الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبر الهاتف (ما قبل الزمن المحمول)

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2018 / 8 / 17
الادب والفن


عندما أحصى ما في جيبه من نقود، ووجد أنها تزيد على الجنيهات العشرة بقليل، قرر أن يجري المكالمة.
توجه إلى السنترال الذي اعتاد أن يجري منه مثل هذه المكالمة، وطلب من الموظفة أن يجري مكالمة محلية لمحافظة دمياط. وضعت الموظفة أمامه جهاز الهاتف المخصص لمثل هذه المكالمات، فأخرج بيده اليمنى من الجيب الخلفي لسرواله ورقة بيضاء صغيرة مطوية، فردها واتصل بالرقم المدون فيها، وراح يستمع للصوت الدال على أن الجرس يدق في تلك المحافظة التي لم يكن قد زارها مطلقًا في تلك الأثناء، وإن تعلق قلبه بها لدرجة أن حفظ معالمها الرئيسية وأسماء أشهر قراها.
لم يطل انتظاره، فقد سمع صوتًا يدل على أن هناك من قرر الرد على الهاتف من الطرف الآخر ورفع السماعة، ولم تكد تمر أجزاء من الثانية حتى سمع صوتًا ناعسًا يقول:
"ألو".
كان يبدو أن صاحب الصوت فتى وصل بالكاد لمرحلة المراهقة مما أشعره بالارتباك. فعلى عكس المفترض، كان يجيد التعامل مع الكبار في هذه المواقف، لكنه كان يجد صعوبة في إفهام الصبية والفتيات المراهقات ما يريد. إلا أنه تغلب على ارتباكه، وقال بصوت ثابت: "الأستاذة منى موجودة لو سمحت؟".
أجابه صاحب الصوت بالرد التقليدي والمتوقع في الواقع: "أيوه، نقول لها مين؟!".
"قول لها أشرف من الشركة المصرية بالقاهرة".
"طيب خلليك معايا"، ثم الصوت المميز لوضع السماعة على شيء ما لا ريب أنه قطعة الأثاث الموضوع فوقها الهاتف.
شعر في الجملة الأخيرة بأن لهجة صاحب الصوت فيها الكثير من الضيق ونفاد الصبر، وكأن المكالمة قد جعلته يغادر جنة الخلد من أجل الرد على الهاتف.
بطيئة مضت الثواني حتى سمع صوتًا يدل على أن هناك من يتناولها للرد على الهاتف، ثم جاءه صوتها يقول:
"ألو".
كان أكثر ما يشده إليها في المكالمات الهاتفية بالذات أن صوتها لم يكن يتغير... كان مثل صوتها في الحوارات العادية؛ فلم تكن تغيره ليبدو أكثر رقة أو جاذبية، مثلما تفعل فتيات كثيرات. كان يُرْجِعُ ذلك إلى بساطة أسلوبها في الحياة بشكل عام، وكانت هذه البساطة هي قطعة المغناطيس التي جذبت قلبه إليها.
وللحظة فكر في أن يغلق سماعة الهاتف؛ فبقدر ما كان يستريح لسماع صوتها، كان يشعر بقلبه يثب من بين أضلعه بسبب ما يجتاحه من انفعال وتوتر لا يدري لهما سببًا.
لعله الخجل!!
لكنه لم يترك نفسه لكل عواصف الانفعالات هذه إلا لأجزاء من الثانية، قبل أن يستعيد صوته ثباته، ويقول:
"ألو، إزيك يا منى؟! عاملة إيه؟! معاكي أشرف من الشركة المصرية".
هنا انطلقت الكلمات من فمها عبر سماعة الهاتف كالرصاص، فقالت في لهفة: "إزيك يا أشرف؟! عامل إيه؟! إنتم فين؟؟! نسيتوني وللا إيه؟! مش عيب عليكم تسيبوني لوحدي كده؟! فينكم يا أخي؟!".
حاول أن يقاطعها لكنه لم يستطع؛ فقد كانت تتكلم باندفاع شديد، فانتظر حتى أنهت كلامها وسألها بالثبات نفسه: "أنا الحمد لله بخير. إنتي أخبارك إيه؟! مالك؟! الشغل الجديد مزعلك وللا حاجة؟!".
جاءه صوتها يحمل سخطها المعتاد على الحياة: "والله يا أشرف حاجة تكسف! ملل... ملل فوق الوصف"، ثم اكتسب صوتها المزيد من السخط، وهي تتابع: "يعني يوم ما ربنا كرمني بالجائزة الأولى على مستوى المصلحة، كانت المكافأة 40 جنيه...!!".
لم يستطع منع نفسه من الابتسام الذي تسلل إلى صوته، وهو يقول: "مبروك مبروك، وعموما يا ستي ما تدقيش.. كفاية التقدير المعنوي".
عادت تقول بالسخط نفسه:
"التقدير المعنوي؟! تعرف المصلحة قال لي إيه بعد ما استلمت الجايزة؟!"، وراحت نبرة صوتها ترتفع في حدة وهي تتابع دون انتظار رد:
"في نفس يوم استلامي الجايزة بعد ما رجعت من حفل الاستلام لقيته عامل لي خصم تأخير".
زفر في ألم وضيق، وراح يمرر يده عبر خصلات شعره في توتر عاقدا حاجبيه قبل أن يقول:
"هي عقلية الناس دي كده".
أتته زفرتها ملتهبة عبر الهاتف؛ فشعر بها تلفح قلبه، وقبل أن يقول شيئًا، جاءه صوتها هادئًا هذه المرة وهي تقول في مرح أدرك فورًا أنه مصطنع:
"وانت عامل إيه؟! وإيه أخبار الناس في الشركة؟!".
"عادي. إنتَ زي ما انت... هي دي ناس تتغير؟!".
"طيب وأخبارك إنت إيه؟!".
"عايشين".
ساد الصمت لثوانٍ عبر أسلاك الهاتف، فشعر بأنه يجب أن يقول شيئا، أو بالأحرى أن يقول ما اتصل بها لأجله، فقال بصوت تسلل إلى بعض الارتباك هذه المرة:
"صحيح يا منى، كنت عايز أستفسر منك عن نقطة".
جاءه صوتها يحمل الكثير من الاهتمام:
"خير إن شاء الله".
استعاد صوته ثباته وهو يقول ضاغطًا على كل حروف كلماته:
"إيه أخبارك في موضوع الارتباط؟!".
ساد الصمت لفترة طويلة نسبيا، قبل أن تسأل في ما بد له شيئًا من الحذر:
"مش فاهمة! قصدك إمكانية استقالتي من الشغل الجديد والرجوع للمصرية تاني؟!".
عاد يقول بالأسلوب نفسه الضاغط على الحروف:
"لأ.. أقصد الارتباط بمعناه الاجتماعي.. يعني مرتبطة بأي شكل من أشكال الارتباط؟! خطوبة.. كتب كتاب.. قراية فاتحة؟!".
عاد الصمت ليسود بينهما، قبل أن يأتيه صوتها وقد حمل الكثير من المرارة:
"والله يا أشرف ما أخبيش عليك.. فيه واحد متقدم لي، وهما ضاغطين عليا عشان أقبله.. هو كويس يعني من عيلة كويسة وشغال صيدلي"، وصمتت لبرهة قبل أن تتابع قائلة في لهجة فاحت منها الحيرة:
"بس مش عارفة... مفيش قبول".
لم يترك لأطنان المرارة التي شعر بها في قلبه المجال لأن تتسلل إلى صوته، وضغط على أعصابه، وهو يقول في هدوء يخفي خلفه ما يخفي من إحباط هائل:
"طيب مش يمكن يكونو شايفين فيه اللي إنتي مش شايفاه؟!".
عادت تقول:
"يا أشرف بأقول لك هو فعلًا كويس، ولكن المشكلة عندي في القبول"، وصمتت مجددًا، ثم أكملت في تردد وارتباك:
"يعني مش عارفة أتواصل معاه... مش قادرة أخلليه يفهم أنا قصدي إيه من أي حاجة بأقولها له".
هنا قال "أشرف" متسائلا:
"يعني مفيش تفاهم كمان؟!".
أجابته في سرعة:
"تقدر تقول كده".
مط شفتيه في تفكير قبل أن يقول:
"مشكلة دي... صعب إن الواحد يتجاوزها".
عاد يسألها وهو يضغط ثانيةً على كل حروف كلماته:
"لكن هما ضاغطين عليكي؟!".
قالت في يأس:
"أيوه، بابا بالذات حالف يمين إن العريس ده ما يروح مني".
غمغم في سخرية:
"هو قرش وللا إيه؟!".
بدا أنها لم تسمع ما قال؛ لأن صوتها جاء إليه متسائلًا: "إيه؟! بتقول إيه؟! مش سامعة... علّي صوتك".
فعاد يقول في صوت مرتفع:
"بأقول إن معنى كلامك إن الجوازة دي 90% حتمشي؟!".
قالت في اليأس ذاته:
"آه".
ثم سألته فجأة:
"ولكن بتسأل ليه؟!".
كان السؤال مفاجئا، ولم يكن قد حسب لهذا الموقف ككل حسابه؛ لذلك جاء رده متلعثمًا وهو يقول:
"لا ولا حاجة... من باب الاطمئنان عليكي يعني".
لم تبدُ نبرة صوته مقنعة؛ فعادت تسأل في إلحاح:
"لأ قول.. كنت بتسأل ليه؟!".
في نفسه قال:
"يعني هي يا إما عبيطة يا بتستعبط؟! مش عارفة بأسأل ليه!".
ثم قال في صوت كسته خيبة الأمل:
"مش مشكلة دلوقت... خلاص عشان ما أطولش عليكي... المهم ربنا يوفقك إن شاء الله وحاكون على اتصال بيكي دايما".
فقالت في خيبة أمل:
"شكرًا على اتصالك وسؤالك... وخلليكو دايمًا جنبي".
"إن شاء الله. سلام عليكم".
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته".
وبحركات آلية وضع السماعة، ثم أعطى للموظفة أجرة المكالمة، وغادر المحل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع