثوري الأول سيكون مقصورا على بلد واحد.

لكون هذا هو الحال، سيكون نشر الثورة خارج هذه الحدود مهمة بالغة الأهمية لدولة العمال الشابة. لن تكون هذه المهمة قضية واجب أممي فقط، لكن أيضا قضية حيوية بشكل مطلق للحفاظ على الثورة.

لا يمكن بناء الاشتراكية في بلد واحد. في الحقيقة لا يمكن أن تعيش دولة العمال للأبد في دولة واحدة. بالطبع من الممكن الصمود لفترة في مواجهة ضغط الرأسمالية العالمية، بالضبط كما يستطيع العمال إدامة احتلالهم للمصنع أو انتفاضتهم في مدينة واحدة لفترة من الزمن. لكن إن عاجلا أو آجلا إن لم تنتشر الثورة ستلقى مصير الهزيمة. إما أن تسحق الرأسمالية العالمية – التي طالما بقيت موجودة ستكون أقوى من دولة العمال المعزولة – الثورة بالتدخل العسكري، أو سيجبر التهديد به مصحوبا بضغط اقتصادي مكثف، الدولة الثورية في النهاية على التنافس مع الرأسمالية بشروط الأخيرة. وسيعني هذا صراعاً تنافسياً لمراكمة رأس المال.

إذا تحقق الشكل الأخير، كما حدث في روسيا في نهاية العشرينيات، ستظهر طبقة استغلالية جديدة لتصبح وكيل التراكم الرأسمالي، وستتم استعادة الرأسمالية بثورة مضادة داخلية.

قد تبدو الإطاحة بالرأسمالية ككل، رغم كل شيء، واجبا مثبطا للهمم. لذا السؤال الذي يجب أن نسـأله هو إذا ما كان ذلك ممكنا.

في هذا، كما هو الحال بالنسبة لكل قضايا الصراع الطبقي، من الطبيعي أنه يستحيل إعطاء أي ضمانات. لكن هناك عدد من العوامل التي تسمح لنا أن نقول بثقة إنه من الممكن القيام بذلك.

تجعل الطبيعة الأممية للاقتصاد الرأسمالي أزماته أممية أيضا. لذلك، فان الأزمة التي تقف وراء الثورة في بلد واحد ستكون قد بدأت بالفعل في التأثير على الدول الأخرى. وسيعمق الاختراق الأول الأزمة بشدة بشرط أن يحدث في واحد من الاقتصادات الكبيرة.

على سبيل المثال، لن يكون لثورة اشتراكية في جنوب أفريقيا أثر فقط على أسواق الذهب والماس العالمية، بل أيضا ستغير الموقف بشكل كامل عبر أفريقيا الجنوبية. فكل القوة الاقتصادية المستخدمة لإبقاء الطبقة العاملة في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وموزمبيق وبوتسوانا خاضعة، ستصبح عاملا للتقدم الثوري. وسيكون لثورة في البرازيل التأثير نفسه على أمريكا اللاتينية كلها.

سيكون التأثير السياسي للثورة حتى أكثر أهمية – كما أظهرت موجات الصدمة التي أحاطت بالعالم بعد 1917، مطلقة شرارات الإضرابات في أماكن ببعد جلاسجو وسياتل. سيتسبب وجود مثال لسلطة عمالية وديمقراطية عمالية حقيقيتين في أزمة أيديولوجية للطبقات الحاكمة في كل من الشرق والغرب. في الغرب، ستقدم الثورة تحديا خطيرا للمطابقة التي يدعيها حكامنا (وينجحون في ترويجها) بين الاشتراكية والطغيان. وفي الشرق، ستقوض الثورة بشكل حاسم الاعتقاد بأن البيروقراطيات الستالينية السابقة مثلت الاشتراكية الحقيقية.

في الوقت نفسه، ستلهم الثورة الحركات العمالية في كل مكان. ستُظهر أن الطبقة العاملة يمكنها الاستيلاء على السلطة، وبذلك ستقدم مثل وحجة للاشتراكية الثورية يسهل الدفاع عنها والدعاية لها. أيضا فإن العديد من الانقسامات والانشقاقات في صفوف الحركة الاشتراكية والثورية ستلتئم، لأنه سيكون هناك دليل ملموس على الإستراتيجية والتكتيك الضروريين لتحقيق النصر.

وستدعم الاتصالات الحديثة كل هذا بشكل عظيم. فبعد الثورة الروسية (آخر مرة كانت هناك فرصة حقيقية للثورة الأممية)، مضت شهور قبل أن يكون هناك حتى لدى أكثر الثوريين انخراطا في الدول الأخرى صورة واضحة عما حدث. في أي ثورة في المستقبل ستنتقل حقيقة السلطة العمالية كالبرق حول العالم عبر شاشات التليفزيون.

لكن بالطبع لن تجلس الثورة المنتصرة وتنتظر كل هذا لكي يحدث. بل ستبذل كل جهد لتسريع العملية.

ليس هذا شأنا خاصا بمحاولة فرض الثورة عن طريق غزو الدول الأخرى (على الرغم من أن الدولة العمالية الجديدة ستكون بالتأكيد مستعدة لإعطاء العون العسكري للنضالات الثورية الأخرى). وإنما يعني أن الدولة العمالية ستستخدم سلطتها من أجل مناشدة ودفع العمال عبر العالم للإطاحة بحكامهم، كما يعني تنظيم الحركة الثورية على مستوى أممي.

ستشكل دولة العمال الجديدة تنظيما أمميا عماليا (لو أنه لم يتم تشكيله بعد) ليبني وينسق ويوحد الأحزاب العمالية الثورية في كل بلد.

أكثر من ذلك، فبمجرد أن تنتشر سلطة العمال إلى العديد من البلدان، فإن كل العوامل التي حددناها سابقا ستعظم بشدة، وسينمو زخم لا يمكن مقاومته. في الستينيات، خشي استراتيجيو الامبريالية الأمريكية من تأثير “الدومينو” الناتج عن فيتنام وباقي نضالات التحرر الوطني. تأثير الدومينو الناتج عن الثورات العمالية ذات المنظور الأممي سيكون أعظم بكثير.

عند هذه النقطة دعونا نقفز ونفترض انتصار الثورة الاشتراكية عالميا. هذا افتراض ضخم لكنه، كما حاولت أن أريكم، ليس افتراضا طوباويا، وهو جدير بأن نفكر مليا فيما يتضمنه من معاني.

سيعني هذا أن تهديد الثورة المضادة الرأسمالية قد تم إنهاؤه للأبد وأن تهديد الإبادة النووية قد رفع من على كاهل الجنس البشري.

سيعني أن الحروب القومية، المسئولة عن قتل أكثر من 100 مليون شخص في القرن العشرين وحده، ستتوقف.

سيعني أن مشاكل الفقر العالمي والتخلف يمكن التعامل معها والتغلب عليها بطريقة منسقة، وأن الناس سيتحركون بحرية على سطح الأرض، وأن جذور الفاشية قد تم تحطيمها.

سيعني أن الاشتراكية الأممية وتسخير موارد العالم لخدمة الإنسانية الموحدة ستصبح حقيقة.

5 ـ الإنتاج من أجل الحاجة: نحو الوفرة

سيضع تأسيس اقتصاد اشتراكي مخطط على نطاق عالمي نهاية للأزمات المتكررة للرأسمالية، التي ينتج عنها تدمير وإهدار للموارد الإنتاجية عبر عمليات الإفلاس ونقص الاستثمارات وفوائض الإنتاج والبطالة على نطاق واسع. سيعني ذلك أن الموارد التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والبشرية الضخمة بحق، والمكرسة للإعداد للحروب وشنها، سيعاد توجيهها لأغراض مفيدة اجتماعيا.

عندما نأخذ في الاعتبار أن دبابة بريطانية واحدة من نوع “تشالينجر” تكلف حوالي 2 مليون جنيه إسترليني، وأن نظام الصواريخ “ترايدنت” سيكلف حوالي 42 مليون إسترليني على امتداد عمر المشروع، وأن حرب ريجان للنجوم كلفت ما يصل إلى 100 بليون دولار أمريكي، يصبح لدينا فكرة عن الإمكانيات الاقتصادية التي سيتم إطلاقها.

ستزيل الاشتراكية أيضا الإهدار الهائل الكامن في الإنتاج الرأسمالي بازدواجية الجهد التي يتضمنها – صناعة كميات هائلة من منتجات متشابهة من مساحيق للغسيل والسيارات وأجهزة الراديو.. الخ. وستضع نهاية للأموال الضخمة المنفقة على الإعلان وإنتاج سلع الترفيه غير الضرورية من أجل الأغنياء. وستتقدم نوعية وإنتاجية العمل بشدة لأن المنتجين سيكون لهم – لأول مرة – مصلحة ثابتة مباشرة في الإنتاج وسيكونون أكثر صحة وأفضل تعليما بما لا يقاس.

باختصار، ستحقق الاشتراكية الأممية تطورا استثنائيا في قوى الإنتاج سوف يتجاوز بدوره كل ما تم تحقيقه في هذا الميدان في كل التاريخ الماضي. هذا التقدم الاقتصادي هو الذي سيضع الأساس المادي للتحول إلى مجتمع لا طبقي بشكل كامل.

في المقام الأول، سيجعل هذا التقدم توفير الغذاء المناسب والملبس والمأوى – ضرورات الحياة – ممكنا للجميع على وجه الأرض. لن يموت طفل ثانية أبدا من سوء التغذية أو من مرض يسهل منعه. هذا وحده سيكون كافيا ليبرر الاشتراكية. لكن في الواقع سيكون هذا فقط البداية لما يمكن أن تقدمه الاشتراكية. وخلف تحقيق مستوى معيشة مرضي للجميع، يقع الطريق إلى الوفرة والتوزيع الحر طبقا للحاجة.

هذه النقطة جوهرية بالنسبة للمفهوم الماركسي حول المرحلة الأعلى للاشتراكية، أو الشيوعية كما أسماها ماركس، ويحتاج إلى شرح أكثر.

منذ البداية، ستؤدي الاشتراكية إلى مساواة هائلة في توزيع السلع بالمقارنة بالتفاوتات العميقة الموجودة في الرأسمالية. فالتراكمات الهائلة للثروة، والمشتقة من الاستغلال والملكية، ستتم مصادرتها. والمرتبات المتضخمة، التي تدفعها الطبقة الحاكمة لنفسها وقطاع من الطبقة الوسطى، ستختفي. أما أجور الطبقة العاملة، وبالخصوص الشريحة الأقل، فسيتم زيادتها بسرعة.

على الرغم من ذلك، ففي البداية – لأن الاشتراكية تبدأ من الموارد التي ترثها من الرأسمالية – سيبقى عرض السلع محدودا، وسيبقى العمال يعملون مقابل أجور نقدية يستخدمونها بدورها لشراء هذه السلع. على أي حال، ستزيد الاشتراكية تدريجيا من إنتاج نطاق من السلع، يتسع بشكل مستمر، إلى النقطة التي يتجاوز فيها العرض الطلب. عندها سيصبح ممكناً إيقاف بيع هذه السلع، والبدء بتوزيعها على أساس الحاجة.

لكي نلخص كيف يمكن عمل ذلك، دعونا نأخذ مثال المياه. فلا تزال إمدادات المياه في أجزاء عديدة من العالم اليوم – خاصة المياه النقية – قليلة بشكل ميئوس منه. لكن في كل الدول الصناعية المتقدمة، تم التغلب على المشكلة هذه، حتى في ظل الرأسمالية. هناك مياه أكثر من كافية، وبالتالي فهي ببساطة متاحة للجميع في الصنابير. ولا يتسبب هذا في أن يستهلك الناس المياه بجنون. فبالإضافة إلى قدر معين مبدد يسهل التكيف معه، يستهلك الناس فقط ما يحتاجون إليه.

ما استطاعت الرأسمالية عمله بالنسبة للمياه، ستكون الاشتراكية قادرة على عمله على نطاق أوسع بكثير – مع الوضع في الاعتبار نمو القوى الإنتاجية الذي حددناه من قبل.

سيكون الإسكان مجالا واضحا للبدء منه. سنبني ببساطة بيوتا أكثر من عدد الناس الذين يرغبون في السكن، وستخصص وفقا للحاجة. ولكي ينتقل الناس من منزل لآخر، سيتحركون إلى مسكن خالي أو يتبادلون المنازل بدلا من بيعها وشرائها. مثل هذا الترتيب لن يحل فقط مشكلة من هم بلا مأوى، لكن سيكون أيضا أبسط بكثير في عمله من نظام شراء البيوت الحالي المعقد والمضجر.

ومن البديهي هنا القول إن التعليم والخدمات والصحة، كلها ستكون مجانية بشكل كامل. وكذلك ستكون المواصلات العامة، التي سيتم التوسع فيها بشدة (من المحتمل أن يتم ذلك إلى الدرجة التي تصبح السيارات الخاصة فيها لا لزوم لها).

وبينما ستصبح كل الخدمات مجانية، سيوجه عمل جامعي الأموال المتعددين – من وكلاء الدولة إلى محصلي الأتوبيسات – إلى نفع أفضل.

وبمرور الوقت سينتشر مبدأ التوزيع الحر، من المياه والإسكان والصحة والتعليم والمواصلات، إلى الغذاء والملبس والاتصالات والترفيه.. وهكذا إلى أن يتضمن السلع جميعا. سيتبدد البيع والشراء. وستفقد النقود – التي تبدو إله المجتمع الرأسمالي الكامل القوة، لكن في الحقيقة هي فقط الوسيلة التي يتم بها تبادل منتجات العمل البشري – نفعها بشكل ثابت، إلى النقطة التي يمكن عندها الاستغناء عنها تماما.

قد يبدو هذا غريبا بفعل التلقين الرأسمالي الذي نتلقاه جميعا منذ مولدنا. لكن إذا أخذنا في الاعتبار المقدمة المنطقية التي تقول إن الاشتراكية الأممية سوف تطلق عنان القوى الإنتاجية المقيدة والمحتجزة من قبل الرأسمالية حتى وقتنا، هذا فليس هناك شيء غير واقعي بخصوص ذلك.

في الواقع هناك حجة مضادة جادة واحدة –بالتحديد إنه إذا كان كل شيء مجانيا، فلن يجهد أحد نفسه أو يهتم بأن يعمل.

6 ـ تحويل العمل

العمل مركزي للحياة الإنسانية، لحياة الفرد ولحياة المجتمع. وقد كان من خلال العمل، من خلال العمل المنتج، أن ميز الجنس البشري نفسه عن الحيوانات الأخرى. إن تجربة العمل، هي التي تمثل العامل الأساسي في تشكيل شخصية كل فرد. والطريقة التي يعمل بها مجتمع ما لإنتاج السلع، هي الأساس لكل علاقاته السياسية والاجتماعية.

لكن في ظل الرأسمالية، العمل تجربة سلبية بشكل ساحق للأغلبية الكاسحة من الناس – أي للطبقة العاملة. العمل مفتت إلى درجة يكون عندها على الناس أن يتخصصوا طيلة حياتهم في إعادة لا نهائية لمهام ميكانيكية ضيقة. عمل منهك ومهين وفوق كل شيء ممل. عمل ينتج الترف والمتعة والثقافة للرأسماليين، لكنه ينتج شخصيات مبتسرة وحياة مبتسرة للعمال.

تحويل العمل، لذلك، مهمة مركزية للثورة الاشتراكية. وعلى المدى الطويل، هو أكثر المهام أهمية على الإطلاق.

ستضع الخطوات الأولى للثورة – تأميم الصناعة تحت سيطرة العمال – الأساس لهذا التحويل بإنهاء الاستغلال والسعي وراء الأرباح، الذين يجعلان العمل كما هو عليه الآن في الحاضر. منذ البداية، ستغير سلطة العمال تجربة العمل. ستضع نهاية لعملية الإذلال اليومية التي يعاني منها العمال على يد المديرين والرؤساء والملاحظين من كل نوع. ستجعل سلطة العمال الأمان في العمل الأولوية الأولى وليست الأخيرة، وستضيف للفائدة الناتجة من العمل بشكل هائل.

لكن في البدء، سيكون العمل الفعلي الممارَس، كإصلاح الآلات، استخراج الفحم، الطباعة على الآلات الكاتبة..الخ، بالضرورة، تقريبا كما هو في ظل الرأسمالية. بالرغم من ذلك، فبينما تتطور قوى الإنتاج سيتغير كل هذا تماما. ويتعلق هذا التغير بثلاث عمليات مترابطة.

أولا، سيتم اختصار أسبوع العمل بشكل نظامي. في ظل الرأسمالية، ُيستخدم أي تقدم تكنولوجي جديد للتخلص من العمال. وهكذا نرى تركيبة تجمع بين ملايين العمال، الذين يعملون عملا إضافيا، وملايين آخرين من العاطلين الذين لا يجدون عملا. بوجود التخطيط الاشتراكي، سيتم اقتسام العمل الكلي المطلوب بشكل متساوٍ، وكل تقدم تكنولوجي جديد سوف يخفض مقدار العمل البدني المطلوب على الجميع.

هذا أمر حاسم – ليس فقط لأنه سيقلل من المشقة البدنية، لكن أيضا لأنه سيحرر العمال ليتطوروا تعليميا وثقافيا، وليمارسوا دورا أنشط في إدارة المجتمع عموما في كل جوانبه.

ثانيا، سيتم استخدام التشغيل الآلي للقيام بالوظائف البغيضة والدنيا، وبالتالي ُترفع من على كاهل العمال. وبالأخذ في الاعتبار أنه، حتى في ظل الرأسمالية، يمكن إيصال الصواريخ للقمر أو المريخ، فلن يكون صعبا أن نتخيل أن التخلص من القمامة، أو تنظيف المكاتب، أو أغلب الأعمال المنزلية، العمل في المناجم، والعمل على خطوط الإنتاج يمكن أن تتم كلها بشكل آلي.

ثالثا، سيتم التغلب على تقسيم العمل تدريجيا. فتقسيم العمل له مظهران رئيسيان. من ناحية، هناك التقسيم، الذي يتخلل العملية تماما، بين العمل البدني والعمل الذهني، بين المُخطِطِين والمخطَطَ لهم، بين المسيطِرين والمسيطَر عليهم، والذي نشأ ويتزامن مع تقسيم المجتمع إلى طبقات مستغِلة ومستغَلة. ومن الناحية الأخرى، هناك تكسير عملية الإنتاج إلى مهام أصغر وأصغر تفتقر تماما للمهارة وللأهمية وللإبداع، وهي عملية يمكن اعتبارها نتاجا للتصنيع الرأسمالي على وجه الخصوص.

هذا المركب من العوامل التي أشرنا إليها أعلاه – سيطرة العمال، تقليل وقت العمل الجبري، التشغيل الآلي – هو الذي سيقضي على مظهري تقسيم العمل كليهما.

سيصبح الجميع منتجا ومخططا للإنتاج في نفس الوقت. وسيكون لدى الجميع الوقت والطاقة والتعليم الضروري للمشاركة في التشكيل الجماعي للبيئة – وهو عمل سيتطلب التحام المعارف الفنية والعلمية والتقنية والاجتماعية، وسيكون عملية جماعية خلاقة.

في ظل هذه الظروف سيصبح العمل – بكلمات ماركس – “ليس فقط وسيلة للعيش بل الحاجة الأولى للحياة”. سيتوقف العمل عن أن يكون ضرورة مملة ومتعبة وسيصبح متعة إيجابية، أي وسيلة للتعبير الإنساني الفردي والجماعي.

البشر ليسوا كسالى بطبيعتهم. انظر إلى أقرب صورة يمكن أن نراها لذلك الكيان الأسطوري المسمى بـ”الشخص الطبيعي”، وهي صورة الرضيع أو الطفل الصغير، وسترى كيف أنه مفعم بالفضول والطاقة والحماس للمعرفة، للنشاط وللحياة. إن الرأسمالية، القمع، والعمل المغترب هي التي تنهك الناس وتحطمهم، تدمر طاقتهم وتقنعهم بأنه من الأفضل أن يقضوا حياتهم مادِّين أرجلهم أمام التليفزيون.

انظر إلى الجهد الهائل الذي يبذله العديد ممن ينتمون للطبقة العاملة في هواياتهم أو في الحركة العمالية أو النقابية. ليس من الصعب أن نرى كيف – عندما يكون العمل لأنفسهم أو ليس لصالح طبقة المستغِلين، وعندما يكون العمل متنوعا ومشوقا – أنه سيأتي وقت لا تكون هناك ضرورة لإكراه بدني أو اقتصادي لضمان إنجاز العمل الضروري.

ستجلب الاشتراكية، في مراحلها المتقدمة، عادة القيام بالعمل الخلاق والمحفز، وتخطيط الإنتاج للوفاء بالحاجات الإنسانية، ستجلب تطور العلم والتكنولوجيا، والتوزيع الحر لعرض فائض من السلع.

وبمجرد قيامها بذلك، لن يكون هناك ما يمنع المجتمع من أن يكتب على راياته المبدأ الاشتراكي النهائي: “من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته”.

7 ـ تحرر النساء

لقد أصبح من مأثور النسويات المبتذل أن الثورة الاشتراكية لن تحرر النساء بشكل أوتوماتيكي. هن على حق بالطبع. إذ أنه حتى بعد الثورة لا يحدث شيء أوتوماتيكيا. فالتاريخ يصنعه البشر، وسيكون من الواجب خوض النضال من أجل القضاء على قمع النساء والفوز به.

بالرغم من ذلك فستبدأ الثورة الاشتراكية عملية إنهاء قمع النساء الذي يبلغ دهرا من العمر. تلك العملية التي سيتممها التحول إلى الاشتراكية. والسبب في ذلك بسيط. الاشتراكية، قبل كل شيء آخر، هي التحرر الذاتي للطبقة العاملة، وأغلبية الطبقة العاملة نساء. وبالتالي فبدون التحرر الكامل للمرأة، سيكون من المستحيل التحدث عن التحرر الكامل للطبقة العاملة ومن ثم سيكون من المستحيل أن نتكلم عن الاشتراكية.

لن يجعل ذلك تحرر النساء يحدث بشكل أوتوماتيكي. لكنه يجعل المعركة من أجل تحرر النساء مهمة مركزية في طريق التحول للاشتراكية. الأكثر من ذلك، فبالضبط كما تغيرت زوجات عمال المناجم اللاتي قاتلن خلال الإضراب الكبير 1984-1985 بفعل التجربة، فإن نساء الطبقة العاملة اللائي قمن بالثورة لن يكن مستعدات أبدا لتقبل دور مواطنين من الدرجة الثانية. إذن كيف يمكن تحقيق تحرر النساء؟

أولا ستأتي مجموعة من الإجراءات، التي هي مباشرة وصريحة، ويمكن لدولة العمال اتخاذها على الفور، كما سيحدث بالفعل. وتتضمن هذه الإجراءات: القضاء على أي أثر لعدم المساواة في القانون بين الرجال والنساء، وتجريم أي شكل من أشكال التمييز ضد المرأة، والتشريع لحق منع الحمل وللإجهاض الحر عند الطلب، والتشريع لحق الطلاق الفوري عند الطلب والحق في أجور وفرص عمل متساوية.

من الممكن الاعتراض بأن العديد من هذه الإجراءات (إن لم يكن جميعها) سارية بالفعل في بريطانيا الرأسمالية وبأنها برغم ذلك غير فعالة – وأهم مثل على ذلك قانون الأجر المتساوي. وهنا يجب أن نتذكر السياق المختلف والمتغير. فحقيقة أن دولة العمال ستصبح فورا صاحب العمل الأساسي، وفي آخر الأمر صاحب العمل الوحيد، وأن كل المؤسسات الرئيسية في المجتمع ستكون تحت السيطرة الديمقراطية للعمال، ستضمن ترجمة هذه القوانين والإجراءات إلى ممارسة عملية.

وستساهم تغيرات اجتماعية أخرى عديدة في تحرير النساء وستسهله. فسيكون هناك تعليم ضد التمييز على أساس الجنس في المدارس. وحيثما سيبقى بعض المدرسين المدافعين عن مثل هذه الأفكار الرجعية، سيظهر بلا شك من يصحح أفكارهم بصلابة من طلبتهم. وسيعني التحول الكبير، فيما يخص الملكية والسيطرة على وسائل الإعلام، أنها أيضا ستصبح قوة في مواجهة التمييز على أساس الجنس أكثر منها في صالحه كما هو الحال في الحاضر.

وبما أنه مع القضاء على المنافسة الرأسمالية سيختفي الإعلان بصورته الحالية، كذلك أيضا سيختفي استغلال صور النساء للترويج للسلع. أيضا ستتم مواجهة كل أشكال العنف ضد النساء بشكل جدي.

بالرغم من ذلك، فمهما كانت كل هذه الإجراءات ضرورية أو مهمة فإن أيا منها لا يتوجه إلى قلب الموضوع. فهي تتعامل مع أعراض وآثار قمع النساء أكثر منها مع مصدره. ويكمن هذا المصدر في وضع النساء داخل العائلة، والدور الذي لعبته العائلة في المجتمع المنقسم طبقيا عموما وفي المجتمع الرأسمالي على وجه الخصوص.

اليوم في ظل الرأسمالية تربية الأطفال ورعاية الجيل الحالي (إعادة إنتاج قوة العمل بالتعبير الاقتصادي) هي مسئولية العائلة النووية المخصخصة بشكل أولى وأساسي. وداخل العائلة يقع عبء هذا العمل بالأساس على النساء. بالنسبة للرأسمالية، ميزات هذا الترتيب واضحة. فهو يمكنها من إنتاج قوة العمل وإنعاشها بأدنى تكلفة، ويقسم ويفتت الطبقة العاملة.

أما الأضرار الواقعة على النساء فهي واضحة بنفس الدرجة. ففرصهن في الحصول على عمل بأجر محدودة ومؤقتة. وتتعرض آفاق حياتهن المهنية للأذى، حيث يملن للانعزال في المنزل، وبدرجة تزيد أو تقل، للاعتماد اقتصاديا على أزواجهن.

هذا هو جذر المشكلة التي سيجب حله من أجل تحقيق تحرير كامل ودائم للنساء كجزء من التحول للاشتراكية. لكن العائلة ليست مؤسسة يمكن القضاء عليها بين يوم وليلة بمرسوم. فسيجب استبدالها. الأكثر من ذلك، فإن المؤسسات التي ستحل محلها يجب أن تفوقها في الوفاء بالاحتياجات الإنسانية الحقيقية التي تضطلع بها العائلة حاليا، وذلك حتى يتبناها الناس باختيارهم الحر.

والمهمة الأساسية هنا هي تنظيم العمل المنزلي ورعاية الأطفال اجتماعيا وبشكل كفء وعطوف. ويعني ذلك خلق شبكة شاملة للمطاعم المدارة بشكل مشترك تقدم تنويعة من الطعام الجيد والرخيص (المجاني في النهاية). ويعني تقديم خدمات المغسلات الجماعية وتنظيف المنازل. ويعني، قبل كل شيء، توفير مكان في حضانة لكل طفل صغير، وخدمات مرتبة جيدا لمجالسة الأطفال يستطيع كل الآباء الحصول عليها.

وبينما تتطور أنماط الحياة الجماعية لهذا الحد، وهو أمر يبدو ممكنا، فإن هذا سيساعد بشكل كبير في كل هذه المشكلات. وعندما يتحقق ذلك، ستتوقف تربية الأطفال عن أن تكون ذلك العبء الثقيل المعرقل اجتماعيا بأي شكل من الأشكال، وستصبح تجربة إيجابية غامرة يتم تقاسمها بالتساوي، وعن طيب خاطر، بين الرجال والنساء.

بنفس الطريقة، فإن قضية من يعيش الناس معهم ولمتى، ستصبح قضية اختيار شخصي محض لا تتقيد بالضغوط الاقتصادية، ولا بالأعراف الدينية والاجتماعية القديمة التي تعكس هذه الضغوط.

وسيكون بوسع النساء أخيرا أن يتحرروا من الإخضاع الذي عانين منه منذ نشوء المجتمع الطبقي قبل ست أو سبع آلاف سنة.

ومن الواضح أن تطبيق مثل هذا البرنامج سيتطلب موارد اقتصادية كبيرة، وإرادة سياسية قوية، ومشاركة جماهيرية واسعة. وليست هناك حكومة رأسمالية ستضعه على جدول أعمالها أو بإمكانها تحقيقه. لكن هذا هو بالتحديد السبب في أنه، فقط من خلال الاشتراكية، يمكن للنساء أن يفوزوا بتحررهم.

8 ـ نهاية العنصرية

العنصرية هي واحدة من أكثر ملامح المجتمع الرأسمالي قبحا وضررا. وستحتاج الأجيال القادمة، التي ستعيش في ظل الاشتراكية، لأن تطلق العنان لخيالها لكي تستطيع فهم العنصرية، ليس فقط في تجلياتها في الجرائم الكبرى على شاكلة الهولوكوست النازي أو سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الأبارتهايد، وإنما أيضا في تجلياتها الصغرى مثل الهستيريا المرضية ضد طالبي اللجوء في أوروبا.

وما من شك أنهم سيعتبرون هذه السلسلة من الحوادث دليلا نافذا على أن المجتمع الذي أنتجها كان فاسدا من أساسه. وذلك لأن الاشتراكية ستستأصل العنصرية.

ولا أعني بذلك فقط أن الاشتراكية ستخوض معركة ضد العنصرية. فمن البديهي المؤكد أن الاشتراكية ستشن الحرب الأكثر تصميما على كل أشكال العنصرية. وستعتبر دولة العمال أي تعبير عن التمييز العنصري، أو التحرش العرقي، أو أي تعبير عن الإيديولوجية العنصرية، الجريمة الأخطر. وستتحد مدارس وإعلام دولة العمال لتوعية السكان بروح النضال ضد العنصرية.

لكنني أعني أكثر من ذلك بكثير. أعني أن الثورة الاشتراكية ستمزق الجذور الأعمق للعنصرية لتصبح بمرور الوقت أثرا منطويا على مفارقة تاريخية، وشيئا سخيفا ومنقطع الصلة بالواقع كمحاكمة الساحرات. ولنرى كيف سيحدث ذلك، من الضروري أولا فهم من أين تأتي جذور العنصرية.

العنصرية، على العكس النظريات التي يقدمها أناس هم في الحقيقة يدافعون عنها، ليست رد فعل طبيعي أو غريزي في مواجهة الغرباء، ولا هي عادة من الماضي تتعلق بالخرافات البدائية المؤسسة على الجهل. وعلى غير الحال في اضطهاد وقمع النساء، ليست العنصرية حتى نتاجا للمجتمع المنقسم طبقيا بشكل عام.

العنصرية هي منتج محدد لصعود وتطور النظام الاقتصادي الرأسمالي. فلم تكن ملمحا للمجتمعات ما قبل الرأسمالية حتى في مجتمعات العبيد القديمة في اليونان وروما. ففي هذه المجتمعات، كان العبيد وملاكهم على حد سواء سودا وبيضا. وبالرغم من أن الأفكار المعادية للعبيد، من نوعية أنهم بالطبيعة أدنى، كانت موجودة، إلا أنه لم يكن لها أي دلالة عرقية أو متعلقة بلون البشرة.

ويكمن أصل العنصرية في تجارة العبيد، في ممارسة الخطف والترحيل القسريين لملايين الأفارقة سود البشرة إلى الأمريكتين للعمل كعبيد في المزارع. (هذه المقولة كانت سببا في إثارة جدل خلافي. فقد تم القول بأن وجود معاداة السامية في العصور الوسطى يبدو متعارضا مع فكرة أن العنصرية نتاج للرأسمالية. بالرغم من ذلك، وكما بين أبراهام ليون في كتابه “المسألة اليهودية”، فإن معاداة السامية في هذه الفترة كانت دينية بالأساس وليست عنصرية، وكان بإمكان اليهود الذين تحولوا للمسيحية تجنبها. وليس هذا بالتأكيد تقليلا من الفظائع التي ارتكبت في هذه الفترة، لكن من أجل الإصرار على النظر لها في نفس الإطار ونفس الضوء الذي ننظر على أساسه للاضطهاد المريع لطوائف الأقليات المسيحية في الفترة ذاتها.)

وتم الشروع في هذه التجارة ونظام العبودية الذي تبعها لأسباب اقتصادية. فقد كانا مربحين للغاية، ولعبا دورا رئيسيا في صعود الرأسمالية. لكن ككل أشكال الاستغلال، احتاجا لتبرير أيديولوجي وهو ما أمدتهما به العنصرية. وتم إضفاء الشرعية على معاملة الملايين بطريقة غير إنسانية من خلال نظرية أن هؤلاء الناس أدنى من البشر.

وتدعمت العنصرية، التي نمت من تجارة العبيد، عند ذلك أكثر وتعززت من خلال الإمبريالية ككل. وكانت الرأسمالية، التي ظهرت في أوروبا الغربية (وكانت تتطور بالتحديد في بريطانيا) مدفوعة بطبيعتها التنافسية، تغزو العالم من أجل إيجاد أسواق لمنتجاتها، من أجل المواد الأولية، وعندئذ من أجل المستعمرات لتكون منفذا للاستثمار ومصدرا للعمل الرخيص. وخلق هذا، بشكل حتمي، صراعا بين تجار ومبشري ورجال أعمال وسياسيي الرأسمالية الأوربية وبين السكان الأصليين في الأمريكتين.

ومرة أخرى كان هناك احتياج لتبرير إيديولوجي. ولم يكن هناك أفضل من فكرة أن هؤلاء الناس كانوا كالأطفال: بدائيين وغير قادرين، وأن عملية النهب والسلب برمتها كانت لمصلحتهم – وأن ذلك كله مثل العبء الموضوع على كاهل الرجل الأبيض أن يقودهم ببطء نحو “الحضارة”.

بالرغم من ذلك ليست العنصرية مجرد تراث للإمبريالية الأولى. فهي يتم توليدها وإعادة توليدها بشكل مستمر عبر الرأسمالية المعاصرة، لأن الرأسمالية لا تستند فقط على التنافس بين الرأسماليين وإنما أيضا على التنافس بين العمال.

وتشجع بنية الاقتصاد الرأسمالي العمال على أن يروا العمال الآخرين كخصوم في السباق على الوظائف والسكن وغيرها. وفقط من خلال التغلب على هذه المنافسة بينهم وبين بعضهم، يمكن للعمال أن يكونوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم في مواجهة النظام.

وبالتبعية، تعطي أي أفكار من نوعية التمييز على أساس الجنس، التعصب القومي، وقبل كل شيء العنصرية، والتي تضع العمال في مواجهة بعضهم وتفسد وحدتهم، ميزة هائلة لأصحاب العمل. وتمد العنصرية أيضا النظام وطبقته الحاكمة بكبش فداء ملائم تماما يتحمل اللوم على البطالة وكل الأمراض الاجتماعية التي تنتجها الرأسمالية.

لهذه الأسباب تذكي الرأسمالية نار العنصرية، علنا أو سرا، لكن بشكل مستمر، لكي تكون الورقة العنصرية موجودة دائما للعب بها عند الحاجة.

وليس من المقصود من أي من هذا القول إن مشاكل العنصرية ستحل بسهولة، ولا أنها ستختفي بين يوم وليلة مع الثورة. على العكس، فجذور العنصرية عميقة للغاية. النقطة هي أنها جذور رأسمالية، وأنه في اللحظة التي سيتم فيها تحطيم الرأسمالية، فإن هذه الجذور ستحرم مما يغذيها وستبدأ في الذبول.

الأكثر من ذلك، ستكيل عملية الثورة نفسها ضربات قوية عديدة للعنصرية. الأولى، لأنه من المؤكد أن العمال السود سيلعبون أنفسهم دورا قياديا قويا في الثورة. والثانية، لأنه بدون تحقيق الوحدة بين الأقسام الحيوية للطبقة العاملة البيضاء والسوداء (على أساس المعارضة الكاملة للعنصرية) لن يكون بمقدور الثورة أن تأمل في تحقيق النصر. والثالثة، لأن الطبقة العاملة المنتصرة الواثقة التي اجتازت تجربة النضال الثوري المنيرة، ستشعر بانعدام الحاجة لأكباش فداء.

وبالبناء على هذا الأساس الثابت فإن المجتمع الاشتراكي، الذي يوحد العمال كملاك جماعيين مسيطرين على الإنتاج بدلا من تقسيمهم، والقادر على حل مشاكل البطالة والمشردين والفقر، والذي ينشر نفسه عبر التضامن الأممي بدلا من الغزو الإمبريالي، سوف يزيل بثبات الذرات الأخيرة المتبقية للعنصرية.

9 ـ التعلم من أجل المستقبل

ستوقظ الثورة الاشتراكية في الطبقة العاملة وفي كل المضطهدين عطشا هائلا للمعرفة والتعليم. نحن نعرف هذا من التجربة الماضية: من الثورة الروسية حيث تزاحم العمال على الاستادات الكبرى ليستمعوا لمحاضرات حول الدراما الإغريقية، ومن الثورة البرتغالية عندما احتل كتاب لينين “الدولة والثورة” قمة قائمة الكتب الأكثر مبيعا لفترة من الزمن، ومن أمثلة أخرى عديدة.

لقد أصبح ملايين من الناس، على مدى أجيال، مقتنعين بأن المعرفة المؤكدة بالعالم غير ذات فائدة لأنه “ليس هناك ما يمكنك عمله” و”الأمور لن تتغير أبدا”. لكن فجأة، في خضم الثورة، يجد هؤلاء أنفسهم في مركز السلطة. فالعمال مدعوون لتوجيه والسيطرة على كل شيء في المجتمع. هنا يبدو كل شيء ممكنا، ولذلك يرغب الناس عندها في معرفة كل شيء.

وستكون مهمة دولة “العمال” هي أن تخلق نظاما للتعليم يعزز وينمي هذه الرغبة في التعلم. سيكون هذا النظام معكوس نظام التعليم الرأسمالي الحالي الذي يستقبل الأطفال في الخامسة من عمرهم تواقين ومحبين للاستطلاع والتعلم، ويلفظهم بعدها بسنوات مفعمين بالمرارة والتشاؤم.

ما يدمر التعليم حقا ويشوهه في الوضع الحاضر ليس فقط نقص التمويل، بالرغم من أهمية ذلك، لكن بالأساس حالة الحرب، المستترة أحيانا والمكشوفة أحيانا، الموجودة بين المدرسين والطلبة. وينبع هذا بدوره من دور المدارس في ظل الرأسمالية في إعادة إنتاج البنية الطبقية للمجتمع. فالمدارس تنخل تدريجيا أولئك المقدر لهم الانتماء لمواقع الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة (هذه هي الوظيفة الحقيقية للامتحانات) وتعد الباقي للاستغلال والعمل المغترب. ونظام من هذا القبيل، تصم بنيته حتما الغالبية بالفشل، لا يمكنه بأي حال من الأحوال الحصول على حماس وتعاون ضحاياه – مهما كانت نوايا المدرسين الأفراد حسنة. فالطريقة الوحيدة التي يعمل بها هذا النظام هو عبر الإجبار السلطوي.

على النقيض من هذا، فسوف يسلح التعليم الاشتراكي الجميع، وليس القلة المختارة فقط، لكي يقوموا بدور إداري تخطيطي نشط. وستدور غايته حول تنمية الشخصية الإنسانية.

ستكون المدارس تعاونية بدلا من تنافسية. ولن يكون هناك حاجة لأن يساعد الطالب زميله بالغش. وستكون المدارس أيضا ديمقراطية وليست استبدادية. وسيخلي الدور الديكتاتوري لناظر المدرسة مكانه لمجلس منتخب للمدرسة يتشكل من ممثلين لمجالس الطلاب والموظفين والمدرسين والعمال. وسيتحول المدرسون إلى أناس يقدمون العون للطلاب – بمعنى أنهم يخدمونهم. وسيصبح الانضباط جماعيا بدلا من كونه مفروضا بشكل قسري كما هو الحال الآن.

وأولئك الذين يتخيلون أن هذا سيقود إلى انهيار لكل نظام، يجهلون ما يحدث داخل فصول التدريس في عالمنا المعاصر ويقللون تماما من قدر وقوة ضغوط مجموعات الأصدقاء والنظراء التي تتفوق على الاحتجاز والحبس والعصا في أي وقت من الأوقات.

وبينما سيتم تقليص أسبوع العمل تدريجيا، فإن الأعمال الأكثر مشقة سيتم القيام بها بشكل متزايد من خلال الماكينات، لذلك سيتحول التعليم لكي يصبح شيئا لا يتوقف عند السادسة عشر، الثامنة عشر أو الحادية والعشرين من العمر. سيستمر التعليم كعملية طوال العمر، وسيتحول ليصبح أقرب من أي وقت مضى لحل المشاكل والمهام العملية التي يطرحها المجتمع الجديد.

وما يصدق على التعليم سيصدق على الثقافة عموما. فسينتج المجتمع ما بعد الثوري ازدهارا عظيما في الفنون عبر إمداد الفنانين بوفرة من الأفكار الجديدة والملهمة. كما سيجلب جمهورا واسعا جديدا للفنون كجزء من عملية يقظة الشخصية الإنسانية التي ستحدث عندما تتحرك الطبقة العاملة من هامش المجتمع إلى مقدمة المسرح.

وبلا شك سيكون للموسيقى والرسم والشعر والدراما والسينما وباقي الفنون دور لتلعبه في كل من النضال الثوري ذاته وفي بناء الاشتراكية. لكن لا دولة “العمال” ولا الحزب الثوري سيحاولان أن يمليا أو يتحكما في الفن. لن يكون هناك تكرار للسياسة الستالينية الكارثية بمنع أشكال فنية معينة أو الإدعاء بأن إطارا فنيا معينا – سواء أطلق عليه الواقعية الاشتراكية أو أي شيء آخر – هو وحده الصحيح والمشروع. وباستثناء الحق في منع الدعاية المباشرة المضادة للثورة، ستقوم الحكومة الثورية بتعزيز أقصى حرية في هذا المجال. فبدون النقد النشط والجدل والتجربة وتعارض المدارس المختلفة، يستحيل حدوث تطور فني.

ومن الواضح أنه من المستحيل التنبؤ أو وضع صياغة قبلية لطبيعة فن المستقبل. بالرغم من ذلك أعتقد أنه من الممكن توقع تغير جوهري في العلاقة بين الفن والمجتمع بشكل عام. فالمجتمع الرأسمالي بفصله بين العملين الذهني والبدني، واغترابه وانقساماته يؤدي إلى الفصل بين الفن والفنان وبين الجماهير، وبينهما وبين العمل المنتج. الأكثر من هذا أن هذان الانفصالان يقويان بعضهما البعض. ويصبح الفن ساحة للمميزين تعبر فيها الأقلية عن نفسها بشكل خلاق بينما الأغلبية محكوم عليها بالعمل الميكانيكي الخالي من التعبير ومن الإبداع. وينقسم الفن، عاكسا انقسام المجتمع لطبقات، بين فن رفيع وآخر وضيع. ويصبح الفنان الرفيع عضوا في نخبة تتوجه لنخبة.

ستقضي الاشتراكية على هذه الأنواع المختلفة من الانفصال، ليس عبر إجبار الفنان على أن يكون شعبيا، ولا حتى برفع المستوى الثقافي للأغلبية، بالرغم من أن هذا سيحدث بالطبع. إنما ستجعل الاشتراكية من كل العمل نشاطا خلاقا وبالتالي سيصبح كل المنتجين بمعنى ما فنانين. وبطريقة مماثلة ستصبح كل مهارات الرسم والتصميم والمعمار والكتابة – مهارات كل أشكال الفنون – عناصر أساسية في العمل الجماعي الذي يستهدف إعادة تشكيل البيئة الإنسانية. وبالضبط بينما يصبح المنتج فنانا، سيصبح الفنان منتجا.

10 ـ من الحاجة إلى الحرية

الحرية هي الهدف النهائي للماركسية وللاشتراكية ولنضال الطبقة العاملة. وبالطبع، فإن البرجوازية حريصة على أن تعلن التزامها بالحرية: حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية الفرد في أن يفعل ما يريد بأمواله..إلخ. البرجوازية تعرف حق المعرفة أنها طالما تسيطر على وسائل الإنتاج، ومن ثم الثروة والإعلام والدولة، فإن هذه الحريات تبقى مقيدة للغاية وبلا معنى تقريبا بالنسبة للأغلبية الكاسحة. البرجوازية تعرف أيضا أنها تمتلك القوة لتقييد، أو في الواقع سحق، مثل هذه الحريات بأقدامها حالما تجد ذلك ضروريا.

على العكس من هذا، يدرك الماركسيون أنه في مجتمع منقسم لطبقات متعادية ومؤسس على الاستغلال ومحكوم من قبل رأس المال، ليست هناك ولا يمكن أن تكون هناك حريات مطلقة. نحن نفضح الحرية الصورية المجردة التي تعطيها لنا البرجوازية لأن ما نريده هو حرية حقيقية ملموسة.

الحرية من الجوع ومن الفقر (التي من دونها لا تعني كل الحريات الأخرى شيئا)، الحرية من الحرب، من الكدح الذي لا ينتهي، من الاستغلال، من الاضطهاد العرقي وعلى أساس الجنس – هذه هي الحريات الحقيقية التي نقاتل من أجلها. ويمكن أن تصبح جميعا حقيقة فقط من خلال تأسيس حرية الطبقة العاملة الإيجابية في إدارة المجتمع.

بالرغم من هذا، ففي مجرى تحقيق ذلك، تمهد الطبقة العاملة الطريق أيضا لحرية لم تكن البرجوازية لتحلم بها. على وجه التحديد حرية العيش دون مراقبة الدولة. عادة ما يزعم أن الماركسيين مؤمنون بالدولة. والعكس هو الصحيح، نحن خصوم للدولة.

فالدولة، بحكم طبيعتها، هي أداة للسيطرة والقمع، وسيلة يُخضع بها قسم من السكان قسما آخر بالقوة. ولا يمكن للدول إلا أن تكون مؤسسات للعنف. فبالأساس، كما كتب إنجلز، تتكون الدول من أجهزة للرجال المسلحين. أناس يحملون السلاح إما ليقتلوا آخرين أو لإجبارهم على فعل أشياء على غير إرادتهم، حارمين إياهم من حريتهم.

وينطبق كل هذا على دولة “العمال” الجديدة التي تولد من الثورة الناجحة، بالضبط كما ينطبق على الدولة الرأسمالية. وبالطبع هناك فارق. فالدولة الرأسمالية أداة للحفاظ على استغلال القلة للكثرة. ودولة العمال ستكون أداة للأغلبية لكبح هذه الأقلية من المستغِلين.

بالرغم من ذلك، حتى في أعلى نقاطها ديمقراطية، تبقى دولة “العمال” مؤسسة تقيد حرية البشر بطرق عديدة. في الحقيقة، حتى بالرغم من أن دولة العمال تمثل وتستلزم مشاركة أغلبية الطبقة العاملة، فهي لا تقمع فقط الطبقة الحاكمة القديمة لكنها أيضا تضع حدودا على حرية الطبقة العاملة ذاتها.

دولة العمال سلاح في الحرب الطبقية. وشن الحرب يعني ليس فقط الهجوم على العدو ولكن أيضا ضبط صفوفك، بالضبط كما تعمل مفارز الإضرابات (كسلاح نضالي في مواجهة أصحاب الأعمال) على ضبط العمال المتأخرين بمنعهم من العودة للعمل وكسر الإضراب.

لهذا فالحديث عن حرية كاملة – أو حرية للجميع – غير ممكن إلى أن يجيء وقت حل دولة العمال نفسها. ولطالما كان هذا هدفا نهائيا للماركسيين، هدف أعيد التأكيد عليه مرارا من ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي.

بالرغم من ذلك، ليس هناك افتراض ماركسي لم يهاجم ويتهم بشكل مستمر بأنه طوباوي ومثالي أكثر من افتراض ذبول وتحلل الدولة. لذلك تعالوا نفحص هذه الفكرة.

أولا لنكن واضحين في أن الماركسيين لا يقترحون أن الدولة يمكن الاستغناء عنها فورا (هذه هي وجهة نظر الفوضويين)، لكن أن ذلك سيتم فقط إذا تحققت مجموعة من الشروط. وقد تمت الإشارة لهذه الشروط قبل ذلك في هذا الكراس: الانتصار الأممي للثورة الاشتراكية، والهزيمة الكاملة للبرجوازية المضادة للثورة، القضاء على جذر كل استغلال وكل انقسام طبقي، تحقيق الوفرة المادية حيث يتم توزيع السلع وفقا للحاجة.

في ظل هذه الظروف، تفقد الدولة أهم وظائفها. لن تكون هنا طبقة قمعية لكي تحميها ولا طبقة مقموعة لكي تخضعها. وبتحقق الاشتراكية العالمية لن تكون هناك مصالح قومية (أو إمبريالية) لكي تفرضها أو مصالح أجنبية للوقوف في وجهها.

“ماذا عن الجريمة وإدارة الاقتصاد؟” سيسأل المتشائمون. في مجتمع اشتراكي بالكامل ستختفي الجريمة والغرض منها، ليس لأنه في ظل الاشتراكية سيصبح الجميع أخيارا أو كاملين أخلاقيا لكن لأنه ستتم إزالة دوافع وفرص الجريمة.

تعالوا نلخص الفكرة العامة ضاربين المثل بأحد أكثر أشكال الجريمة انتشارا، سرقة السيارات. غالبا ما سيحل المجتمع الاشتراكي المتقدم مشكلة المواصلات بطريقة من اثنين. إما أن كل فرد سيمد بوسيلة مواصلات مناسبة ومساوية، أو سيتم توسيع المواصلات العامة إلى نقطة يصبح عندها امتلاك وسيلة خاصة غير ضروري. وفي الحالتين لن يكون هناك لا دافع لسرقة السيارات ولا سوق لشراء السيارات المسروقة. وما ينطبق على السيارات ينطبق على باقي السلع.

يترك هذا لنا الجرائم البدنية كالاعتداء والقتل والجرائم الجنسية وما إلى ذلك. ولا تمثل هذه الجرائم بالفعل سوى نسبة صغيرة من الجريمة عموما. وفي مجتمع اشتراكي غير تنافسي يهتم بأعضائه بشكل متساوي، ستقل هذه الجرائم بشدة بلا شك. أما السلوك غير الاجتماعي الذي سيبقى فسيتم التعامل معه بأفضل طريقة ممكنة من خلال التنظيم الجماعي للمجموعات المحلية ولن يتطلب وجودا للدولة.

أما بالنسبة لإدارة الاقتصاد، يجب القول إنه في التحليل الأخير الاقتصادات هي التي تدير الدول وليس العكس. أما أن دور الدولة في إدارة الاقتصاد في عالمنا المعاصر قد زاد إلى ما صار عليه، فله سببان. الأول، محاولة تلطيف التناقضات الداخلية للرأسمالية (لم تحدث بشكل ناجح). والثاني، هو تنظيم قوى الرأسماليات القومية المتنافسة مع بعضها. ومع الاشتراكية سيتوقف الاحتياج لهاتين الوظيفتين.

وعلى ذلك ففي مجتمع المستقبل الاشتراكي ستذبل الدولة، وسيؤشر هذا لاختفاء آخر بقايا التراث البشع للمجتمع الطبقي والاستكمال النهائي لقفزة الإنسانية من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، وهو جوهر الاشتراكية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا