الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خجي وسيامند: الفصل الخامس 4

دلور ميقري

2018 / 8 / 16
الادب والفن


" اسمع! رأسي يطن بالأفكار الملحة، ولن يهدئه سوى الشراب "
قالت له بصوتٍ ما يزال متأثراً بجملة التفكّه، المنقضية. نظرَ الشابُ تلقائياً إلى رأسها الأشقر، المنعكس عليه ضوءُ القمر كما ونورُ مصباح مدخل العمارة.
" لديّ بوفيه صغير.. "، ابتدأ يجيبها وهوَ يهمّ بالتحرك من جديد. ولكنها قاطعته، ممسكة معصمه القويّ: " بل أحتاجُ إلى بار، لقضاء ساعة لا أكثر ". ثم أردفت وقد فارقت نبرتها لذعة التفكّه " أعرفُ مكاناً هادئاً، يقع بالقرب من مسكني "
" مكاناً هادئاً، قلتِ؟ "، تساءل بدَوره في شيء من السخرية. وكانت في سبيلها للرد، حينَ شُل لسانها بغتة. شدّت يدها على معصمه، بحركة رعب هذه المرة: من البقعة الغارقة في عتمة بهيمة، هنالك على طرف مدخل العمارة، تناهض ببطء مخلوقٌ مسودّ شبيهٌ بكتلة العتمة نفسها، وما لبث أن انتصبَ بكل قامته العملاقة.
" هلمِ بنا إلى ذلك المكان، الهادئ! "، خاطبها عن قرب مهتزّ الصوت بنوع من الحنق. وكان قد كلّمَ منفرداً بوابَ العمارة ذاك، العملاق القاتم اللون، الذي أرعبت هيأته السيّدة الأجنبية. حُبيَ منظرُ الشاب، مثلما لهجته سواءً بسواء، باهتمام السيّدة. فإنها المرة الأولى تقريباً، تراه متكّدرَ المزاج وأقرب إلى الغضب. نظرت في ساعتها الصغيرة، وكان عقربها يقترب حثيثاً من الواحدة. فكّرت عندئذٍ في أخذ سيارة أجرة، للعودة وحدها إلى المسكن.
" أنظري، ثمة عربة كوتشي واقفة في نهاية الدرب وبالوسع أن نستقلها إلى المكان المقصود "، جاءها صوته مبهماً كشبحه السابح في الظلام. كان يتقدمها بعدة خطوات، فما لبثت أن لحقته بقدمَيّ امرئ يولي الأدبار. تعهّد صديقها أيضاً وشوشة الحوذيّ على انفراد، وما هيَ إلا دقيقة وكانت العربة قد تحركت مع جلبة حوافر فرسيها وحديد عجلاتها الأربع. خلال الطريق، التفتَ الحوذيّ العجوز إليهما عدة مرات. " تينا "، سبقَ لها ركوب الكوتشي ليلاً مع مَن تدعوه، " عبد "، وفي التالي، أدركت الآنَ معنى حركات العجوز. فلما أفضت بذلك لصديقها الشاب، فإن هذا علق بالقول مدمدماً: " إنه يخشى أن أكون خدعته، حينَ رفضتُ عرضه بأخذنا إلى منطقة خالية مقابل مضاعفة الأجرة "
" آه، هكذا المسألة إذاً! "، قالتها ضاحكة دون كدر. ثم أضافت وهيَ تحدق في وحشة الليل، المنسدل على المناظر المتعاقبة إلى اليمين من مجلسها " ولعل ذلك البواب العملاق، المرعب، قدم لك عرضاً شبيهاً؟ ". زم الشاب فمه لحظة، مأخوذاً ربما بقوة ملاحظتها، قبل أن يومئ برأسه: " بلى.. "، أجاب في اقتضاب.
" ولكن لِمَ علينا العودة أدراجنا، وثمة العديد من البارات بالقرب من مسكني؟ "، تابع من ثمّ مدمدماً وكأنما يخاطب داخله. لم تجبه فوراً، بل راحت تواصل التغلغل ببصرها في الغلسة، المخترَقة ببصيص بعض السيارات العابرة. ثم دارت العربة أخيراً على نفسها، لتقطع شارع " محمد الخامس " إلى جهته اليسرى ولتتوغل في الدرب الضيّق، المؤدي إلى الجهة المقصودة. ضجة الموسيقى، تصاعدت في الوهلة التالية، يحملها النسيم المعتدل، المفعم بروائح عطور نسائية نافذة.
" أرجوك، يا صغيري، لا داعي للغضب..! "، قالت له وهيَ تضمه رأس في مودة إلى صدرها. ولم يكن ليكتب النجاح لحركتها الحانية، لولا أن الشاب كان قد انزلق قبلها من العربة بطوله الفارع. ولجا البارَ من مدخله المرصّع بقطع الكريستال، المذكّر المرء بباب حلم من الأحلام. كل شيء في الداخل يلفه الصخب؛ الموسيقى الغربية، الغناء باللهجة المحلية، والرقص المختلط. أشارَ لهما النادل إلى منضدة فارغة، وعيناه تلمعان ببريق الطمع وسط العتمة المعربدة.
" لقد كنتُ محقة باقتراحي، على ما أعتقد. عبثاً كنتَ ستعرّض سمعتك للأقاويل السيئة في عمارة مشبوهة، يقوم على حراستها عبدٌ أشبه بخصي الحريم! "، استأنفت كلامها بطريقة الصراخ تقريباً بالنظر للموسيقى المصمّة. بادلها ابتسامة ساخرة، بالكاد فضحت معالمَها العتمةُ. على أنها لحظت ذلك، وسرعان ما أوّلته إلى انطباعات سالفة ذكرها " عبد الإله " في معرض تشنيعه على الشاب. هذا الأخير، التزمَ الصمتَ في خلال الساعة المبتسرة، التي قضياها في البار. إلا في مناسبة وحيدة، تواشجت مع مرور إحداهن مترنحة الخطى من أمام منضدتهما، المضاءة بنور خافت يندلق من السقف.
" آه، كأنني أعرفُ هذه المرأة؟ "، تمتمت شفاهه على الأثر. كذلك قرأت " تينا " حركة شفاه صديقها، لتنتقل من ثم إلى محاولة قراءة فكره. المرأة، كانت حسناء في الثلاثين أو أزيد قليلاً، شعرها مصبوغ بصفرة شديدة توائم لون بشرتها. وكانت ترتدي فستاناً أحمر اللون من نسيج براق، قصيراً للغاية وبلا أكمام. فجأة، وعلى حين غرة، سطعت في الظلمة صورةُ الطفلة ـ كما يتراءى لمسلم ورعٍ طيفُ وليّه، الهائم بعيداً عن ضريح يعلوه قبة صغيرة ومحروس من لدن شجرة توت مباركة، متوحّدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع