الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجيران - من حكايات الحي القديم

فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة

(Falasteen Rahem)

2018 / 8 / 17
سيرة ذاتية


وكان الرجل ذو العيون المكطبة، هكذا كنّا نصف العيون الصينية وكل ذوي العيون المجاورين لجغرافيتها، وربما جائت الكلمة من اصلها العربي، قطب، بمعنى خيط، ولان عيونهم ضيقة ، كانت بالنسبة لنا مكطبة، بالكاف الاعجمية، كان الرجل يسألنا نحن الصغار عن (سماك) وهو يشير الى نفسه قائلا سماك شي مي، ويعود فيشير الى صدورنا بسبابته فيقول سماك ثم يهز رأسه ويديه مستفهما، ولما كان الامر صعبا علينا ، قررنا ان نستعين بأمي التي كانت تقف على تنورها عند الغروب، وتنتظر الجارات ان تتم أمي شجارها، والشجار هو الخبز بين كل مرة تشعل فيها النار في التنور ، فبعد كل مجموعة من الارغفة يحتاج التنور الى مزيد من النار ، ينتظرن الجارات أن تتم امي نوبتها من الخبز لتبدء نوبتهن ، أمي التي شيدت تنورها الطيني بمساعدة أم سالم،في ركن بالحي السكني الجديد، والذي صار من بعد منبر ومجلس نساء الحي، أفتتنا أمي ان الرجل ربما يريد مفكا أو كماشة ،ربما وجوده على سطح الدار أوحى لها بذلك ، فجيراننا في الحي الجديد من كوريين وفلبينيين ويابانيين، كانوا يعملون كمهندسين وفنيين ،وكانوا يشرفون على سلامة الخدمات وحسن توصيلها الى البيوت التي كانت تبدو كرسوم كارتونية في ذلك العهد لشدة جمالها وتناسقها، هؤلاء المكطبين العيون كانوا يحبون بيتنا جدا،بيتنا الذي كان يميزه كثرة عدد قاطنيه بالنسبة لحجمه، فبالنسبة لبيت بذاك الحجم كان مصمما لعائلة صغيرة مقننة الإنجاب، في حين كان منزلنا يكتظ بالاطفال ، وكنت واحدة منهم ،كانوا يحبون كرم أمي التي لا تنساهم من خبزها ومن تمرها ، ومن أطباق الأعياد والمناسبات، وكنا أنا وإخوتي لا نتركهم بسلام ، فكثيرا ما كنّا نقطع عليهم راحتهم يدفعنا فضول نهم لهؤلاء الجيران الذين لا يتكلمون لغتنا، لا اعرف كيف صارت أسمائهم فيما بعد تنقل بين عبد اللطيف وَعَبَد الحسين وجيمي، وصرنا نناديهم بها وكأنها أسمائهم حقا، اذكر ذاك الرجل الأشيب الذي كنّا نسميه حمرية لفرط حمرة بشرته، كان يخرج مساءا برفقة كلبه الشرس والذي كان يرعبنا، ليركض بالساعات، وكنت كثيرا ما احتال عليه، لأني حين كنت أسابقه كنت أعجز حتى عن اللحاق به وكان يثير استغرابي ان يكون لعجوز مثله هذه القوة، هؤلاء أصدقاء العائلة في الحي الجديد ولسنوات لا اذكر عددها ، غير أني اذكر ان الفلبيني مستر جين ديا باباي كان طبيبا، وكنا نستعين به كثيرا ، وعقدنا صداقات مع بقية المجموعة ، حتى صرنا لا نخاف كلب صديقنا الحمرية ، ولا حتى نستغرب تعشبيهم للحبوب قبل طهوها، تذكرني بهم صديقتي المغربية حبيبة التي تحرص على تعشيب جميع الحبوب ، ايمانا منها ان السر يكمن في جنين الحبة النامية، كنت مسرورة جدا حين ابتهج صديقنا الحمرية ، حين وجدني اطبخ معكرونة بالبصل ، بشكل سري اذ ان طولي آنذاك لم يؤهلني بعد للوقوف امام الطباخ ، وكنت افعل ذلك مقلدة صديقي السمين البطل الامريكي بودّي سبينسر ، اذا شاهدته يفعل ذلك في حلقة من مسلسله الذي لا يحضرني اسمه ، وكان يتلذذ جدا بمذاقها، وقد يكون له الأثر الكبير في طريقة تحضيري لها ، اذ أني لا اعرف اَي طريقة اخرى لتحضيرها وما زلت اجدها ممتعة ولذيذة بالبصل ، تماما كما كان يفعل بودّي سبينسر في مسلسله، بقينا معهم اقصد جيراننا فترة طويلة دامت لسنوات، حفظوا أسمائنا وعرفنا القليل عنهم ، كانوا يقلوننا معهم اذا وجدونا في الطريق، ولا يتوانون عن مساعدتنا أبدا ، اذكر جيدا ذاك النهار الذي تسلقت به برج مصفى الماء، طمعا في الصقر الذي يعشعش فوقه بحسب رواية اخي عمار ، وفِي الحقيقة لم يكن ثمة صقر فوق وإنما كان غراب ، غرابا شرسا قاتلتني بعنف ، وكنت اجتهد في الوصول الى العش ، غير ان الغربان اجتمعن من حولي، وصرن يهجمن علي وكنت أقاتل حتى جرحن وجهي وذراعي ونفشن شعري، وكان من حسن حظي ربما ، أن احد الأصدقاء مر بالجوار فسمع صراخا أو ربما لفت سمعه ونظره عدد الغربان التي تنعق في اعلى البرج وربما لاحظ وجودي ، رغم صغر حجمي آنذاك ، وماهي الا لحظات حتى وجدت اثنين من أصدقائنا قد تسلقوا بكامل عدة السلامة واحتضنوني وانزلوني على مضض، فقد كنت اريد ان اربح تلك المعركة ،
اذكر بعد تلك الحادثة صار أصدقائنا يهتفون بأسمي أينما وجدوني، وحتى حين يمرون من امام بيتنا، كان صوتهم يصل الى داخل الدار وهم يهتفون فالستين آيه، والكلمة أيه لا اعرف ماذا كانت تعني بلغتهم ، لكن اسمي كان واضحا، في الوقت الذي كنت أمطرهم بورد اللبلاب أينما عثروا علي، وردة اللبلاب الناعمة الصغيرة التي كانت تعشعش في حديقتنا، كانت وردتي المفضلة ، وكانت دائماً تنام بين دفاتري ، وكانت حين تتفتح تحول حديقة بيتنا الى ثوب عروس ابيض
أصدقائنا قبل رحيلهم طلبوا الى أمي ان يشترونني منها، واعدين بتعليمي والاهتمام بي، الطلب الذي لاقى رفضا قاطعا من قبلها، وفِي الحقيقة اعتقد انهم كان يعرضون عليها مساعدتها في تربية هذا الكم الكبير من الأطفال، في الوقت الذي كان ابي آنذاك جنديا في الجيش الشعبي، أمي التي ظلت لفترة طويلة تحكي باستغراب وتهكم كيف ذاك الكوري طلب اليها ان يشتريني منها ،
عاد أصدقائنا الى بلدانهم، وظللنا نحن الصغار نتأمل عودتهم، في الحقيقة انتظرناهم ان يعودوا، ولَم نقطع الأمل الا حين جاء سكان جدد وأخذوا مساكنهم، كان ذلك منتصف الثمانيات، أواخر القرن الماضي.
بعد جهد جهيد عرفنا ان الرجل الذي كنّا نسميه تحببا جيمي، وكان يحمل اسما غريبا اعتقد انه شه مي ، أو شيئا قريبا من اسم جيمي، كان في الحقيقة يحاول التعرف إلينا ويسألنا عن أسمائنا، وكان يحاول ان يقول ذلك بالعربية التي تعلمها، فكان يقول اسماك عانيا اسمك، اذكر ان المسكين عانى معنا ليصل الى لغة مشتركة دامت بيننا طويلا ، ،
غادر أصدقائنا وتبدلت علاقة الجيران ببعضهم، فبات الجيران يرفعون من الحواجز بينهم، غطاء من الالمنيوم أو القماش السميك للاسيجة التي كانت مجرد أسلاك خضراء جميلة يتسلقها اللبلاب ونبات الليف صانعا منها عريشة وكثيرا ما كان يتدلى منها بعض عناقيد الحصرم التي لم نكن نمنحها الفرصة لتصير عنبا ،
الحي الذي كان بالنسبة لي مثل عالم اليس العجيب،فقد سحره ، حين لم يعد رغيف أمي يخرج لبيوت الغرباء.

من حكايات الحي القديم
فلسطين الجنابي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على