الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعرة ريما محفوض، رافضة للواقع ومنفعلة بقبوله !

وجدان عبدالعزيز

2018 / 8 / 14
الادب والفن


لا ادري كيف ارد على الكرم السوري بكرم عراقي اخر ، فمن باب اللياقة ان تمعن في قراءة اربعة دواوين دفعة واحدة .. قامت باهدائي اياها الشاعرة ريما محفوض ، والا كيف يكون الوفاء لهذا الكرم ، لذا بدأت بسياحة جمالية مع كلماتها ، فنحن النقاد قد نستعمل اجراءاتنا النقدية وفق مقتضيات المشاركة ومحاولة الحصول على المعنى .. ولاشك فان الدواوين الاربعة هي (توحد مع القمر) ، و(جسور متأرجحة) ، (حلاوة الملح) ، و(ريتا) كلها اتخذت لغة القصيدة النثرية المرنة ، حيث (كان الكلام الثر الذي توفره قصيدة النثر ـ وقد تخلص من عبء الوزن والقافية ـ قابلا لمثل هذه الوظيفة ومكيفا لها ، على النحو الذي انفتحت القصيدة فيه على شكل من اشكال الحرية والرحابة والاجتهاد) ، وهذا الامر جعلني اخفف من اجتراحات النقد ، لأتماشى مع لغة النثر الشعرية المنفلتة في حدائق الكلام ، تجمع الرحيق لتكوين ذلك العسل في اواني قصائدها ، لكن الظاهر ان الدواوين الاربعة انساقت مع النثرية اكثر من اللازم ، وهذا الامر جعلني ابحث في مظانها الاخرى ومحاولة ايجاد دالة تربط بين الايقاع الذي يضع الكلمة في جو الكتابة ، وبين المعنى الذي يمنحها الروح ، وقد التقي مع تعاليم زرادشت بقوله : (فكّرْ جيدا، قُلْ جيدا، اعملْ جيدا) أي هناك توازن وتوازي بين الشكل والمضمون ، تماشيا مع أمتزاج تجربة الشاعر وموهبته سيضفي بالطبع على بناء النص الشعري طابعا مبدعاً ويجعله اكثر جمالاً وروعة، ومن هنا نستطيع القول إنه شعر جميل، وكذا لابد من وجود الوعي الشعري الذي يتكفل الاختيار الامثل لمفردات النص .. وهذه التجربة والموهبة والوعي الشعري لاتكتشف الا من خلال القراءة الواعية ايضا .. وحتى اقرب المعنى ، اقول ان الشعر الحديث يحتاج الى وعي متزايد في التوغل بين ثناياه للحصول على لاليء البحر الضاج بمحتوياته .. فـ(الشعر عند (ادونيس) فعل تأسيس وليس فعل تعبير، بمعنى انه فن لغوي، واكد ذلك بقوله: "اذا كان الشعر لايعمل، وكان تسمية للاشياء، فمن الممكن تحديده بأنه فن لغوي: نوع فريد من اللغة الخاصة في عقل الكلمات. لكن ان يسمي الشعر الاشياء لايعني انه يوجدها من عدم، مادياً كما قد يتأول بعضهم، بل يعني انه يضفي عليها بعداً لاتنوجد ابداعياً الا به. ولئن كان الكلام الشعري، بين انواع الكلام، اكثرها لصوقاً بالنفس، وكشفاً عن العالم، فانه اعمقها قدرة على التسمية، واكثرها نفاذاً وصحة. وهو اذن في هذه التسمية لايعبر عن الاشياء أو الواقع، وانما يحرك جزءاً غفلاً من الكون، أو يوقظ قوى خفية ويشير الى ماليس معروفاً، فليس الشعر تعبيراً) .. هذا بُعد اخر يؤسس عليه ادونيس ، لكن الشعر مادامه فن قولي .. اذن هو فن تعبيري يؤسس لموقف معين .. فالكتابات العاطفية عن المحسوسات لابد ان تكون غزيرة بحالات الوصف والتعبير ، ( فالصور التي يكونها العقل عن تلك المحسوسات تكون أكثر تأثيراً من أي كلمات وصفية تحاول دائماً وصف الصورة نفسها. بالوصف الموجود في القصيدة، يتمكن القراء من أخذ الخبرة من الطرف الأخر من خلال تكوين صورة خاصة بهم- وبذات الأسلوب والنبرة العاطفية في الكتابة الرومانسية. مثل هذه الكتابات سيكون لها القدرة على التذكير بالنص دائماً. ليس هناك شاعر سواء كان رومانسياً أو من اتجاه أخر يستطيع ان يعرف ما هي المعاني التي يستقيها القراء من كتاباتهم. لأن كل قارئ له مفاهيمه، والقصيدة تشبه الصورة نلونها بمفاهيمنا الحياتية الخاصة. وعلى أية حال، بما ان القراء يستخدمون المعاني الخاصة بهم لفهم القصيدة، فسيكون للقصيدة تأثيرها الثابت والمستمر في اذهانهم.) ..
من هذه المقدمة استطيع الدخول الى عالم الشاعرة ريما محفوض التي تقول في قصيدة (طيف الحلم) من ديوان (توحد من القمر) :

(طَيْفُ الحُلْمِ يُشْبِهُكَ
تَارَةً يَرْتَدِي الضَّبَابَ
وَتَارَةً يَخْلَعُ النَّدَى
يَتْرُكُنِي لِمُخَيَّلَتِي
أَرْسُمُ لَكَ أَلْفَ وَجْهٍ
أَتَلَمَّسُ مِئَاتِ المَلامِحِ
وَرُوحِي لا تَرْسُمُ إِلَّا
قَلْبَاً وَاحِدَاً فَقَط
أَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِي السَّحَابِ
رَأَيْتُكَ رُوحَاً تُعَانِقُ رُوحِي
لِنُمْطِرَ مَعَاً
رَقْصَةَ أُغْنِيَةٍ ... صَمْتَ نَغَمَةٍ
نَعُودُ مِنَ السَّمَاءِ
تُرَحِّبُ بِنَا الفُصُولُ
أَهْلاً بِالفَصْلِ الخَامِسِ
المَطَرُ يَطْرُقُ أَبْوَابَ عَطَشِي
وَيُغْلِقُ بَوَّابَاتِ ارْتِوَاءٍ)

فمن (الحلم) و(الروح) من القصيدة اعلاه .. الى القصيدة الثانية (بغيابك ... والانتظار) من ديوان (جسور متأرجحة) والتي تمثل فيها ظاهرتي الغياب والحضور ...


(لا تَجْعَلْ وَقْتِيَ ثقِيلاً بِغِيَابِكَ
وَالاِنْتِظَارِ
بَحَثتُ عَنْ ظِلِّكَ في اللَّيلِ
فَعَرِفْتُ أَنَّ الشَّمْسَ في الجِهَةِ
الثَّانِيَةِ
وَأَن لا ظِلَّ لَكَ الآنَ
إِلَّا في قَلْبِي
وَعَرِفْتُ أَنَّ القَمَرَ في السَّمَاءِ
لا يَدَعُنَا نَرَى إِلَّا مَا يُرِيدُ




فلكل نص موضعا معينا ، يعالجه الشاعر بطريقة ما ، وقد تكون فكرة الموضوع واضحة او غائبة حسب مقتضيات الوعي والتجربة ، إنها جدلية الحضور والغياب التي تتنازع النص الذي بين أيدينا ، إلاّ أن الحضور لا يكاد يبين إذ تلفه ضبابية يتلمسها القاريء بعد قراءة متأنية .. يقول بارت : (ان المجتمعات محاصرة بمعترك المعاني ، ولذلك فان ازاحة النقد التقليدي لاتتم الا في المعنى وليس خارجه ، لان سلطان قواعد الاتصال هي التي تقرر فعاليتها .. ولكي يكون النقد فعالا ، لابد ان يتحرك ضمن حدود المعاني) ، أي بمعنى هناك معنى محلق حول الثوابت اللغوية ، يحاول المبدع ادخاله في سياقات لغوية تنتج ولادات لغوية تحتاج الى نقد من نوع اخر ، يستهدف الاثر الناتج عن الكتابة .. فكان اثر الشاعرة ريما محفوض المختفي في دواوينها الاربعة ، هو هاجس التمسك بالاخر ومحاولة التوحد معه ، تقول من ديوان (حلاوة الملح) : (صَـمْتِـي طِـفْـلَـةٌ شَـارِدَةٌ/ضَـفَـائِـرٌ يـَعْـلُـوهَـا الكَـلامُ/ نـُورٌ يـَتَسَـلَّـلُ إِلَـى مُـدُنـِي) ، اي ان الشعر عوالم تغزو صمتها الذي كما لو انه طفلة شاردة ، غير ان الكلام يحيط بها ، وكأني بالشاعرة تحاول اخضاع اللغة لان تكون ذات تكوينات خاصة ، لاستيعاب معانيها ، ثم تقول :

(وَأَنـَا مُـسَـمَّـرَةٌ عَـلَـى جُـدْرَانِ
الـغَـيْـمِ
حِـبَـالٌ جَـائِـعَـةٌ تـُقَـيِّـدُ مِـعْصَمِـيَّ !!
جَسَـدِي الـبَـضُّ تـَحْـتَ رَحْـمَـةِ
الـقَسْـوَةِ
وَأَنـَا أَرْنـُو إِلَى ذَلِـكَ الـفَـرَاغِ
المُمْـتَـلِئِ بـِك)

فالشاعرة تتمسك بالاخر ، وتتحسس كل الواقع الموجع من حولها ، (باعتبار الأدب منتوجا تخييليا، يعتمد اللغة، وبواسطتها يخبرنا عن الواقع الذي يحيل إليه، فإنه بالضرورة يغير ويشرط نظرتنا للعالم، وحيث نتصور الأدب كاشتغال على اللغة، فهو إذن عمل مقترن بتمثل العالم، سواء أراد المؤلف ذلك أم كره.) ، ويبدو لي ان الشاعرة ريما رافضة ومنفعلة للواقع ، فهي ثائرة ضد شراسة ومرارة الواقع ، بيد انها تتمسك بالحياة وتتوارى الاشياء القبيحة خلف الحب .. ويفضح الحب اسرارها في اعلان لائحة الحقوق والجمال الانساني ... تقول من ديوان (ريتا) :

(مَنْ سَيَحْمِلُ تَرْحَالاتِ روْحِكَ
وَيَحْنُو عَلَيْك َ
أَخَذَتْ عَيْنَايَ مَسَاحَةَ الْلَّيْلِ
لِتَهِبَكَ في الصَّبَاحِ
وَجْهَاً آخَرَ لِلْحَيَاةِ
فَلا تَحْزَنْ
تَلَمَّسْ قَلْبِي .. اشْعُرْ
بِنَبْضِه
سَتَعْلَمُ أَيْنَ يَنَامُ وَجْهُكَ
وَتُهَدِّي بِرِفْقٍ رُوحُكَ
كَعُصْفُورٍ صَغيرٍ..)

وهكذا خلقت الشاعرة ريتا محفوض رؤيتها الخاصة من الحب والحياة والاخر ، والحقيقة الشاعر الحديث في ظني يمتلك طاقة تخيلية كبيرة على خلاف شاعر الاسطورة قديما، نتيجة ما حققه الإنسان من تقدم مذهل في الميادين كافة. وكلنا يعلم أن الخيال وظيفة من وظائف العقل.. وأن العقل يوظف التراكم المعرفي والفني والتقني... ويوظف الذاكرة المفعمة بالإنجازات، في قيامه بوظائفه.‏ ومن ارسطو فصاعدا بدأ الفكر يفترق عن الشعر لانصراف الانسان عن عالمه الداخلي "ذاته" الى العالم الخارجي بغية معرفة المزيد عنه والتحكم فيه ..

مصادر البحث :

النص الغائب – نظرياً وتطبيقاً – دراسة في جدلية العلاقة بين النص الحاضر والنص الغائب : د. احمد الزعبي 12-13 .

دواوين (توحد مع القمر) و(جسور متأرجحة) و(حلاوة الملح) و(ريتا) للشاعرة السورية ريما محفوض








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد