الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية مهاجر سابق: الفقر والخوف والمال وضبابية المصير ! (2 )

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2018 / 8 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



غادر بلاده ناقما ورافضا للوضعية المزرية التي كان يعيش فيها، لا يعرف ما إذا كان سيرجع أو لن يرجع أبدا، جدته كانت تحدس أنها لن تراه بعد ذلك، لأن عمرها ناهز التسعين، وفي ذلك الصباح الضبابي استيقظت بشكل مبكر منتظرة إياه على عتبة الباب وهي تذرف الدموع، وظلت حتى وفاتها تتألم على فراقه، وبين لحظة وأخرى تتذكره قائلة: 《فين لاح راسو الزغيبي》رحلت عام 2007، بينما لم يعد هذا المهاجر إلى بلاده إلا في سنة 2011 .
وصل ثمن هجرته إلى إيطاليا 3 ملايين ريال ، مليونان جمعهما من عمله، بينما المليون الآخر حصل عليه من العائلة، توجه إلى ليبيا وقضى هناك شهورا طويلة في محجز للمهاجرين منتظرا البحر . ترك بطاقته الوطنية في المغرب، بينما جوازه بقي في ليبيا. قبل أن يركب السفينة صلى ركعتين ونطق الشهادتين لكي يذهب إلى الجنة في حالة إذا ما غرقت السفينة ومات . لقد ترك الصلاة منذ 10 سنوات، كان يصلي ويؤم الناس ويؤذن، وبعد ذلك رمى كل هذه الطقوس جانبا وراح يتعاطى للخمر ويدخن ويمارس الجنس مع النساء، مات معنى الدين في كيانه، سرعان ما رجع خلال هذا القرار المصيري، فكر أكثر من مرة في الموت وطفا كالشبح المخيف، كان يرتعد ولكن في الأخير قرر مصيره، ماذا ترك وراءه ؟ لا شيء . لا يمكن أن تضيع ثلاثة ملايين في الهباء.
استغرقت الرحلة يومين، كانت الرياح قوية، عانى 《الحراكة 》 من البرد الشديد، شعروا بالجوع الماحق، وكلما توقف القارب جراء الأمواج العاتية وارتماء المياه إلى حضنه، كان المهاجرون 《الحراكة》 يرمونها نحو البحر، والملفت في هذه الرحلة، أن البعض كان يقرأ القرآن، والبعض الآخر كان يشهد ويصلي في مشهد جنائزي رهيب، إذ الجميع كان يستشعر الموت كلما اشتدت الأمواج المتلاطمة والمترامية وخاصة في الليل البهيم الذي اكتسح البحر وضاعت البوصلة والجهة .
بيد أن عناصرا من خفر السواحل الإيطالية أنقذوا الموقف، وقادوا القارب نحو جزيرة لامبدوزا وهناك استضافوا المهاجرين وأطعموهم، إلا أنهم استطاعوا الفرار من المحجز والتيه وسط الأدغال والغابات، فوجد هذا المهاجر سودانيا وأعطاه 2000 درهم مقابل ملابس وأكل وسفر إلى الشمال الإيطالي على متن القطار .
وجدير بالذكر أن أحد أفراد عائلته المقيم بإيطاليا هو من دفع عنه ذلك المبلغ، سرعان ما أرسل له الوالد المال من المغرب وأرجع المال المسدد إلى من ساعدوه في هذه المهمة المصيرية، ويحكي هذا المهاجر عن الرحلة التي كانت عبر القطار واصفا إياها بالرحلة التي لا تنسى، انطلقت من الجنوب الإيطالي نحو الشمال، لقد قطع ما ينيف عن 1400 كلم، أكثر ما لفته هو الكثير من الغابات الكثيفة، إلا أن الهاجس الذي كان يسيطر عليه هو الوصول إلى ميلانو دون أن توقفه الشرطة التي صعدت إلى القطار لحظة الوصول إلى العاصمة روما، غير أنهم لم يتكلموا معه، وبعد ذلك تاه في نوم عميق، لم توقظه إلا صرخات القطار عند مشارف ميلانو .
بعد وصوله إلى ميلانو، اشتغل في البناء ب 500 درهم يوميا، ومن هذا المبلغ كان يدفع 150 dhs شهريا كثمن للكراء، قضى خمس سنوات يجمع المال، وفي الأخير تمكن من الحصول على أوراق الإقامة.
وبينما كان متأهبا للعودة إلى المغرب، سقطت له الأوراق، فكانت هذه الحادثة بداية ضياعه الوجودي، وإن كان قد حصل عليها مرة أخرى، فمازال يعاني بسبب الخطأ الجسيم .
رجع إلى المغرب عام 2011، كان الجو ربيعيا. وجد في استقباله الأخ الأصغر بمطار محمد الخامس، كانت لحظة غامرة بالفرح، لا تنسى أبدا. طيلة 5 سنوات تغير كل شيء ... هذا الأخ الذي ينتظره تركه صغيرا يلعب في الاعدادية ولا يعرف إلا أمه ، فوجده يتكلم لغة فلسفية ولا يناقش إلا بماركس ولينين وفيورباخ . خرج من المطار حليق الشعر ويجر خلفه حقيبة ولاح الأخ في البعيد، اقترب منه و عانقه بشدة. ورجعا معا في السيارة . لم يفهم ما كان يقوله الأخ وهو يتكلم عبر الهاتف مع رفاقه في الجامعة عن النضال الطلابي !!
وصل إلى المنزل، تغيرت معالم المنزل كثيرا . أزيلت الشجرة العتيقة التي كانت تقبع في وسط المنزل، حيث كان يعشش الحمام والفراخ ، وتلاشى الكوخ القزديري القديم حيث كان ينام فيها على سرير خشبي، بالمقابل بنت الوالدة غرفا جديدة من الإسمنت، ذهل من هذا المنظر وهو يأخذ الطريق المتربة على بعد كيلومترين من المنزل. وجد عمه في الطريق، عانقه بشدة، منحه سيجارتين من نوع 《مركيز》 وقال لأخيه : 《عمي صار نحيفا》 لم يبال به الأخ الذي كان ساهما يفكر في استقبال تم انتظاره طيلة خمس سنوات .
ها هو المنزل الريفي، كان أول النازلين. وجد أمه في استقباله، قبلها وعانقها بشدة وذرفا دموعا غزيرة، بينما أخته التي كانت تحمل ابنها في يديها عانقها هي الأخرى، وجاءت بعد ذلك عمته وتجمع من حولهم نفر من الأطفال وعم جو ربيعي بهيج تمنى لو دام العمر كله . ها هو قد دخل والمنزل الذي تركه لم يعد هو الآن والأثاث ليس هو نفسه. والجدة التي ودعته لم تأت لاستقباله. والمؤسف أنه لم يسأل عنها، كان يعلم أنها رحلت ولكن لم يزر قبرها . رجع بفكرة دينية سلفية مضمونها: حرام زيارة القبور !! حتى شخصه تغير جذريا، وذهنيته تبدلت ولا يناقش إلا بالفوزان والحويني !!
قضى شهرا ربيعيا جميلا لا ينسى، وبعد سنتين تزوج . إن الفتاة التي تزوجها لم يكن يحبها وطلبت منه تهجيرها إلى أوروبا. رفض، لأن امكانياته المادية لم تساعده، وبعد ذلك بدأت عملية التطليق التي كلفته شهورا طويلة من العذاب النفسي . أصيب بالإحباط والكآبة والمرض النفسي . لكنه بعد مضي شهور استرد عافيته واشتغل عند إيطالية مقابل الاهتمام بوالدها المسن والعجوز الذي قال له ذات يوم: 《 أنت مجرد كلب حراسة لدي》 لكن مقابل الإهتمام به وتنظيفه كان يحصل على 10 آلاف درهم شهريا، غير أنه ذات يوم وهو مستعد لتجديد أوراق الإقامة حصل خطأ في كتابة اسمه، فمزق الأوراق وأصيب بمرض نفسي. فقد من خلاله عمله ومنذ ذلك الحين وهو غارق بين الذهاب والإياب إلى إيطاليا لا يعرف الوجهة التي يجد فيها خلاصه، تغير كليا لم يعد يضحك ولا يبتسم، صار يصرخ وفي فمه إيطاليا . صار ضائعا من الناحية الوجودية . لازم البيت العائلي وهو يتناول الدواء وغير مهتم بمشروعه التجاري الذي فتحه بالمغرب، وصار منهجسا بعمله المفقود الذي أصبح يتكلم عنه في كل الأوقات. خلال 14 سنة تحول وتقلب في كل الاتجاهات، انمحى ذاتيا ونفسيا واجتماعيا وفيزيولوجيا . والحلم لم يبق منه سوى السراب !!

ع ع/ بنسليمان- المغرب / 13 غشت 2018 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف