الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإيديولوجيا حين تصطنع الهوية وتفارق الحقيقة: الصهيونية كمثال دالّ

محمد عبد الشفيع عيسى

2018 / 8 / 14
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


يمكن تعريف الإيديولوجيا السياسية بأنها منظومة من الاعتقادات المعبرة عن مجموعة من الرؤى والمصالح و المشاعر لجماعات اجتماعية معينة، مقابل جماعات أخرى، و تتسم بقدر معين من الثبات النسبي عبر الزمن، و بالتزام قوي من طرف معتنقيها.
بعبارة أخرى، إنها تمثل النظرية وقد انخرطت في الممارسة أو الحركة السياسية، و إنها تبلور الصورة التي ترغب الجماعة في أن تنظر إلى نفسها وإلى الأغيار من خلالها، كمقدمة للفاعلية الحركية. أي أنها تبلور ما يعرف بالهوية. و تتباين الإيديولوجيات من حيث القرب أو البعد عن تمثل الحقيقة الموضوعية للكون والمجتمع، فقد تقترب، اقترابا شديدا من تلك الحقيقة، لدرجة التطابق النسبي؛ وقد تبتعد، عن الحقيقة ابتعادا تاما لدرجة صيرورتها نوعا من "الوهم". وهذا الأخير هو مانجده منطبقا على الإيديولوجية الصهيونية، على سبيل المثال الدالّ، كما سوف نرى.
ولقد بدأ شيوع مصطلح الإيديولوجيا خلال القرن التاسع عشر فى خضم توسع المدى العقائدى للفكرة القومية فى أوروبا. و كان لكارل ماركس (1818-1883) نوع من فضل الريادة فى استخدام المصطلح بمنحى اجتماعى، فى كتابه (الإيديولوجية الألمانية) الصادر سنة 1845. و بشكل عام كان للإيديولوجيا دلالة سلبية أو (رجعية) إن شئت. وبهذا المعنى، فإن "كارل مانهايم"( 1893-1947) رائد "علم اجتماع المعرفة"، فى كتابه (من الإيديولوجيا إلى اليوتوبيا), خصّ مصطلح اليوتوبيا بالمدلول الثورى القائم على التغيير ذي الطابع التقدمي، كنقيض للإيديولوجيا التي تميل، عنده، إلى إضفاء الشرعية على الوضع القائم.
ولكن "الإيديولوجيا" سرت مسرى النار فى الهشيم، فى أتون توسع وتعمّق كل من الحركة الاشتراكية وحركة التحرر الوطنى التنموية خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستخدمت في كليْهما بالمعنى الثورى العام.
ونحن نرى أن الإيديولوجيا يمكن أن تكون (ثورية) كما قد تكون (رجعية)، وهى فى الحالين تطبع صورة الهوية القومية أو الطبقية أو "الجماعوية" على صفحة الفكر ذى الطابع الفلسفى، لتعبر عن رؤى ومصالح ومشاعر مندمجة فى كلٍ عقائدى ملتحم.
بهذا المعنى نرى أن الصهيونية هى إيديولوجية قبل أن تكون حقيقة تاريخية، وهى إيديولوجية رجعية بالتأكيد . و كذلك كانت منذ بلورتها في أعمال (المؤتمر اليهودى العالمى) بدورته الأولى المنعقدة بمدينة بال السويسرية عام 1897 بقيادة هرتزل، كتمظهر حديث للفكرة "اليهودية السياسية" الرافضة دائما لفكرة الاندماج الأوربي والساعية إلى "الانسلاخ" ( انطلاقا من الانعزال "الجيتوي"). وقد وقع ذلك عبر البحث عن "ملاذ وطني" للأقليات اليهودية، يكون خارج بلدانها الأصلية الواقعة في القارة الأوربية بالذات، شرقا وغربا، ( وليكن ذلك في أوغندا أو الأرجنتين أو فلسطين أو غيرها) هروبا مما يعتبرونه "الاضطهاد". و تفاعلت تلك الفكرة ببذورها وجذورها مع تطورات الأحداث في أوربا على امتداد القرن التاسع عشر، على نحو ما تم تصويره بمناسبة الحادثة المعروفة بقضية "دريفوس" بفرنسا، لتصوغ فكرة "الانسلاخ" للتخلص من "الاضطهاد".
وقد تمت محاولات من أجل نقد ونقض الفكرة اليهودية السياسية، كما ظهر، على سبيل المثال، فى كتيب (المسألة اليهودية) لكارل ماركس، والمنشور عام 1843.

و تعتبر الإيديولوجيا الصهيونية الرجعية ردّة فعل إزاء ما سمّى بالمشكلة اليهودية فى أوروبا خلال العصور الوسطى والشطر الأكبر من العصر الحديث وخاصة خلال القرن التاسع عشر. ومنذ البداية شكلت مخرجاً لكل من العنصرية الأوروبية شرقيّها وغربيّها، ونظيرتها العنصرية اليهودية المتعلقة بأذيال رأس المال المالي الأوربي والإقراض الربوي على المستويين العالمي والمحلي، وذلك عن طريق محاولة تحويل اليهود من أقلية مظلومة أو مسودة إلى أقلية سائدة أو ظالمة .
هكذا تخيلت الإيديولوجيا الصهيونية منذ بداياتها صورة الأقليات اليهودية فى أوروبا كشعب يبحث عن (أرض وطنية مخصوصة) National Homeland وفي هذا السياق تم التواصل بين قيادات "المؤتمر اليهودي العالمي" والسلطات البريطانية المنتدبة استعماريا، من قبل "عصبة الأمم" على فلسطين، و ذلك حتى تم صدور "تصريح بلفور" (الإجرامى) البريطانى عام 1917 لصالح إقامة (سكن وطنى) لليهود فى فلسطين Establishment in Palestine of a National home for the Jewish People . وبعد ثلاثين عاماً تحول “السكن الوطني” المزعوم إلى "إقليم دوْلتيّ" عام 1948 وداخل فلسطين بالذات.
ومن ضمّ الإقليم المنتزع على امتداد ثلاثين عاما، وخاصة خلال "حرب النكبة"، ضمّه إلى ساكنة فلسطين الغزاة الجدد من المهاجرين اليهود المستوطنين، و إلى الحكومة التى كونتها "ميليشيات" المستوطنين الغازين، تتكون "الدولة" بمفهومها السائد فى علم السياسة الغربي، ذات العناصر الثلاثة (حكومة وسكان وإقليم) .. هى إذن الدولة State ولكنها ليست أية دولة، وإنما هى (دولة يهودية) – وإن شئت فقل "دولة لليهود" - بمقتضى قرارات (الأمم المتحدة)، وبالتحديد (قرار تقسيم فلسطين) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ( رقم 181 لسنة 1947) إلى دولتين : يهودية وعربية. وقد ابتلعت الدولة اليهودية فيما بعد الدولة العربية المفترضة ابتلاعا تاما.
و غلّفت مقتضيات الإيديولوجيا وقائع التقسيم، فطورت مصطلح "الدولة اليهودية" إلى "دولة يهودية ديموقراطية" تسمى بالعربية اسرائيل، وهو ما ورد فى وثيقة إعلان (قيام الدولة) المزعوم والمسمّى فى الإيديولوجيا (إعلان الاستقلال)، وترتب عليه طلب الاعتراف من أعضاء المجتمع الدولى، ثم طلب العضوية في (الأمم المتحدة). واستند قرار قبول العضوية تلك ( رقم 273 لسنة 1949) إلى قبولها "قرار التقسيم" آنف الذكر، المتضمن اقامة (دولة عربية)، والقرار 194 لعام 1948للجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص قضية اللاجئين .
اصطنعت الأيديولوجيا الرجعية إذن هوية ديمقراطية للدولة اليهودية، ولم تجد تناقضاً بين الهوية المؤدلجة هكذا وبين تطبيق "الحكم العسكري" إزاء أهل فلسطين لنحو ثلاثة عقود زمنية، معتبرة إياهم فى أفضل الأحوال من قبيل السكان الأصليين Nativesعلى غرار شعب الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية قبل "إعلان الاستقلال" للولايات المتحدة الأمريكية عام 1776 .
وقد دلت التجربة التاريخية للممارسة الصهيونية فى فلسطين (أى تفاعل الإيديولوجية مع الواقع) على أن هوة التفارق بين الإيديولوجيا والواقع غير قابلة للّردم أو التجسير. فالإيديولوجية ترسم صورة هوية (قومية) لشعب ليس بشعب (: الطوائف اليهودية القادمة من أقطار الأرض الأربعة تحت مسمّى رمزي :"الشتات" أو "الدياسبورا"). أما الواقع فمفعم بالمقاومة ،سواء أثناء و بعد 1948 ، ثم على إثر توسيع رقعة الواقع الاحتلالى عام 1967 ليصبح اليهود هم العدوّ ، من وجهة نظر العرب ، بعد أن كان العرب – بمقتضى الإيديولوجيات والممارسة الصهيونية – هم "العدوّ" من قبل. تجسّم الاحتلال إذن ليصبح عدواّ. ومن قلب "العداء الإسرائيلى"، نشأت منذ منتصف السبعينات – بعد حرب أكتوبر 1973 مصريا وسورياً – عملية "الأسرلة" أى العمل على تحويل العرب من أهل فلسطين الباقين فى بلادهم إلى "مواطنين إسرائيليين" فى دولة تزعم أنها "لكل المواطنين" .
بعد اتفاق أوسلو 1993 تنامى الوعى الوطني-القومى لدى الفلسطينيين الواقعين فى أسر الاحتلال منذ 1948، وهو الاتفاق القاضى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على الأرض المحتلة بعد 1967 (الضفة الغربية وغزة). وتنامي الوعي مرات أخرى، على إثر "الانتفاضة الأولى" – انتفاضة الحجارة - لعام 1988 ، ثم فى سياق "الانتفاضة الثانية" – للأقصى والاستقلال – منذ 2001 حتى 2004 ، وما تلاها.
وفى ظل تكثف الاستيطان الصهيونى فى الضفة الغربية و "القدس الكبرى" بعد 1967 ، برزت صورة الواقع المعاندة للإيديولوجيا. ولأول مرة يتجسد الواقع فى صورة مرآوية للهوية الفلسطينية ، على مرتكزات المقاومة متعددة الأشكال ، والمتجددة ، فى الضفة وغزة ، خاصة غزة ، ومرتكزات الديموغرافيا المتحولة فلسطينياً عن طريق قلب المعادلة السكانية بين العرب واليهود ليتجه إلى تعادل تقريبى بعد اختلال (سبعة ملايين نسمة تقريباً لكلّ، داخل حدود فلسطين التاريخية).
الهوية الفلسطينية، بادئةً بقدر متواضع من مساحات وأعماق الإيديولوجيا الثورية، امتدت وتجذرت عبر الزمن، لتصنع (واقعاً) مغايراً : حيث الاستيطان يبتلع الأرض، ولكن على العكس من ذلك يزيد كمّ و وعى البشر . سقطت إذن معادلة "الإبادة" الأمريكية للهنود الحمر (من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر) حين تم إلغاء البشر مع الاستيلاء على الأرض .
هنا فى فلسطين يحدث العكس : تنزع ملكية الأرض ويغزوها (العدوّ)، بينما أن (الآخر – العدوّ أيضا) لا يُنتزع ولا يتم تأثره سلبيا بصورة جوهرية بفعل الغزو، وإنما ينمو . في ظل هذا الواقع الذى تجسد على وقع الانتفاضة الثانية، ومن بعدها بنحو عشر سنين، بدأت الدوائر الأشّد تأدلجا فى المعسكر الصهيونى تطرح، منذ 2013 ، مشروعاً لتحويل صورة الإيديولوجيا-الوهم إلى قانون مشّرع ذاتياً، يضعه يهود إسرائيل لأنفسهم، لحماية (الذات) من (الآخر – العدوّ) . إنه مشروع القانون الذى طرح على برلمان (الدولة) ليؤكد اليهود فى إسرائيل لأنفسهم هوية اصطنعتها الأيديولوجيا، أنهم يهود ويظلون كذلك، وكذا دولتهم: دولة يهودية بالذات، مع استبعاد كلمة "ديموقراطية" من تعريفها.
هذا هو فحوى مشروع القانون الذى تم إقراره – بأغلبية ضئيلة مع ذلك – فى (الكنيست) صبيحة يوم 19 يوليو 2018 أو يوم 18 يوليو بليْل، (إسرائيل كدولة قومية (دولة –أمة (Nation-State للشعب اليهودى .
بذلك تخيلت الإيديولوجيا هوية قومية قائمة على الإنتماء الدينى، أمه دينية ، إن شئت ، أمة يعلن قيامها بقانون . وهل تنشأ الأمم بقانون؟ أم أن "تكوّن الأمم" هى عملية تاريخية معقدة طويلة الأجل، لدرجة أن من المشكوك فيه أن يُعتبر "الأمريكيون" "أمة" بالمعنى العلمى ، من وجهة نظر العديد من دارسي الأمم والقوميات المعاصرة .

الإيديولوجيا إذن شرعت لنفسها صورة قانونية للهوية : اسرائيل كدولة –أمة للشعب اليهودى : Israel as the Nation-State of The Jewish People دولة-أمة ، لشعب يقيم على أرض غيره ويسميها "أرض اسرائيل" ، التى يعرفها صهيونيون كثر بأنها تشمل عبريا : (يهودا والسامرة) – كامل الضفة الغربية. أما "أهل فلسطين" فهم خارج (الدولة- الأمة) لأنهم خارج الأمة، وليسوا من الشعب فى دولة ليست لكل مواطنيها. إنها إسرائيل التى لم تعد تعمل على تعميم (أسرلة) السكان وإنما تعمل على تقسيمهم إلى شعبين : شعب يهودى ليس بشعب ملتحم فى الحقيقة بالمعنى السوسيولوجي-التاريخي، وشعب عربيّ هو عين الحقيقة.
إسرائيل إذن لم تعد هى إسرائيل، إذ يقرر مصيرها طائفة من السكان دون غيرهم ، لهم لغتهم الرسمية وأعيادهم ورموزهم، دون سواهم. و إسرائيل هذه (غير الإسرائيلية) أُعلنت، وشرعّت لنفسها من هو "الأنا" ومن هو "الآخر-العدو"، حين اصطنعت لنفسها إيديولوجيا تعكس على مرآة ذاتها هوية مخصوصة متطابقة مع النزعة "العدوانية" نحو الخارج.
فإلى أين تتجه تلك الإيديولوجيا بأصحابها؟ وإلى أين يذهب مسار الهوية التى اصطنعتها الإيديولوجية اصطناعاً، فى تعارض كليّ مع الواقع ؟
هذه هي المسألة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الغزو الإسلامى
طارق المصرى ( 2018 / 8 / 14 - 18:11 )
الأستاذ/ محمد عبد الشفيع
أعتقد أن أيديولوجية الصهيونية الرجعية فى غزو فلسطين وأستعباد شعبها ، هى نفس الأيديولوجية التى أتبعها المسلمون الأوائل عندما قاموا بفتح الشام والعراق ومصر وتم تطبيق الأيديولوجية الإسلامية بقيادة عمرو بن العاص وأحتلوا مصر وأصبح المسلمون العرب الغازين هم أصحاب البلد مصر وامتلكونها رغم أنف أصحابها، وأعداد قليلة غازية قامت بحكم الأغلبية المصرية.
هذه الأيديولوجية الإسلامية الدينية الرجعية هى التى تحكم وتتحكم فى بلد الحضارة، وهى نفس الأيديولوجية التى يريدها السلفيين والأخوان المسلمين ويحلمون جميعاً بإعلان مصر إسلامية تماماً مثل الصهيونيين الذين أحتلوا فلسطين رغم أنف العرب، لأنهم أستعملوا نفس الأسلوب الإسلامى فى غزو البلاد بأسم الدين!!
أليس هذا هو التاريخ والواقع الذى يصعب قبوله على أبناء مصر والعرب المسلمين؟؟
أليست هذه هى الحقيقة التى يعيش فى ظلالها الأديان الأرضية الرجعية سافكة دماء البشر؟


2 - ماذا عن العروبة؟
محمد البدري ( 2018 / 8 / 15 - 05:55 )
شكرا للسيد كاتب المقال الذي فتح جرحا ملئ بالصديد اسمه العروبة التي تاسست قبل
الصهيونية
لقد اعفاني السيد المعلق طارق المصرى عما يمكن قوله، فشكرا له علي تعليقه الدسم

اخر الافلام

.. الطائرات من دون طيار الفاعل الرئيسي الجديد في الحروب


.. سيول جارفة ضرب ولاية قريات في سلطنة عُمان




.. دمار مربع سكني بمخيم المغازي جراء القصف على غزة


.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: سنرد على إيران وقاعدة نيفاتيم




.. بايدن ينشغل بساعته الذكية أثناء حديث السوداني عن العلاقة بين