الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقاش هادئ مع السيد علي الشرع بشأن واقع العراق الراهن (2-4)هل في مقدور المجتمع العراقي بناء الدولة الديمقراطية العلمانية؟

كاظم حبيب
(Kadhim Habib)

2018 / 8 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


جاء في رد السيد علي الشرع قوله " وكأنه (أي كاظم حبيب) يصور للناس ان المرجعية عامة والسيد السيستاني خاصة هو حجر عثرة في طريق قيام دولة علمانية مدنية ديمقراطية يروّج لها السيد حبيب ظناً منه ان دولته هذه ستنجح في تجاوز محنة المحاصصة الطائفية التي قادت الى الفساد والضياع الاقتصادي والانقسام الاجتماعي. ولكن يغيب عن نظره ان دولته هذه لا يمكن ان تقوم في بيئة اجتماعية متناقضة معها، وحتى تنجح لا بد اولاً ان يسلخها تماماً من تراثها وعقائدها، وانّى له ذلك!" التشوش والتعارض في هذا الطرح واضح. فهو من جانب يقول وكأن كاظم حبيب يصور للناس بأن المرجعية والسيد السيستاني هما حجر عثرة في طريق قيام دولة علمانية مدنية ديمقراطية، ومن جانب آخر يرى بأن المجتمع العراقي غير مؤهل لمثل هذه الدولة لتجاوز محنة المحاصصة الطائفية وما نجم وينجم عنها، وإن الذي يريده لا يقوم في بيئة اجتماعية متناقضة معه. بهذا الطرح يفهم الإنسان بأن الكاتب علي الشرع لا يرى إمكانية بناء الدولة الديمقراطية العلمانية، وهو بهذا من مؤيدي ما هو قائم حالياً في العراق لأنه ينسجم مع البيئة الاجتماعية السائدة في العراق، أي استمرار وجود الطائفية الدينية ومحاصصاتها المذلة. اختلف مع الشرع في هذا الرأي، ولدي ثقة بأن العراق سيبني الدولة الديمقراطية العلمانية، ولكن هذا يستوجب نضالاً دؤوباً ومن قوى وأحزاب تعتقد بذلك وليس من أحزاب إسلامية سياسية لا تسعى إلَّا إلى ملء جيوبها بالسحت الحرام وسرقة لقمة العيش من افواه الشعب وكادحيه.
لقد بدأ النظام الملكي بوضع الدستور الأول لعام 1925 بالخطوات الأولى صوبَ بناء المجتمع المدني الديمقراطي في العراق بجملة من السياسات المهمة التي كرسها الدستور، مع حقيقة أن العراق كان قد خرج لتوه من براثن الهيمنة الاستعمارية الطويلة الأمد وما يقرب من أربعة قرون من التخلف والبؤس والفاقة والاستغلال. وبالتالي كان المجتمع ما يزال في بداية وعيه التنويري، الذي لم يستمر، إذ بدأت الانقلابات العسكرية 1936 و1941 من جهة، وخشية الاستعمار البريطاني من خسارة مواقعه في العراق من جهة ثانية، والمستوى الضعيف للوعي الاجتماعي والسياسي الجمعي، قد ساعدت الحكومة العراقية الملكية على النكوص عن خط التطور المتصاعد للمجتمع المدني والدولة الديمقراطية. فبدأت عمليات تشويه بنود الدستور وتزوير الانتخابات وتزييف إرادة المجتمع والدفاع عن مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين وتفاقم البطالة والفقر وهجرة الفلاحين إلى المدن وامتلاء السجون بمعارضي الحكم. مما أدى إلى قيام ثورة تموز 1958 التي انتهجت خطاً ديمقراطيا ومدنياً في البداية، ولكنها جوبهت بمشكلات كثيرة وعجزت عن دفع البلاد باتجاه وضع دستور ديمقراطي دائم وإقرار جملة من القوانين المهمة بما فيها القانون رقم 80 وقانون الإصلاح الزراعي وقانون العمل والعمال، وكذلك قانون الأحوال الشخصية الذي عبأ ضده كل القوى المناهضة للديمقراطية والتقدم الاجتماعي وحقوق المرأة ولاسيما قوى الإسلام السياسي الشيعية والسنية وبالتعاون الوثيق مع الإقطاعيين والرجعيين والبعثيين، إضافة إلى الكرد بسبب خلافهم مع عبد الكريم قاسم، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فتم الانقضاض على هذه الثورة الديمقراطية التي اقترنت بجملة من الأخطاء التي ارتكبتها قيادة الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم، ولاسيما تأخير إقرار دستور مدني دائم واجراء انتخابات عامة حرة وأطلاق حرية التنظيم والحياة الحزبية الحرة وتسليم الحكم لحكومة مدنية في ضوء الانتخابات والابتعاد والمطالبة بالكويت ..الخ. ومن ذلك الحين بدأت سلسلة الانقلابات والتدهور المستمر في أوضاع الشعب والتي تجلت في حروب النظام البعثي الدموية نحو الخارج ودكتاتوريته الشرسة نحو الداخل. ولم يتعلم من جاء بعد الدكتاتورية الصدامية من تجارب العراق خلال القرن العشرين. لقد سلمت السلطة بعد 2003 تسليماً بيد الأحزاب الإسلامية الشيعية وبتعاون هزيل مع أحزاب سنية وقوى كردية، وبمساومة معادية للتطور الديمقراطي في العراق بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وبدعم من المرجعيات الشيعية في العراق. ولكن هل يمكن لهذا الوضع أن يستمر؟
لا يمكن للعراق أن يستمر دون فوضى وصراع وقتال دموي وموت وخراب إن أصر حكامه الحاليون على الأستمرار بنهجهم السياسي الطائفي المدمر للبلاد. فالعراق بلد التعدد الديني والمذهبي والقومي والفكري، ولا بد لنظام الدولة أن يكون ديمقراطياً وعلمانياً، أي دولة حيادية بسلطاتها الثلاث إزاء الديانات والمذاهب العديدة والقوميات، ترفض ربط الدين بالدولة والسياسة، وتتعامل مع الإنسان العراقي، رجلاً كان أم امرأة، على أساس المواطنة لا على أساس الدين والمذهب والقومية. فالدولة الدينية الطائفية تمارس التمييز بين الديانات والمذاهب وأتباعها، ومن هنا تخلق شروخاً كبيرة في المجتمع وفي كيان الوطن.
لقد مر حتى الآن عقد ونصف العقد وبرزت اختلالات شديدة ومدمرة في كيان الدولة العراقية. فدستورها الراهن يصر على أن الإسلام هو دين الدولة باعتبار المسلمين يشكلون الأكثرية، وسلطات الدول الثلاث موزعة على أساس المحاصصة الطائفية المذلة لمبدأ المواطنة المتساوية والكفاءة في العمل واحتلال المراكز. المآسي التي نجمت عن هذا النظام السياسي الطائفي المتخلف لا حصر لها، ابتداءً من الفساد المالي والإداري إلى التمييز بين المواطنين، وإلى تشكيل المليشيات الطائفية المسلحة، سنية وشيعية وخوض صراع دموي على اساس الهوية وهجرة مئات الألوف من المسيحيين والإيزيديين والصابئة وإلى الإبادة الجماعية، إضافة إلى الشبك والتركمان في نينوى، بعد اجتياح داعش للموصل ونينوى وقبل ذاك المحافظات الغربية وديالى والحويجة.. الخ بفضل السياسة الوحشية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي ورهطه.
لقد تيقن الكثير من بنات وأبناء العراق بأن النظام الطائفي غير مناسب للعراق ولا بد من تجاوزه وتغييره. وأن النظام المناسب هو النظام الديمقراطي العلماني الذي يأخذ على عاتقه بناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث. حتى أولئك الذين رفضوا الدولة المدنية والديمقراطية بدأوا قبل الانتخابات الأخيرة (2018) يتمسحون بالمدنية ويدعون لها، ولاسيما من هم في بعض الأحزاب الإسلامية السياسية وفي سلطات ومؤسسات الدولة. بل إن الشيخ عبد المهدي الكربلائي، ممثل السيد السيستاني، تحدث عن الدولة المدنية وطالب بالإصلاح، ولكن إلى حد ما بعد "خراب البصرة!"
إن المجتمع العراقي مجتمع متدين، ولكنه متحرر أيضاً. وهذا التدين لا يمنعه أبداً من العمل لبناء الدولة الحديثة على أساس المواطنة واحترام الحريات الشخصية ومحاربة الطائفية التي شطرت الشعب إلى قوى متصارعة ومتقاتلة، ولاسيما بين السنة والشيعة، في حين أصبح أتباع الديانات الأخرى عرضة للنهب والسلب والقتل والتشريد والتهجير على ايدي الميليشيات المسلحة والإرهابية الشيعية منها والسنية، وسكتت الحكومات المتعاقبة على هذا الأمر، مما كان يعني تأييدها لمثل هذا النهج التدميري.
فالدولة الديمقراطية العلمانية لا ترفض الديانات والمذاهب ولا تعاديها، بل تعترف بوجودها وتحترمها وتحترم طقوسها الإنسانية، وترفض أي إساءة تلحق بأتباعها. وهي في الوقت ذاته ترفض تدخل الدين في السياسة وشؤون الدولة، فالدين له حقوله واختصاصه الاجتماعي ويتحمل مسؤولية التنوير الديني والتفاعل مع اتباع الديانات الأخرى والاعتراف المتبادل والتسامح. الدولة الديمقراطية العلمانية تسعى لبناء مجتمع مدني ديمقراطي حديث على أسس دستورية ديمقراطية ومجلس نيابي وانتخابات حرة ونزيهة, وتلتزم بالتداول السلمي والديمقراطي للسلطة، وترفض إقامة أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي، بل يتوجب بناء الأحزاب السياسية على أساس المواطنة بغض النظر عن الدين أو المذهب أو القومية.
الدولة الديمقراطية العلمانية تفسح في المجال للشعب أن يمارس دوره ومشاركته في رسم سياساتها وفي الرقابة عليها ومنع التجاوز على الحقوق والحريات العامة للأفراد. وعبر الرقابة على سياسات الحكومة ومجلس النواب والقضاء العراقي يمكن أن تكتشف حالات الفساد والتزوير والتزييف للإرادة وتحارب، وتنشأ عوامل إيجابية تسمح بمحاربة الإرهاب والانتصار عليه. نعم، إن الدولة الديمقراطية العلمانية إن وجدت ستتمكن من تجاوز محنة الطائفية ومحاصصاتها وكذلك الفساد والإرهاب والتدخل الخارجي. في حين أن الدولة الطائفية تفتح أبواباً واسعة أمام الفساد والإرهاب، وهما صنوان، أو وجهان لعملة واحدة ، وأمام التدخل الخارجي الإقليمي والدولي في الشأن العراقي. ودور إيران وأدوار السعودية ودول الخليج وتركيا لا تغيب عن بال العراقيات والعراقيين ودور الأولى المشؤوم في كل شاردة وواردة في العراق. المجتمع العراقي لا يختلف عن باقي مجتمعات العالم في إمكانيته على التطور وقبول التنوير والتجديد والتغيير، شريطة أن تكون هناك حكومة ومجلس نواب وقضاء قادرة كلها بعملها المستقل والمشترك على توجيه هذه العملية والسير فيها وأخذ المجتمع معها. خمسة عشر عاماً هيمنت الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية، وبتحالف مهزوز مع الأحزاب الإسلامية السنية المستفيدة، على حكم البلاد وعلى الاقتصاد والمال، وبسبب سياساتها حلّت المآسي والكوارث التي عاشها العراق ولا يزال يعاني منها وسيبقى كذلك، إن استمرت هذه الأحزاب في السلطة ومارست الطائفية والمحاصصة المذلة للشعب. وبالتالي لا خيار للعراق في المحصلة النهائية غير الدولة الديمقراطية والعلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي الحديث.
يشير بول بريمر في كتابه عن ذكرياته في العراق
أنه تباحث كثيراً مع السيد السيستاني عبر وسطاء عديدين ونسق معه كل الخطوات بما في ذلك الدستور المشوه في الكثير من مواده، وتحديد موعد مبكر للانتخابات الأولى، (راجع: السفر باول بريمر، عام قضيته في العراق، النضال لبناءِ غدٍ مرجو، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان 2006، ص 364/365)، وتسليم السلطة بيد القوى الإسلامية وبالتنسيق بين الولايات المتحدة وإيران وبعلم وموافقة المرجعية الشيعية. من غير المعقول أن نسكت على كل ذلك دون أن نشير إلى انه لم يكن من واجب المرجعية التدخل في هذه الشؤون وكان عليها أن تنأى بنفسها عن التدخل في دعم قوى الإسلام السياسية التي خربت البلاد وأساءت للعباد ومرَّغت كرامة الإنسان العراقي بالتراب وجوعت المجتمع وحرمته من ثروته عبر النهب والسلب والسرقة من الباطن، ثم أساءت بدورها للمرجعية التي زكتها ودعمتها ومنحتها الثقة ودعت الجماهير لانتخابها.
نعم أنا من مدينة كربلاء ومن مواليد 1935 ومتابع جيد لوقت مبكر لعدد غير قليل من شيوخ الدين المسؤولين عن المرجعية الشيعية في حوزة النجف، وأعرف تماماً دورها وواجباتها الدينية والاجتماعية وخلافاتها مع إيران وموقفها من ولاية الفقيه وعدم تدخلها في السياسة لسنوات طويلة. وهذا الموقف لا يمنع حين يواجه الشعب أو الدولة مخاطر معينة لا يدعو الناس إلى الدفاع عن الوطن أو الدعوة ضد المستبد بأمره مثلاً. إن هذا ليس سياسة بالمعنى التقليدي بل في جانبه الاجتماعي والوطني العام. كما كان حرياً بالسيد علي الشرع أن يبتعد عن تقديم النصح للسيد الدكتور مظهر محمد صالح بالابتعاد عن الكتابة الاقتصادية التثقيفية المهمة، ولي بالكف عن الكتابة السياسية وعن المرجعية، في حين أنهما أمران ضمن الشأن العام يمسان الجميع ويتطلبان من الجميع المشاركة فيهما.
12/08/2018
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الإيراني: عملية الوعد الصادق كانت خطوة ضرورية وتعتبر


.. لماذا غرقت دبي في الفيضانات؟




.. مقتل اليوتوبر العراقية الكردية غيروز أزاد في إربيل رميا بالر


.. بركان إندونيسيا: حمم ملتهبة وصواعق برد وإجلاء السكان




.. بالأرقام: مقارنة بين القدرات العسكرية لكميات وأنواع الأسلحة