الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنظير النقدي الأدبي في الجزائر وإشكالية غموضه - نماذج مختارة

زياد بوزيان

2018 / 8 / 16
الادب والفن


يُحسب للنقد الأكاديمي التنظيري في المغرب العربي شرف السبق ــ الجزائر و المغرب بالخصوص ــ في النهوض بالنقد الأدبي العربي منذ الثمانينيات بحكم العلاقة التاريخية بفرنسا صاحبة الريادة في مناهج كان لها أثرها الناجح في العالم كله كالبنيوية بروافدها وترجمة الشكلانية الروسية التي لم تكن لتعرف لولا ترجمات الفرنسيين المبكّرة لأعمالها ، إذ راحت تترجم وتقيم الندوات تلو الندوات حوله، خذ المدرسة البنيوية الفرنسية مثلاﹰ بجميع اتجاهاتها والأدب المقارن في شقه الفرنسي/مدرسة التأثير فإذا كانت قد استهوت المهتمين و المشتغلين العرب كالمصريين وأغوتهم لتطويرها في جامعاتهم ومجامعهم اللغوية والعلمية فإن نظرائهم الجزائريين قد فتنتهم وجعلتهم أسرى نظرياتها حتى بعد فوات أوان رواجها، ويحسب للجامعة الجزائرية الرّيادة في إدخال النقد السيميائي وتطبيقه كما حاولت أن تجعل منه منهجا معياريا لتحليل النصوص السردية وذلك في المؤتمر الوطني للسيميائية الذي عقد في جامعة سطيف سنة 1988 ، لكن يُلصق بتلك الترجمات والمصنفات والجهود النقدية الجزائرية التي تشكل الآن بعد 30 سنة تراكما معرفيا، خاصية الغموض إن على مستوى المفاهيم ـــ خلط بين المفاهيم وإنفلات في المعانى نتيجة خلل يحدثه التلاعب بالألفاظ ، خاصة في اقترانها بالمصطلحات إنما يُمضى في محاولة الإمساك بمعنى ما باستطرادات مفاهمية نقدية هي الأخرى مستعصية على الفهم تفسير كتفسير الماء بالماء بعد جهد وعناء ، أو في أسوء الأحوال شرح المفردة بمفردة غامضة منها ـــ أو على مستوى المصطلحات أو هما معاﹰ ، سواء من قِبل النقاد و الأكادميين المشارقة : فسمة الغموض يرجعه الناقد المصري صلاح فضل إلى الترجمات المتواضعة عن الفرنسية وهو كأنما يشير إلى مرتاض وحسن بحراوي أنذاك في قوله: « بُعد أو قرب هذا القطر أو ذاك من هذه الدولة الغربية ( الأوروبية ) أو تلك ، قد أثر هو الآخر في استخدام لغة هذه الدولة أو تلك ، كما كان لتخرج أبناء هذا القطر العربي أو ذاك من جامعات غربية عديدة ومتنوعة ، (…) أن عملية التثاقف القطرية الأوربية هذه ، كانت أحد الأسباب التي جعلت من ارتحال المصطلح ( ترجمته ) من تلك الدولة الغربية إلى هذا القطر العربي ، يختلف عنه لو ارتحل إلى قطر عربي آخر ، مما أفضى إلى نتائج غير سليمة ، وذات تأثير سلبي على استخدام المصطلح ، ومن ثم استخدام المنهج » [1] ، ويرجعه الناقد السعودي حمد ابن ناصر دخيل إلى التسرع في الترجمة أو إلتماس الترجمة الحرفية التي أثبتت فشلها ، أو من الطلبة والباحثين الجزائريين أنفسهم - لعل كاتب هذا المقال واحد منهم – ولعل إحدى الباحثات السودانيات المطلعة على التنظير النقدي بالمغرب العربي تقر بالغموض بل بغرابة السيميائية الخليقة بأصلها الفرنسي و ما بالك بفهم المغاربة لها مترجمة في قولها : « إن هذه الدراسة جاءت لتحقيق هدفين : الأول هو استكناه هذا الحقل الموحي بالغموض والغرابة والثاني هو : اسكتناه التراث على ضوء مستجدات العصر»[1] مقارنةﹰ بأعمال العرب المشارقة المؤلفة أو المترجمة عن الأنجلو سكسونية في مجال النقد منذ الزيات إلى منير البعلبكي ، ولعلّ السبب وراء ذلك يرجع حسب إطلاعنا وتجاربنا التي تعود إلى عقد ونيف يعود إلى :

ــــ ضعف مستوى الترجمة.
ــــ تكديس المفاهيم النقدية في الدرس الواحد وعدم ضبط المصطلح النقدي إرتباطا بالعامل السابق (يصبح فضفاضاﹰ أو مناقض تماما لمعناه النقدي الاصطلاحي فضلاﹰ عن معناه اللغوي)
ـــ محاولة خلق لغة نقدية أدبية جزائرية على غرار اللغة النقدية المغربية وأكبر نموذج عبد الملك مرتاض في كتابه " في نظرية النقد" الصادر العام 2005 عن دار هومة بالجزائر.
ــــ عدم منح الفرصة للنقد المتميز وصاحبه حتى يطوي به العمر ويذوي بعيدا عن المراكز و الجامعات الكبرى فلا يعرفه البحاثة والمختصون كحال الناقدين بشير بويجرة من جامعة معسكر و صالح مفقودة من جامعة بسكرة وحتى مخلوف عامر من جامعة سعيدة إلى حد ما.
ــــ النشر الإعلامي المكثف للدرس النقدي الذي يهدف صاحبه الى اكتساب الشهرة على حساب دقة ما ينشر حتى وإن كان المعنيون ها هنا دكاترة وأساتذة شباب مختصون لكنهم لا يتحرون تدقيق ما ينشرونه هنا وهناك ؛ لا يستثنون قناة من القنوات ولا فضاءا من الفضاءات إلاّ و غزوه بمقالاتهم التنظيرية – حتى وإن كانت مكررةـــ طمعا في تكوين الاسم، من هؤلاء أذكر الدكتور جميل حمداوي من المغرب والدكتور واليامين بن تومي من الجزائر.

وسنحاول تفسير وشرح هذه النقاط نقطة فنقطة عبر نماذج مختارة بصفة عشوائية في هذه العجالة :

1 ــــ ضعف مستوى الترجمة :

ولم يطرح السؤال حول هذا المنجز النقدي النظري الأدبي التراكمي مؤلفات و ترجمات ، لماذا بقي حبيس مكتبات الجامعات الجزائرية إلا فيما ندر؛ عندما يتعلق الأمر بالصدقات وبالعمل في الجزائر؟ هل ذلك يعود إلى العامل التجاري فقط كما يدّعي البعض أم يعود إلى غموضه؟ فباستثناء المؤلفات الفكرية النقدية لعلي حرب ومحمد أركون في الجامعات والمكتبات العربية تبقى الأسماء النقدية الساطعة في الجزائر باهتة بل غير معروفة في الوطن العربي إذا ما استثنينا عبد الملك مرتاض والزواوي بغورة في الخليج العربي و لا نجد من محاولة لإيضاح المشهد ورفع غشاوة لبس الصورة هاته و تعسفها أفضل من المقارنة بالخماسي النقدي المغربي الخاطف للأضواء: محمد برادة ومحمد مفتاح، حميد لحمداني وسعيد بنكراد وسعيد يقطين. الذي أصبح يحسب له ألف حساب في جامعات القاهرة وبيروت وغيرهما عن ذلك يقول بشير محمد بويجرة : «.. الإشكال في المسار النقدي والأدبي في الساحة الجزائرية، إنما هو إشكال اللغة، لكونها عرفت أوضاعا خاصة لم تعرفها بقيت الأقطار العربية الأخرى» [2] وبويجرة هاهنا محق وربما تكون جرأته سبب في تهميشه[3] ، حيث الأساس في الترجمة أي ترجمة هو الالمام الجيد باللغتين المنقولة/الأجنبية والمنقول إليها/العربية ، أما اللغة الأجنبية / الفرنسية سنجد أنفسنا أمام فريقين : جيل سابق هو جيل مرتاض وأبو العيد دودو ومحمد مصايف رحمهما الله ، أخذ أول ما أخذ اللغة الفرنسية عوض اللغة العربية من المدرسة الجزائرية المفرنسة في الخمسينيات والستينيات بالتالي لغتهم الفرنسية أفضل حتى من الفرنسيين أنفسهم أما عربيتهم فتعتريها شكوك حتى لا نقول غير ذلك ، وجيل لاحق هو جيل الناقدان رشيد بن مالك و سعيد بوطاجين على سبيل المثال و نُلفي الحاصل مع هذا الجيل هو العكس بالعكس والنتيجة هو أن كلا الفريقين غير مؤهل لترجمة الدرس/ المنهج النقدي الفرنسي إلى العربية لأن شرط إجادة جيدة للغة المنقولة والمنقول إليها معاﹰ غير مُستفاة . ولعلّ الفرق بين النقاد المنظرين المغربيين المذكورين أعلاه و نظرائهم الجزائريين هو أن الأخيرين لا يقرون بضعف ترجماتهم بل ويغترون أحيانا و يعتبرون الأمر ثانوي وهامشي! عكس المغربيين المُقرين دائما وكلما سمحت الفرصة بكونهم نقادا وليسو مترجمين كسعيد بنكراد. لعله سبب من أسباب تقوقع الترجمات/ البحوث النقدية الجزائرية وانحصارها في الجامعات الجزائرية إلاّ ما رحم ربك. ربما أن فرانكفونية أصحابها زائدة عن اللزوم في وضع لا يجب أن تكون فيه كذلك ولا تعني الفرانكفونية ها هنا الكتابة والتأليف باللغة الفرنسية كما يفهمها الكثيرون، بل هي حب مفرط للغة والثقافة الفرنسية نتيجة علاقة النمو والترعرع معها تعليمياﹰ وأكاديميا/الدراسة العليا في السوربون وما شابهه.

لنبدأ على سبيل المثال بنموذج مختار عشوائيا وهو مقال " عن التداولية " لخولة طالب الابراهيمي في العدد 16 بمجلة اللغة والأدب الأكاديمية ، يتبين فيه سوء الترجمة للوهلة الأولى في العنوان الفرعي: التداولية/ المفهوم ـــ ترجمة فقرات حول مصطلح التداولية ويساعدها في ذلك زملاء كما تقول[4] ـــ لكنها لم تذكر تخصصهم ، يعني في تقديرها في هذا العنوان الفرعي باستعمال الشرطة المائلة أن التداولية مرادف المفهوم! كما يلاحظ إهمال تام لنظام التنقيط في نصها الذي من المفروض أن يساعد على فهم الجمل.

ومما جاء من ترجمتها لمفهوم التداولية كمصطلح جديد عن النقد العربي بحسب مقاربة موشلار Moceschler له : « أن التداولية تهتم.. تؤكد أن الاستعمال اللغوي أو بالأحرى يمكن أن تطبع علاماته..» وبحسب مقاربة إيلوار Eluerd بقولها: « التداولية إطار(...) فيما أفرزته من تصورات صورية مبالغ فيها..» [5] في هذه الترجمة خطئان فادحان تجعل من مفهوم التداولية غامضا لدى الباحثين فضلاﹰ عن الطلبة ، لعل الكثيرون مثلي لازلوا لا يعرفون كيف يتصور المتصور؟ وفي المثال الثاني كلمة بالأحرى لو جاءت قبل جملة الاستعمال اللغوي لستقام المعنى واتضح أكثر، غير أنه بالحفظ والاستسهال بالعادة الذي هو المنهج السري لهم يصبح كل شيء واضح ويستمر دوران الحلقة أبا عن جد ، فخولة الابراهيمي أستاذة اللسانيات ورئيسة مخبره ، غير أنه تَظهر فرانكفونيتها في قسم اللسانيات العربية جلية نتيجة تكونها باللغة الأجنبية في مراحل الصبا وتأليفها كتبا في اللسانيات بالفرنسية وترجمتها للمقالات الأجنبية طبعا أما عن مطواعية لسانها للتحدث بالعربية ففيه كلام آخر.

أما عبد القادر بوزيدة رئيس قسم الترجمة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر فيأتي هو الآخر بترجمات عشوائية غير مضبوطة تمام الضبط تنم عن عدم التخصص والاستسهال، وجدت الكثير منها في أعداد مختلفة من مجلتي اللغة والآدب والآداب واللغات اللتين يصدرهما القسم المذكور غير أني حملت عينة فقط مما يلي :

السبك(التماسك) : cohésion بينما الالتحام والانصهار هو الأدق.

المقامية : Situationalité لكن المرحلية هي الترجمة الأقرب للصواب.

الحبك(الانسجام) cohérence لكن الترابط وهي الأقرب إلى حمل المعنى.

القصد intentionalité ، لكن القصد غير القصدية

الاعلام informativité الاعلام ، لكن الاعلام غير الإعلامية

التناص intertextualité ، لكن التناص غير التناصية [6]

ويقوم هذا المنظر والباحث الجزائري في مقاله " مدرسة تارتوــ موسكو سيميائية الثقافة والنظم الدالة" على إحراج الباحث المغربي جميل الحمداوي بتخطيئ معلوماته حول المدرسة دون تنويه ولا إشادة بالجهد ، كما دأب أن يفعل مع طلبته. وكان ذلك في العدد 3 مجلد 35 الصادر سنة 2007 من مجلة عالم الفكر الخاص بالسيميائيات ، لكن بمقارنة بسيطة بين مقال الأستاذين من ناحية الأخطاء اللغوية سنجد أن مقال الحمداوي الأقرب إلى تحري السلامة اللغوية من مقال بوزيدة ولاريب في ذلك كون الباحثين الجزائرين المخضرمين تلقوا أول ما تلقوا اللغة الفرنسية في حداثة سنهم في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ناهيك عن لهجة مدرسة العائلة فالعائلات الجزائرية في المدن والحواضر الكبرى تلقن ابناءها عربية مشوبة بالفرنسية والالفاظ التركية والأمازيغية واذا ما تجاوز الشخص مرحلة الطفولة كما تقول به نظرية الاكتساب لتشومسكي لا يكون بمقدوره التحكم بيسر في قواعد اللغة لفظا أو كتابة ، والنظرية تنطبق على بوزيدة لما يقول: « مدرستي "تارتو" و"موسكو" والمشارب الفكرية والثقافية التي نهلتا منها » ولما يقول: « وهو اختلاف يضرب بجذوره بعيدا في تاريخ..»[7] والصواب : مدرستي "تارتو" و"موسكو" والمشارب الفكرية والثقافية اللتان نهلتا منهما ، وهل الجذور لما تضرب بعيداﹰ تضرب أفقيا أم عموديا؟ بل الأصوب هو تضرب عميقاﹰ والملاحظ في مقاله هو عدم تحكمه في توزيع الفاصلة على الجمل بشكل كارثي في جميع فقرات المقال، كقوله : والواقع أن منطلقات وتوجهات المدرستين كانت، عموما، ص184 . وخلاصة ذلك أن الباحث أيديولوجي النزعة.


وقد لا يلتمس في التنظير النقدي الجزائري بخاصة ، والمغاربي بعامة الغموض من جراء الترجمة عن الفرنسية فقط ، بل كذلك من الترجمة عن الترجمة ، و الإطناب المصطلحي أو التقتير المصطلحي ، في وجود إشكالية ترجمة المصطلح كما في هذا الشاهد : "إن السيميولوجيا تدرس العلامات وأنساقها، سواء كانت هذه العلامات لسانية أم غير لسانية" وهل هذه الأنساق هي غير العلامات لسانية وغير لسانية؟ حتى يذكرهما المنظر معاﹰ هذا من شأنه إرباك الطالب وتشتيت طاقاته ؛ عندما يدخله الظن أن هذه العلامات هي غير الانساق وإلاّ ما كانت لتُذكر.

أما التقتير المحيل الى الغموض في قول المنظر المغربي :« تستند البنية السطحية إلى مكونين أساسيين: المكون السردي، والمكون الخطابي. يدرس المكون الأول الأفعال، والحالات، والتحولات، ومنطق الجهات ، والبنية العاملية. في حين ، يدرس المكون الخطابي الصور من جهة، ويقارب الحقل المعجمي والحقل الدلالي والأدوار التيماتيكية التي يقوم بها الفاعل من جهة أخرى »[7] أي صور تلك المقصودة؟ المتلقي يحتاج هاهنا إلى شرح ، لعل مشكل هذا التقتير راجع للإختيار بين : المكون الخطابي عبارة عن دلالات أوصور ذهنية أو مفاهيم ذهنية ، فنحتاج هنا إلى ضبط المصطلح إمّا الصورة أو الوحدة الدالة بخاصة عندما يتعلق الأمر بمجال معرفي مستقل كالسيميائية وبذلك نتفادى الغموض و"الأوأوات" كما في قول الناقد جميل حمداوي : "ويكون قادرا على تدبر وفهم عميق للدلالات السياقية للكلمة أو الصورة أو الليكسيم".

ناهيك عن الفقر أو القصور اللغوي عند المنّظر ومصدره يعود لظروف أول اكتساب للغة في محيط العائلة والمجتمع المختلط اللغة فرانكفونيا وأمازيغيا كما أسلفنا غير ما مرة في مقالاتنا السابقة ـــ لا يختلف المغربي عن الجزائري كثيرا ــ أما في النموذج التالي للمنظر الأكاديمي عثمان بدري في مجلة اللغة والأدب الأكاديمية فغموض مقاله ناتج عن التناقض ؛ بحيث أن الفترة الجاهلية والأموية أسبق من العصر الذهبي للبلاغة العربية ألا وهو العصر العباسي لكن بدري يقول :".. وفي سياق هذا التصور للغة الشعرية نستطيع أن نفهم لماذا وظف الشعر العربي القديم - بشكل عفوي وبشكل واع بعد ذلك ـــ مختلف المفاهيم البلاغية كالتشبيه والاستعارة والكناية والتورية والمجاز وغيرهما من المحسنات الأخرى بشكل مغاير ـــ إن لم نقل مفراق للأسس المدرسية المعيارية التي بنيت عليها البلاغة العربية من قبل كثير من البلاغيين المقولتيين"[8] وهو يقصد أيضا بالمحسنات هاهنا أنواع البيان.

2 ـــ تكديس المفاهيم النقدية وعدم ضبط المصطلح النقدي :

هذه النقطة مرتبطة بسابقتها أي عشوائية الترجمة والعبث بالمصطلحات حيث يغدو المفهوم النقدي المراد فهمه عصي على الفهم لدخول مفاهيم أخرى عليه واختلاط الحابل بالنابل فكيف إذاك نحبب الطلبة إلى المصنف الجزائري الذي موضوعه النظرية النقدية؟ بل إننا ننفّرهم إلى مؤلفات المشارقة أو نجعلهم يرتكسون وينتكسون فيلتمسون الحفظ بدل الفهم ، كأنها لغة غريبة عنهم تجعلهم يحفظونها أسوة بطالب الطب مع درسه المفرنس ، وهذا عكس ما هو حاصل في المشرق العربي النظرية النقدية يجب أن تفهم وكي تفهم يجب أن يكون هناك منطق يجتنب الإستطرادات يُحيل بالمفهوم إلى معنى واضح فآخر أوضح منه، وكي تفهم وتطبّق يجب أن تأتي في ثوب لغوي جمالي يجذب المهتم ويجعله يغوص في التخصص أكثر وأكثر بمجرد أن تُحفّز حاسته وتطمح ذائقته ينحو ناحية التطبيق دون الرجوع إلى نص النظرية ثانيةﹰ.

فعادة تكديس المفهوم على آخر وعقليته التي درج عليها مجال التنظير النقدي الجزائري دون ما وضع حال الباحث والطالب في الحسبان تظهر في قول محمد ساري في مقاله "السوسيو نقد" بالعدد 15 من مجلة اللغة والأدب : يربط السوسيو نقد ـــ الذي هو فرع من المنهج الاجتماعي أو ما يسمى بعلم إجتماع الأدب : يُعنى بخضوع المؤلَف أو النص الأدبي للعامل التجاري الاستهلاكي حيث دور النشر تجيز أولوية السوق أو فعل القراءة عن سواها ، وهذا ما يدخل الكاتب والقارئ في هذه الرؤية الاجتماعية للأدب لكن محمد ساري لم يشأ إلاّ أن يجول ويصول في أكثر من صفحة[9] ـــ بكذا من مفهوم أعمق وأغمض منه ﻛ : التحليل السوسيو نصي والقراءة السوسيولوجية حيث القراءة أو التأويل هو بحد ذاته منهج مستقل ، مدرجاﹰ مفهوم " السوسيولوجيا الجدلية للأدب" ثم مفهوم الأدبيةlittérarité وغير بعيد يذكر "شعرية النصوص" ثم "البنيوية التكوينية" ويغطي الجميع بمصطلح الأيديولوجيا والمنهج التاريخي مع غياب تام للهوامش المساعدة ، فضلاﹰ عن إفتقاد لسلاسة التعبير وجماليته فشتان بين ذلك الغموض وبين هذا الوضوح وسلاسته في تعريف الناقد السعودي عبد الله خضر حمد لمفهوم الإنزياح : » انحراف الكلام عن نسقه المألوف ، وهو حدث لغوي ، يظهر في تشكيل الكلام وصياغته، ويمكن بواسطته التعرف على طبيعة أسلوب الأدبي، بل يمكن إعتبار الانزياح هو الأسلوب الأدبي ذاته » [10] مدرجا لكثير من الهوامش التوضيحية ولا ظير أن يؤكدالنقد المشرقي مختصرا في اسم الناقد محمد القاضي أن العرب سعو إلى المناهج النقدية المعاصرة لرهانات ثلاث وجوبهوا بتحديات ثلاث ، يذكرها تباعا: التحدي المصطلحي والتحدي التطبيقي و التحدي المفهومي ، من طبيعة النقد أنه لا يكدّس مفاهيم أخرى صعبة الفهم ولا حتى المبالغة في ذكر المفاهيم المرادفة أو المتقاربة المعاني كالتي تظهر مع مصطلحات : البنيوية و النسقية والنظام ــــ السيميائية و السيميوطيقا وعلم الإشارة ، السيمولوجيا وعلم العلامات ــــ التشاكل و التقابل و التناظرـــ المنهج الاجتماعي والمنهج السوسيولوجي ـــ الخطاب والتلفظ ـــ التأويل و الهيرمينوطيقا ــــ الشعرية و البويطيقا ــــ التحريف والمفارقة ــــ الأبوية والبطركية ــــ التفكيكية و التقويضية والتشريحية وهلم جر.. كما درج عليه المنظرون الجزائريون دون أن يقفوا على تسمية مصطلحية ثابتة ـــــــ وقد فتحوا الباب لإنجاز أطروحات عديدة في هذا الشأن تحت عنوان « إشكالية تعدد المصطلح النقدي» قد تتجاوز الدكتوراه إلى نيل البروفيسورية/الأستاذية بها ــــ ، بخصوص مفهوم الانزياح هذا يجعلُه الناقد الأكاديمي فيصل الأحمر يقارب مفهوم "سيميائية الخطاب الشعري" [11] بل ويكدس عرمرم من مفاهيم حوله ﻛ "الوظيفة العلائقية لتشومسكي" و"العلائقية في النص الشعري الكلاسيكي" إلاّ ليثبت أن الانزياح في اللغة هو كلام غير اعتيادي في علاقة بالخطاب اللغوي ؛ فيؤدي إلى إزاحة قدم الباحث إن لم يُدخله في حالة ملل ابستمولوجي إن جاز التعبير فإنه يدخله في عملية هدم الفكرة بالتي تليها نتيجة تفسير الغامض بالغامض، بإطناب وإحالات إلى مفاهيم تحتاج هي الأخرى إلى تقصٍ. كما نجد في قول المنظر:« .."النموذج العاملي"، الذي يُعد تشخيصا غير تزامني، و استبدالا لعالم الأفعال» الاختيار الغير موفق الذي يزيد من غموض هذا الشرح للنموذج العاملي هو في كلمة استبدالاﹰ عوض تحولاﹰ . وذكّرنا مفهوم النموذج العاملي هذا أو السيميائيات السردية الذي هو فرع من فروع السيمياء وهي سيمياء التواصل، سيمياء الثقافة وسيمياء الدلالة ، كما استوقفنا تركيز النقد التنظيري المغاربي المزمن على مفردة "الصورة" هذه المفردة تجدها في اللسانيات والبلاغة والأدب المقارن، ولم يفرط في توظيفها معهم علمي الدلالة و السيمياء ، بالرغم أن معنى "الصورة" في هذين الحقلين له نطاق معجمي يقارب معانى الدلالة والمعنى نفسهما.

نزوع الباحثين إلى إختيارات منهجية و طروحات تضع القارئ أمام ترسانة هائلة من المفاهيم والإجراءات غير المتداولة في لغته وفي سياقه الثقافي وينطبق الأمر على الدراسات السيميائية العربية ، كونها أصلا تعرف إشكالا مصطلحيا في منبعها الغربي ، كما إستوقفنا التمثيل الغير المنسجم مع ثقافتنا وعدم تغييره ؛ لا يجوز للمنظر طرق التمثيل "البايخ" الغير متوافق مع ثقافتنا كقوله :« ومن المستحيل فصل تلك الشخصيات عن الحبكة، ومجرد محاولة ذلك أمر غير مجد ، مثل محاولة الفصل بين الرقصة والراقصين في الباليه. تتكون الحبكة من شخصيات تكافح قوى الطبيعة، أو ضد كائنات بشرية أخرى، أو تعيش أزمة داخلية. وتنعكس طبيعة هذه الشخصيات من خلال هذه الحبكة في الأحداث » لأن ذلك مدعاة تحقير الميدان الذي يجمع الباحث بالأستاذ بالطالب الأجدى به القول : الفصل بين الربان والسفينة. أو بين السفينة والبحر..

3 ـــــ محاولة خلق لغة نقدية خاصة métalangue ومحض مغاربية:

نحى كثير من النقاد والباحثين الجزائريين والتلامذة السابقين منحى كبيرهم عبد الملك مرتاض في محاولة خلق لغة نقدية وبلاغية شبيهة بأسلوب المقامة إلى حد من الاستهجانية بين قوسين لِمقابلة لغة النقد في المشرق العربي إضفاءا للتميز والإختلاف من جهة ، وتأثرا بالبلاغة والنقد التراثيين الذي له على كل حال عصره ، هل يعقل العودة إلى أسلوب التنميق والتزويق بالمحسنات والجناس على غرار المقامة البغدادية في عصر هو عصر الخفة والسرعة ، عصر ما قل ودل؟ برغم استخفاف نقاد لهم وزنهم على الساحة كجهاد فاضل بقوله: « وهل يمكن أن يصل الأمر إلى حد أن تصبح اللغة العربية هي لغة الكيمياء والفيزياء والطب ، هل تسير الجزائر في مثل هذه السياسة؟ » [12] غير أن مرتاض مضى في مشروعه محاكاةﹰ كذلك لمشروع المغربيين/ المغرب الأقصى الرّيادي مع شلة مفكريهم الجابري وعبدالله العروي وطه عبد الرحمن ، لولا أن العمر داهمه ( أطال الله في عمره ) لخرج لنا بمدرسة لغوية تراثية في ثوب حداثي ومحاكاةﹰ أيضا للمفكر الانساني جون بول سارتر في كتابه مالأدب؟ عندما يستطرد في المفاهيم الفلسفية والاجتماعية التي تعتبر منبت المنهج النقدي الفلاني أو العلاني خصوصا في كتابه النقدي المذكور أعلاه. ومشروع كهذا كان له مفعول عكسي/سلبي ارتكاسي من حيث أريد به العكس : تعميق الهوة بين الأجيال والتواصل بين الشعوب نتيجة عدم الفهم بالإغراق في الغموض ، فهو أول من دعا إلى جمع الناقد بين عدة مناهج فتأتيه أصوات من هناك: هل يخلط الناقد بين المناهج أم أن مفاهيمها تختلط عليه؟ وهو أول من أدخل مصطلحات نقدية فيها روح الفكاهة على غرار أسلوب المقامة كقوله الشُعرور بدل الشاعر و منهج التّحلِفْسي بدل التحليل النفسي واللسانياتين بدل اللسانيين، وتكلفه المفردات العسيرة المهجورة الاستعمال كقوله الوَكْد بدل التأكيد بل يُحوّر كلمة يعتري إلى أصلها يعتوره المهجورة الاستعمال وهو مُطّلِع أكثر من غيره عن ما يُعرف بتداولية اللغة إذ يقول : « اللغة عطاء قائم ،(...) ولا يبكُؤُ لجريانه غرب » [13] وتعمّد الغموض في قوله :« إن الأسلوب ، من بعض الوجوه يشبه اللغة ( المادة التي يتكون منه) ..» [14] ، وقوله يتمحض التي ظننت في البداية أنها خطأ مطبعي أي يتمخض غير أن تكرارها أبان لنا أنه يريد بها معنى آخر في قوله : «.. وخصوصا فيما يتمحّض لمسألة عدم الحُفول بالمبدع..» [15] فيتمحض يقصد بها يتعرض، أما الحُفول والنقود هنا على وزن شخوص/الشخصيات واواليات التي يعني بها د. محمد مفتاح في كتابه "النص من القراءة الى التنظير" علاقات التعدي و هي مفردات ليس لها أصول في المعاجم العربية فهي مستحدثة من إختراع لغة النقد المغربي المعاصر وفي هذا القدر كفاية ، وإذا ما إعتبر الفريق الذي يكدّس المفاهيم دفعة واحدة أن ذلك سبيل البحث العلمي والدراسات العليا المتسمة بالعمق والجدية فإن أسلوب مرتاض المنفّر هذا يعتبره من قبيل "الأدبية" والثورة على المتطفلين على النقد ومناهجه. وكلاهما كمن يلقي بحجته ليتملّص، كون أن أعمال الجزائريين في مجال النقد النظري الأدبي غير مرحّب بها إجمالا ومحاصرة في القطر الجزائري وأن الأدمغة الجزائرية المبدعة الحقة كثيرا ما تتجاوزها إلى المنجز المشرقي .


[1] ـــ داود الشويلي : إشكالية النقد الأدبي العربي المعاصر نشر 18/2/2008 ، الموقع :
صحيفة العدالة العراقية
[1] ــ سعدية موسى: السيميائية أصولها ومناهجها ومصطلحاتها ، ص3.
[2] ــ بلوفي محمد : واقع النقد الأدبي في الجزائر مساره وإشكالاته ، الموقع: واقع النقد الأدبي في الجزائر مساره وإشكالاته - ديوان العرب
[3] ـــ يرجع تهميش الطاقات المبدعة الحقيقية ــــ في مجال التنظير النقدي الذي نحن بصدده أو حتى مجالات أخرى ـــــ إلى إيديولوجية الجامعة الجزائرية وولاءاتها السياسية وتحزب النخبتين الاكاديمية والمثقفة و إلى الجهوية المنطوية على الغيرة وغياب الروح العلمية.
[4] ـــ خولة طالب الابراهيمي : عن التداولية ، مجلة اللغة والأدب قسم اللغة العربية وآدابها ( أبو القاسم سعد الله ) عدد 16 ، دسمبر 2003 ، ص116. وتعتبر التداولية والسيميائية بخاصة السيميائيات السردية أكثر موضوعات النقد إثارة للجدل ترجمةﹰ وتعدد مصطلحي بالجزائر والمغرب لأنهما منهجان غامضان في الأصل كما يعترف الجريداس جريماس نفسه بالتجريد والتشعب المفضيان للغموض وعسر التطبيق.
[5] ــــ المرجع نفسه ، ص 116-117.
[6] ـــ عبد القادر بوزيدة : فان ديك وعلم النص، مجلة اللغة والادب، عدد 11 ماي 1997 ، ص11.
[7] - مجلة عالم الفكر : مدرسة تارتوـــ موسكو سيميائية الثقافة والنظم الدالة ، مجلد 35 مارس 2007 ، ص 184.
[7] ــــ ينظر جميل حمداوي : الاتجاهات السيميوطقية ، ص81.
[8] ـــ عثمان بدري : اشكالية المعنى بين الصورة البلاغية والصورة الشعرية ، مجلة اللغة والادب، كلية أبو القاسم سعد الله ، عدد11 ماي 1997 ، ص175.
[9] ـــ محمد ساري : المنهج السوسيو نقدي بين النظرية والتطبيق ، مجلة اللغة والأدب، عدد 15 ، ص21-22-23-24-25.
[10] ـــ عبد الله خضر حمد : مناهج النقد الادبي السياقية والنسقية ، دار القلم ، بيروت ، ص207-208-209.
[11] ــــ فيصل الأحمر : الدليل السيميولوجي ، دار الالمعية ، الجزائر2011 ، ص90-91-92.
[12] ــــ جهاد فاضل : وجه لوجه مع عبد الملك مرتاض، مجلة العربي ، عدد 612 نوفمبر2009 ، ص72.
[13] ــــ عبد الملك مرتاض : في نظرية النقد ، دارهومة ، الجزائر ، ص166.
[14] ـــ المرجع نفسه ، ص167.
[15] ــــ المرجع نفسه، ص193.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه