الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلزاك(سكرتير) التاريخ! والكوميديا (البرجوازية) بين الادب والسياسة (1)

ماجد الشمري

2018 / 8 / 12
الادب والفن


"ان الكتب ليست الا افعالا انسانية في حالة موات"...
-بلزاك-


قبل ان يكمل مخطوط مجلده الاول من(رأس المال) بصيغته النهائية المنجزة عام1867 كتب ماركس رسالة الى انجلس يطلب فيها منه ان يقرأ قصة بلزاك(التحفة المجهولة)والتي وصفها بقوله في تلك الرسالة:"ان هذه القصة هي تحفة صغيرة بذاتها،او تسودها روح سخرية بهيجة".ومضمون القصة معروف للمطلع على نتاج بلزاك الادبي.وهي باختصار: عن رسام سعى من اجل بلوغ الكمال الفني التشكيلي.وبعد عمله لعشر سنوات في لوحته،معتقدا بأنه افلح في انجاز تحفته الكاملة،فلم يجد فيها اخيرا سوى ماقاله:"ليس ثمة معنى"!فهاج غاضبا وطرد صديقيه اللذان حضرا لمشاهدة ابداعه الباهر،واحرق لوحاته ثم انتحر!.وماركس كان يستبطن وهو يقارن بروح نقدية ساخرة بين قصة بلزاك الفلسفية العميقة حول الرغبة والشغف الانساني لبلوغ الكمال الفني -المستحيل،،وبين عمله النقدي والاهم(رأس المال)والتعبير عن مدى قلقه الدائم،وهوسه الموسوس لتحقيق اقصى الكمال والاحاطة عرضا وتحليلا ونقدا لبنية نمط الانتاج الرأسمالي وبيان تناقضاته وازماته.وقناعته بأنه لم ينتهي من وضع اللمسات الاخيرة-بعيدة المنال- لكتابه العمدة في تشريح الرأسمالية ورصد آليات حركتها.وهذا ماقاله حرفيا:"كلا.كلا لم يزل يتحتم علي وضع اللمسات الاخيرة،امس اعتقدت عندما هبط المساء اني انتهيت من كتابته،ولكن عندما طلع ضياء الصباح ادركت اني كنت مخطئا".فماركس لم يصل للرضى التام عن بحثه ذاك،والذي كان في حالة صيرورة ونضوج مستمرة،فهو كان يحذف ويضيف،ويدقق ويمحص ويعيد صياغة نصه، ويملأ مخطوطه بالهوامش والتذيلات والتعليقات!.فرفيق ماركس الدائم كان قلق الرغبة في الكمال والانجاز التام.ومنذ ان شرع ماركس في كتابة رأس المال عام1847 وهو يجادل ناشره الالماني حول تأخره في ارسال مخطوط المجلد الاول،ويعلل تأخره بالمراجعة ووضع الصياغة النهائية للكتاب،ولكنه لم يفعل!.فقد كان حريصا في مراجعته لما يكتب،فيعيد الكتابة بعد كل مايستجد او يطلع عليه من وقائع ومعلومات جديدة تفرض عليه التعديل او التغيير واعادة الصياغةمن حذف واضافة،وقد استغرق هذا ماينيف على عقد ونصف،وكتاب رأس المال لم يكتمل الا مجلده الاول،فهو بعيد عن الكمال كتحفة بلزاك المجهولة والمشوشة!.فماركس كان يرى نفسه كفنهوفر-بطل بلزاك،م.ا- الفنان الطامح للوصول الى الكمال في ابداع تحفته الفنية،والتي تمخضت عن لاشيء بعد ان عمل عليها لاكثر من عشرة اعوام!.كان ماركس يرغب بأن يجعل من(رأس المال)تحفته الفنية في مجال الاقتصاد السياسي لامن حيث المضمون فقط بل من حيث الاسلوب والصياغة والتعبير البلاغي الساحر.وهذا مايثبت بأن ماركس كان متأثرا بالادب والشعر والفن اولا، واكثر من اهتمامه وتأثرة بالفلاسفة والمفكرين،فالادباء والشعراء هم ملهموه،وكان بلزاك واحدا من ابرزهم. في هذا المضمار.- لقد عرجنا على ماركس في هذه المقدمة،في حين ان المقال عن بلزاك ،لنبين اهمية ودور رائد الوافعية الفرنسية في النصف الاول من القرن التاسع عشر على المفكر الابرز لذلك القرن والذي تلاه،وليس من الصدفة ان ماركس كان يفكر بكتابة بحث عن بلزاك، ويتمنى الانتهاء من مااسماه"اللعين الاقتصادي"ل"رأس المال"لكي يتفرغ لذلك البحث،ولكنه مع الاسف لم يحقق ذلك،فهل هذا من سوء او حسن الحظ حتى ينجز كتابه الكبير(الرأسمال) الذي لم يكتمل!-..
ولد اونوريه(هنري)دي بلزاك في 20 مايو عام1799-وتوفي في18 اغسطس عام1850-روائي وصحقي وناشر وناقد ادبي ورجل اعمال فاشل!. -وكما يقول مثلنا الشعبي العراقي:"سبع صنايع والبخت ضايع"!-وهو رائد الرواية الواقعية الى جانب غوستاف فلوبير.كان غزيرا في انتاجه القصصي والروائي والكتابة الصحفية خلال نصف القرن الذي عاشه.كانت اعماله بانوراما كاشفة،وصورة حية،وانعكاس مرأوي للمجتمع البرجوازي الفرنسي ابان عودة الملكية1815-1830-وملكية تموز1830-1848عاصر افول الامبراطورية البونابرتية وثورتان وملكيتان،والمد البرجوازي الطاغي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.وكل ذلك انعكس في ماكتب من روايات كانت تصور الواقع بحيادية وتجرد مع انها تخالف اهواءه ومعتقداته المحافظة.
كتب بلزاك91رواية و137قصة قصيرة على مدى ثلاثين عاما هو عمره الادبي.وحضى بلزاك باهتمام وتقدير الكثير من معاصريه:مفكرين،وادباء،وراديكاليين لما في رواياته من نقد اجتماعي حاد وساخر لحياة وقيم الاقطاع والملكية والبرجوازية الفرنسية الصاعدة دون ولاء او انحياز سوى للحقيقة وحيثيات الواقع المعاش.تلك الفترة العارمة من الغليان والاحتدام والصراع والهزائم التي عاشها،بين حلم الثورات بعالم افضل،والآمال الرومانسية التي تعثرت واندحرت،وبين كابوس الواقع المر لبرجوازية جشعة متعطشة تعبد المال،تنكرت لكل القيم والفضائل الجديرة بالاعتبار ماخلا فضيلة كنز المال وتثميره،وتجاوزت ماضيها وشعارات ثورتها الثورة الفرنسية الخالدة عن الحرية والمساواة والاخاء..
ومن بين الذين اعجبوا ببلزاك اضافة لماركس وانجلس، لوكاش،وهاينه،وبليخانوف،سانت بوف،ستندال،لامارتين،بروست،وغيرهم الكثير ممن عاصره..من الناحية السياسية والدينية كهوى او رأي او ايمان كان بلزاك من دعاة الملكية المطلقة ومن الملتزمين بالكاثوليكية.وكان يكره بشدة ملكية تموز وحكم لويس فيليب"ملك رجال البنوك"-كما كان يلقب-والذي انتهى حكمه في ثورة1848-قبل موت بلزاك بسنتين-وكان بلزاك يفضل حكم الجمهورية على حكم لويس فيليب،ان لم تكن هناك فرصة لعودة الشرعيةللملكية المطلقة.وقد نحقق ماتنبأ به من سقوط مدوي لملكية تموز،وانتشار الدعوة للديمقراطية والاشتراكية ابان ثورة شباط وانتفاضة حزيران عام1848في باريس. وقد اعتبر بلزاك تلك الهبات السياسية الراديكالية كنتيجة لعجز البرجوازية وانانيتها وجشعها المالي على حساب الديمقراطية والغدالة الاجتماعية،ولامبالاتها بسخط وبؤس الكادحين والطبقات الفقيرة..
ليس هناك من مفكر او روائي كتب او دون مجريات المخاض العسير والمؤلم لتاريخ حقبة طويلة من تاريخ فرنسا واوضاع الطبقات في الفترة الانتقالية وصعود النظام الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا،والتدهور والانحطاط القيمي والروحي,والذي لوث كل الطبقات العليا والدنيا،كما فعل بلزاك بقلمه-مبضعه في ملحمته البشرية"الكوميديا الانسانية".كان بلزاك حزمة من التنافر والغموض والتناقض،فهو كان انسانا منشطرا في اهواءه بين الملكية المطلقة والكاثولوكية في آراءه السياسية والدينية،وبين امانته وصدقه في ابداعه الروائي القاسي في واقعيته، تلك الواقعية التي كانت تفرض نفسها عليه وهو يجابه يوميات مايحدث في قلب المجتمع الهادر بتحولاته وصراعاته،وايضا تصوراته الرومانسية وشطحاته الخيالية في قصصه السوداء،وبين رغبته الملحة في الصعود الاجتماعي والاغتناء والوجاهة.
كان بلزاك يكره الثورات وصراعاتها وفوضاها.ولكنه عبد مآلها وانقلابها العسكري،برمزها السياسي التاريخي المشخص بنابليون بونابرت الذي اعتلى بقايا الثورة،لينتج منها مسخها الامبراطوري!.لقد كان بلزاك برجوازيا صغيرا نموذجيا في تذبذيه الفكري وخياراته السياسية،وكان يتطلع بحماس للانسلاخ من طبقته والارتقاء لمرتبة ارقى طبقيا.وهو غارق في وحل الحاجة والديون،فكانت تتجسد فيه كل تناقضات وتلون وتذبذب طبقته النغلة وانتهازيتها وانانيتها ومصلحتها الممزقة والحائرة بين احلامها الوردية المستحيلة،وحقيقة بؤسها القاتم الدائم لتقف في برزخ العذاب كطبقة مرعوبة من البروليتاريا ومسحورة بالبرجوازية!.ولكن بلزاك يبقى من الناحية الادبية رائدا نزيها ومحايدا في نقل الواقع وهو يبدع في شخصيات رواياته الواقعية والامينة في عرضها لاوضاع المجتمع البرجوازي الفرنسي لتلك الفترة.
وصف انجلس بلزاك ومدى اهميته بالنسبة لماركس قائلا:"ان ماركس كان متحمسا لل"الكوميديا الانسانية"،هذا العمل الادبي الذي يعكس ويصور مرحلة تاريخية بكاملها".وماركس بدوره اقر بذلك عندما قال:"لقد تعلمت من هذه"الكوميديا الانسانية"اكثر مما تعلمته من جميع المؤرخين المحترفين والاقتصاديين والاحصائيين في هذه الفترة".وقد أبن فكتور هيجو بلزاك عند قبره واصفا اياه بقوله:"فأن شاء ام ابى،فمؤلف هذا العمل الجبار والفذ-يقصد الكوميديا الانسانية.م.ا-ينتمي الى النخبة الممتازة من الكتاب الثوريين".وعن الكتاب الذين جاءوابعد بلزاك اشار لهم بليخانوف بهجاء قاس قائلا:"انهم لم يكونوا اطفالا جديرين بأبيهم".وقد مدحه تولستوي معترفا بفضله عليه،وانه تعلم الكتابة بعد ان قرأ بلزاك.وكان الشاعر الالماني الثائر هنريش هاينه من الذين اعترفوا مبكرا بعظمة واهمية ادب صديقه بلزاك.وعن بلزاك قال غوركي:"انه شفاه من رومانيكيته المضطربة".وكان اسم بلزاك وادبه هو راية الهجوم التي رفعها نقاد الادب الماركسيين في فرنسا وغيرها من بلدان ضد ادب اميل زولا،ومنهجه الطبيعي المبتذل،وغيره من الكتاب الذين لم ينعكس الواقع الصادق في مرارته في ادبهم ابدا.وهكذا نجد ان بلزاك بهذه الشهادات المهمة بحقه التي تثبت بأنه كان فنارا مضيئا لسفن الادب التائهة!...
.......................................................................................
يتبع.

وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بلزاك العظيم المنسي
محمد عبد الجبار ( 2018 / 8 / 14 - 23:01 )
ابدأ بشكري الجزيل للاستاذ ماجد الشمري لكتابته حول الاديب العظيم بلزاك الذي و للاسف لم يتناوله احد لحد الان منذ ان بدأت اتابع صحيفة الحوار المتمدن،
بل لم يتجرأ احد من كتاب الحوار لتعريفنا على الاقل ببلزاك و لا بأعماله ، و لا اعرف السبب ! هل لعدم اهتمامهم بأعماله و بقيمتها الادبية ام لعدم وجود جدوى من الكتابة حول اديب عاش في بداية القرن ال19 .
اتمنى ان يقرأ الجميع هذه السلسة من المقالات حول هنري بلزاك لاهميتها .
و شكراً مرة اخرى استاذ ماجد الشمري على هذا الاسلوب البسيط السلس المفهوم للجميع و ابتعادك عن المسطلحات المقعرة و المعقدة ليتسنى للجميع فهم مقالاتك رغم انها تتناول مواضيع دسمة و مهمة و ذات بعد انساني عميق .


2 - أروع ما نشرناه في مروج التمدن
حميد كشكولي ( 2018 / 11 / 4 - 20:50 )
شكرا صديقنا الرائع لهذه الكتابات الرائعة عن العظيم بلزاك..
بدأت بقراءة سفرك المجيد بحلقته الأولى وأتمتع بها أيما متعة!
أتمنى لك التوفيق وإلى المزيد من تنويراتك المبهجة
ألقاك على خير
حميد

اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض