الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعضٌ من القول في بعضِ ما نَفتقد

مهند طلال الاخرس

2018 / 8 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعضٌ من القولِ في بعضِ ما نَفتقد

هل سألت نفسك يوما، لماذا يشتهر العرب بقصص الحب، رغم انك لا تجده بينهم. ولماذا يشتهر الفلسطينيون مثلا بحب وطنهم اكثر من غيرهم. ولماذا يتحدث الانسان غالبا بما يفتقد لا بما يعتقد.

ذاع صيت العرب على مدى تاريخهم بقصص حب اسطورية مثل مجنون ليلى وجميل بثينة وغيرها الكثير من القصائد والمعلقات التي تخلد هذه القصص وتتحدث عن نوادرها واجزلها واكثرها وجعا ، واشتملت معظم افلامهم ومسلسلاتهم وادبهم الحديث من قصص ورواية على كثير من قصص الحب الاسطورية، واسهبوا في الحديث عن الحب والتغني به، حتى انك ترى كلمات الوله والعشق تكاد تفر من بين السطور لتعانقك! ذلك على الرغم من ان الحب لا يعرف الكلام ورغم انه احاسيس ونظرات ومشاعر محسوسة وفي الغالب غير ملموسة، وهي غالبا ما تكون نتاج بيئة وتربية واخلاق وثقافة قبل ان يكون كلاما مرسلا او سطورا في قصيدة او حكاية في رواية او مشهد في فيلم او تقليدا أعمى او شيئا ملموسا على العموم.

في ظني وليس في كل الظن اثم ؛ ان كثرة هذه المرويات لدى العرب عبر تاريخهم هي تعبير صارخ عن فقدان الشيء لا عن وجوده بالضرورة. ففي علم الاجتماع السلوكي يذهب رواده الى تفسير هذه الظاهرة الى ان حديث الناس الكثير عن شيء محدد وانشغالهم به هي دلالة لفقدانه وانعدامه وليست دليل على وجوده، على اعتبار ان الانسان دائما يتحدث ويشغل باله بما يفتقده لا بما لديه.

وذهب اخرون في تفسير مساحة الشغل الشاغر لاي مجتمع على دلالة فقدانه لا على وجوده، وتدليلهم على ذلك ان الجالس في البيت بلا عمل تنحصر امنياته ودعواته في الحصول على عمل، وكذلك الامر للمريض فإن جل دعواته واهتماماته تنصرف بشكل مميز على الشفاء من مرضه وفي طرق الشفاء والتي تنعكس حتى على علاقاته وسلوكه مع الاخرين، وكذلك الامر بالنسبة للباحث عن النجاح في المدرسة او الجامعة او الحياة، فعبثا تحاول ان تحدثه عن جمال الطبيعة اذا كان كل همه وشغله الشاغر كيف يجتاز الامتحان نهاية العام.

وللتدليل اكثر على صحة هذه النظرية ساق الباحثون مثالا اكثر ضراوة من ذي قبل، وكان يتعلق بالاوطان، وضربوا عدة امثلة للتدليل على ذلك. فذكروا مثلا ان الفرنسيين قد يكرهون وطنهم وقد يسبونه -وهذا ما حصل مثلا ابان عهد نابليون ولويس السادس عشر، لكنهم حتما ينتصرون له اذا ما تعرض لغزو خارجي او محنة داخلية كالاحتلال النازي الالماني لبلدهم وتنصيب حكومة فيشي العميلة عليهم. فتراك تجد ان قيم الحب مجتمعة مثل الغيرة الوطنية على الوطن والكرامة والسيادة والتوق الى الحرية والعدالة والمساواة ما تلبث ان تستفيق وتصبح دستورا ومبادئ عالمية ينادى بها كلما تعرضت دولة لمثل تلك الاهوال والاخطار او داهمها الاحتلال. حتى ان فرنسا وقيمها حصنت نفسها بإشاعة الادب والفكر والشعر والمسرح الذي يحث على الحرية والعدالة وينادي بها في كل الاصقاع فكان من الطبيعي مثلا ان يولد فيهم مفكر ومبدع عظيم كفولتير لينظّر لهذه القيم من جديد ولتصبح مبادئه من بعده دستورا عالميا يحتذى وتصبح اطروحاته تغزو الشرق والغرب، حتى انها اهدت امريكا تمثال الحرية القابع على مدخلها في آخر المدى .

يقول خوان ويتيسولو في معرض تناوله أهمية ‌المكـان ‌أن جـان ‌جينيـه ‌لـم ‌ياسـر‌ اهتمامـه‌ أبدا المنظر الباريسي، وما كان للريف النورماندي أن يتسبب له بأدنى انفعال أو هزة.
كرر جينيه بعد فترة: بدون أدنى شّك "إن الوطن مثال أعلى لمن يفتقرون إليه .
سألوه: وفي اليوم الذي يستعيده المحرومون منه مثل(الفدائيون الفلسطينيون)؟
صمت لحظة، ثم أجاب:
سيحّق لهم آن ذاك، أن يفعلوا به مثلي، ما يشائون، بما فيه أن يلوح لنا ولا نعيره اهتماما".

ويظهر اكثر مثالا في دراسة هذه الظاهرة في حالة الشعب الفلسطيني، حيث تجدك ترى كل اصناف الحب والعشق تجاه الوطن المحتل"فلسطين" وتجد لدى الشعب الفلسطيني كل اصناف التعبير عن ذلك الحب والذي لا ينحصر في مضمار واحد فحسب بل يتعداه ليشمل كافة مضامير الحياة بالنسبة للفلسطيني، فتجده يشتق ادوات التعبير عن ذلك الحب كل يوم، فينتقل ويتنوع ويتفنن في التعبير عن هذا الحب تارة بتسمية ابنائه بأسماء فلسطين ومدنها وقراها وحتى اشجارها وازهارها، ولا تجد فلسطيني في الغالب إلا ويحب الميرمية والزعتر والنعنع والريحان ولا يتوانى عن زراعتها ولو في قوار على نافذة البيت؛ هذا ان افتقد الحاكورة، وان تواجدت، غرس فيها العنب والتين وسيجهما بآهات الصبر واكواز الصبار حتى غدت هذه الغراس احدى صور الهوية الفلسطينية الناهضة من رماد النكبة، هذا عداك عن الكوفية والتطريز والاغاني والاهازيج والعادات والتقاليد وكل مايجذّر انتمائهم لفلسطين.

ولم يكتف الفلسطينييون بذلك ، بل ايقنو سريعا دورهم التاريخي والحضاري واستطاعوا ان يبدعوا عناصر بقائهم ضمن صيرورة العملية التاريخية واستطاعوا ان يمتلكوا لعناصر الانتاج الحية التي تضمن لهم ذلك. فأبدعوا شعرا ونثرا وقصة ورواية ، واخرجوا للعالم جهابذة في الاداب والفنون وحب الوطن، كمحمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني وناجي العلي واحمد دحبور وعبد الكريم الكرمي ومعين بسيسو وراشد حسين وتوفيق زياد وعز لدين مناصرة وابراهيم وفدوى طوقان واميل حبيبي واميل توما وادوارد وغيرهم الكثير.

ولا شك ان استعراض اعمال من ذُكر فقط كافية لاظهار مدى حب الفلسطيني لفلسطين ومدى ارتباطه وعشقه لوطنه، وهذا طبعا ليس نرجسية، ولا لان فلسطين اجمل الاوطان -وان كانت كذلك- ولا لانها تطرح عسلا ونبيذا، ولا لانها مقدسة وغير ذلك من الاسباب؛ بل لان فلسطين محتلة ومغتصبة ومعظم ابنائها لم تطأ اقدامهم ارضها ولان العشق بين الانسان ووطنه ينمو ويتجذر بالغربة وبالفقدان ويزداد ضراوة بفعل البعد وهمجية الاحتلال وتلك غريزة انسانية وضرورة وطنية حتى ان هذا الحب يصبح من موجبات البقاء. لذلك قال الشاعر العظيم ناظحكمت: "اجمل الاوطان هي التي لم تطأها اقدامك بعد، واجمل البلاد هي التي لم تزرها بعد".

على ذمة باولو كويلو ، أنه في الوقت الذي اهتزت فيه مدينة نابولي الإيطالية لعروض المهرج كارلينا، جاء رجل إلى طبيب شهير يشكو إليه ضيقًا في الصدر، وبعد فحوصات مخبرية وتحاليل طبية، قال الطبيب لمريضه، اسمع يا سيد : أنت لا تعاني أي مرض عضوي، على الأرجح أن مشكلتك نفسية، حاول أن تخرج إلى الدنيا، وأن تفعل أشياء جديدة، في المدينة مهرج اسمه كارلينا يجعل المتفرجين في المسرح يقفزون من كراسيهم من شدة الضحك، أنصحك أن تذهب لتشاهده، أنا واثق أن نفسيتك ستتحسن!
نظر المريض في عيني طبيبه، وقال بأسى : أنا كارلينا أيها الطبيب!

إن الذي أغلب حديثه عن الحب ليس بالضرورة روميو زمانه، والتي أغلب منشوراتها عن الحب ليست بالضرورة جولييت زمانها، إن الناس يتحدثون دائما عن ما يفقدون لا ما يملكون !

إن الذي أغلب حديثه عن الدين ليس بالضرورة أنه صلى الفجر في جماعة، كل ما في الأمر أنه كغيره يُحبُ الله حتى ولو عصاه !
واغلب من يتصورون في حفلات التخريج ومن خلفهم كتب "متلتلة" فهم يتصورون امام ما يفتقدون او في احسن الاحوال امام ما كانوا يتمنون ان يوجد في بيوتهم وعقولهم.

نحن حين ننشر صور الموائد وما يعتليها مما لذ وطاب، هي صور ما نشتهي وما نحب، وليست صور ما لدينا حقا، فحلم الجائع خبزة.
وكذلك حين ننشر او نتحدث عن ذكرياتنا الجميلة فذلك لاننا نفتقدها ولانها غادرتنا بغير رجعة، حتى اننا عندما نضحك كعابري السبيل ما نلبث ان نتعوذ ونقرأ الادعية والمأثورات ونختمها "بقول الله يستر". حتى اننا احيانا نستكثر الفرح على انفسنا، فقد ألفّنا الحزن واتخذناه خليلا، او أننا لا نقوى على دفع حصتنا من دم الفرح.

إن الناس يخبروننا كيف يتمنون أن تكون حياتهم، لا كيف هي حياتهم فعلًا. إذا أردتم أن تعرفوا ما الذي يفتقده الناس، فانظروا إلى ما يتحدثون فيه ، وانظروا الى ما يستهويهم والى ماذا يتمنّون، فالأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير.
فهل فعلاً نحن نتحدث عما نفتقد لا عما نعتقد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان