الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرهان ... قصة قصيرة.

يعقوب زامل الربيعي

2018 / 8 / 16
الادب والفن


كان منشغلاً، يبحث عن شيء ما داخل رأسه، عندما لاح للجميع أنه ظل مسمراً أكثر منهم، وبعيداً في تلك الغرفة.
الجميع عندما أطرقوا لناحية في الغيب، بقي دخان السجائر وحده يتحرك إلى الأعلى وفي الأركان. وعندما كان المهطعين رؤوسهم ينفثونه على دفعات يتلاحم هلامي مع بعضه في الفضاء المحشور في الغرفة الضيقة، وعندما كان الدخان يحلق على رؤوسهم مكوناً حيطاناً ودوائر وأعمدة من هياكل رخام رخوةٍ وخاملة، كان "ذو النظرة العصية" يتعلب في قوقعة غير مرئية.. حلزون من بقايا رخويات الكسل والخوف، يحاصره برد شتاء قارص.
في قفر القبو المضبب برائحة النيكوتين وبقطران من بارود وجع الصدور، كان شعوراً سيئاً لا حصر له يتراكب على كاهل " ذي الفكرة العصية " أو كما يسميه معلم المدرسة الوحيدة في القرية " ذو النظرة المرتعشة ". لم يكن ينتظر طويلا حتى على ازدراد لقمته بتمهل كما فعل معلم المدرسة في واحدة من الولائم التي أقيمت على زواج أبن المختار، حاول المعلم أن ينبه ذي " النظرة المرتعشة بالقول
ــ " عليك أن تشعر بالمتعة عندما ستأكل بتمهل، كما أفعل أنا ".
بعد أن أبتلع لقمة أدارها سريعا بين فكيه، نظر بوجه المعلم سريعا، وحين مسح عرق وجهه بكم سترته أطلق آهة حاول كتمانها دون أن يفلح
ــ " صديقي، أنا لا أشعر برغبة للطعام، لكني اريد أن أحشو بطني فقط. ها أنت تراني أحاول الوصول للمتعة ليس في الأكل، إنما لكسب الرهان ".
شديد الحساسية. ومتأثرٌ أشد التأثر بمن يمكن الوثوق بأنه يستطيع إدراك جسامة المسؤولية وهو يبحث عن وجه الحقيقة الثاني.
ــ " إذا تمهل جيدا وأنت تختار وجه العملة. أحتكم دائما لخيالك ".
عندها أنحنى على الصحن وبكف مرتبكة ملأ فمه بلقمة كبيرة راح يتناهبها سريعا يمينا وشمالا بين فكين مرتعشين.
كثيرة هي الأسباب التي خُيل للعديد من الناس أنه، كان في الفترة الأخيرة، يخرج عن طوره أكثر من ذي قبل، ليتحول أمام أنظار المعارف والأصدقاء من إنسان أنيس يتميز بالحيوية النموذجية التي تفيض بحسية البهجة والشهوانية، إلى كائن مختلف، تزعجه الكثير من القناعات والروح الصامدة التي يتحلى بها البعض، وحتى العديد من النقاشات والأحاديث التي بدأت تشعره بالملل واليأس أو أنها ليست أكثر من لغوٍ باهت. لكن واحدة من تلك الأسباب القاهرة والتي أبقاها سراً على الجميع، رغم محاولات فاشلة على البعض للوصول إليها، هي من جعلته ينتحي جانبا داخل نفس أكثر ميلا للتوحد والانزواء. كما بدا للعديد أنه أصبح أقل تدينا، حين كف عن مشاركتهم صلاة الجماعة أو حضور اجتماعهم في المناسبات الدينية، ليعيش مثل سجين حكم عليه بالسجن الانفرادي لزمن غير معلوم، هكذا بدا على عكس سجية روحه الأليفة التي عرف فيها.
ــ " طرَة، لو كتبة "؟
ها هو يتمايل بين اليقين والشك. خمسون بالمائة يقين وخمسون أخرى شك. فما الذي يؤخره عن حسم الأمر؟.
ــ " أحزر ! ".
لا يستطيع. ربما سيخسر مصروف يومه في لعبة الرهان بين الطرّة والكتابة. عشرة مرات طلب من يمسك "ببنك الرهان " أن يعيد تكرار اللعبة دون أن يقرر المراهنة.
هناك أماكن غير صالحة لمعرفة أن كان على حق أو لا. أن كان واثقا، أو مترددا في اتخاذ الموقف. لذا فكر أن يترك لخياله مقود الأخذ.
كان يكتفي أن يضرب وجه الماء بيديه في اتجاه واحد. لم يكن سوى رجلا يندفع دونما مبالاة تحيط به الدهشة. وفي كل لحظة يطلق قفزة من هواء ساخن، وكأنه في محاولة للوصول إلى نقطة سوداء تصارع الغرق، وقت توعده بأنها ستكافئه بما غلا ثمنه أن هو أنقذها من فوهة الماء العاتي.
ــ " نعم يا أمي. لقد كنت جادا لإنقاذ تلك النقطة السوداء التي يكاد الغرق أن يبتلعها. لكني كنت أفشل كل مرة في تحديد أن كانت قطعة النقود التي بين يديّ صاحبي هي على جانب " الطرّة " أو " الكتبة ".
ثمة صورة أمام تفكيره، يتخيلها بما يضيفه احساسه له من مقت، يوم لم يكن أمام أمه من خيار سوى قبولها بالزواج من أبيه، وهو الرجل المكتمل الفحولة وقت كانت هي طفلة لم توشك على بلوغ سن النساء، أو أن تبدو عليها سمات كريات دم الانوثة كي تتأهل لتكون تحت زوج يكبرها بأعوام عدة.
لم يجرأ، لا هو ولا أمه، على الافصاح عما وراء تلك النظرات التي ارتسمت على تلك العيون الحزينة الدامعة، أو ما ارتسم على محيا شفاه كانت تعاني من الشقاء بالتناوب. " كم أنا شقية! " فكرت الأم. " كم أنتِ مسكينة أمي !" هكذا أنطلق تفكيره في تلك اللحظة.
يبدو على الأبن وعلى الأم أيضا، ذات الافرازات القاسية التي تدفعهما، لو أرخيا لمشاعرهما جناح الرغبة للبكاء، لبكيا طويلا بحرقة كي يستردا بعدها شيء من تلك الابتسامات الحزينة.
برغم تلك الفقاعات المريضة، كان هو أمام أمه، شاب فارع الطول، تنبعث من عينيه نظرات ملحاحة لأن يفسر ما بداخله من ضغوط. في وقت توقفت هي من محاولة أن تقول شيئا يدفعه لليأس. كمثل تلك اللحظة، عندما أحظرت أمامه صينية الغداء، أصابتها فجيعة قوله: " أنا لا اشتهي شيء وليس لدي الرغبة على تناول أي شيء".
في تلك اللحظات، كان ثمة تضرع في نفسيّ الأثنين، يحاول قوله برغبة شديدة لمن حولهما، أنها يريدان فقط العيش بسلام.
أمام شخصية تمتعت توا بروح المنافسة، ومع شعور بالحماسة ما يلزم الشعور بها أمام فئة تتصيد ضعف الآخرين، تلك التي بحاجة لنوع من الغرور ليصرخ بوجهها من شدة الاشمئزاز، جلس مرتدياً مظهراً أنيقا، وعلى طريقة ذوي الأنوف الشامخة، تظاهر بنشاط ملحوظ.
كان ذا فئة، وكأنها خرجت من القطيع، تتزين بنوع من جاذبية، لا تتنازل عن نمطها الجديد ولا عن حقدها الخفي اللذان شعرا بأن هناك ما يبررهما.
من جيب سرواله، أخرج قطعة نقود معدنية. وبنوع من الكبرياء، راح يحدق في وجهها. " هذه طرّة.. وتلك كتبة".
أمام الوجهين البيضاوين اللماعين، اسرف وقتا وكأنه بحاجة ليعبر عن بهجته لاكتشاف أن اليأس الذي استولى عليه كل تلك الأعوام، هي سلسلة من التراجعات التي فرضت عليه من ازدواجية مقيتة. جزء منها من قوى ريح خارجية وجزء منها جراء هشاشة كثبان رمال في روحه لا تستطيع الصمود.
عندما تحلقت القطعة البيضاء أمام وجهه في الفضاء، ووجوه من حوله، وقبل أن يتلقفها بيده، صاح الجميع في صوت واحد " خذها بين كفيك.. خذها، وقل شيئاً ".
كان عليه أن يتظاهر بعدم المبالاة، لكنه أمام نفسه، وقد اختلجت قسمات وجهه، أن يستردها بين راحتي يديه وأن يتلمس الشيء المضيء بخياله لمعرفة على أي من الوجهين استقرت بين يديه أخيرا.
الجميع وقد انضموا في حلقة حوله، كانوا ينادونه في انشاد جميل، وقد أخذوا يضربون اكفهم ببعضها:
ــ " بالضبط.. بالضبط.
إن أخرجتها من الظلمات
سترى العالم بفارغ الصبر.
عندها، بالضبط.. بالضبط،
ستقص عليك كل شيء ".
كان انفعاله على أشده. وكان يتضرع لتلك الحماسة العميقة، أن تساعده على أدراك جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولضخامة المهمة التي تنتظره. حدق بوجه الجميع فردا فردا، وكأنها نوافذا وأبوابا:
ــ " لقد قررت أن أحبس دموعي. في هذا الصباح، وكنت رأيتها صباح اليوم وهي تنسق ورود الطاولة. وعلى نحو كمن يعترف بجميل الاحاطة والدليل على المطابقة، كانت تدندن أغنيتها المفضلة على وقع حركات جسدها من اختيار أحاسيسها: " ترخص، وغليك .. وأحبك. أنا متعود عليك هواي يا سولة سَكْتي"!
في تلك اللحظة، أقسمتُ حتى لو كنت من حجر صلد، لانتزعتها من غيابها ليلتئم شملنا. لم أفهم ما أحسست فيه. وكيف لم يتسن لي أن أحصل على الدليل الواضح الملموس، أن تلك القطعة السوداء التي رأيتها تغرق أمامي لم تكن غير القطعة من قلبي، وهي تبحث عن نصفها الذي اخذها التيار الجارف لهوته العميقة".
استأثر الجميع بشعور بما سمعوه أشد التأثر، وحتى أن بعضهم أنفجر باكيا.
ــ " أتساعدوني في تيسير المهمة ؟ ". وبصوت واحد اجابوه:
ــ " نعم.. نجن نريد مساعدتك ".
ــ " أي معجزة ستتحقق، لو أني بخيالي أدركت الآن وجهة العملة المعدنية ".
ها هي عيون الجميع، تأخذ طريقها لما بين كفيه. تندفع صدورهم في صيحة مكبوتة واحدة، حيث شطر القطعة السوداء وهي تتخبط في لجة الماء والطين كأنها تبحث عن المنقذ.
الصيحة الحبيسة تواصل لحنها الحزين، وهو وسط حلقة الحفل القلق يزداد انفعالا، متدفقا بكل قوة نحو القطعة السوداء الغريقة. وخلفه يزداد اللحن تدفقاً دون هوادة.
وعلى مرمى نظر الجميع وقد أخذ يتلاشى رويدا، كان ذراعاه تلطم وجه الماء دونما رحمة.
المتذرع بالصبر وبالإصرار، يندفع كالسهم نحو جهة الصرخات اليائسة. يركز كل جهوده على مركز الدائرة المليئة بالثعابين السوداء الطافية. وبكل قوة وهو يمسك أذيال ثوبها. في تلك اللحظة كانت قد فقدت وعيها وآخر نفس في رئتيها.
لم يبال بصيحات الحشد الذي أخذ يهلل تبعا لتصاعد الموجات وهبوطها.
أما هو وقد وقف ينظر بتمعن لوجه القطعة المعدنية التي رفع عنها غطاء كفه الأخرى، بعد أن أطلق صيحة جهورية سمعها الجميع " أنا راهنت على الطرّة ".
بصوت تغشوه الدموع، صرخ بأعلى صوته:
ــ " يا الله .. يا الله ، ها هو وجهها الجميل. أخيرا" !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا