الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سمير أمين: وحدة النضال الإيديولوجي والالتزام السياسي والانتاج العلمي في سيرة شيوعي أممي(2)

عبد المجيد السخيري

2018 / 8 / 19
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


الاقتصاد المجرد والرأسمالية الخيالية

تصادر نظرية الاقتصاد المجرد المزعوم على "نظام خيالي" تتحكم فيه "قوانين اقتصادية" صرفة، وهو نظام السوق، على نحو تعمل فيه، إذا ما تركت لذاتها، على تحقيق "التوازن الأفضل"(الفيروس، 14/15). ومثل هذه المصادرة لا تجوز إلا بتجاهل "الرأسمالية القائمة بالفعل" حيث لا يمكن الفصل بين الصراع الطبقي، والسياسة، الدولة، ومنطق التراكم الرأسمالي، ذلك لأن مفهوم الرأسمالية لا يرتكز على مجرد وجود "سوق معمم" يعمل من تلقاء نفسه، "وإنما يركزها جوهرها في السلطة فيما وراء السوق"(الفيروس، 14)، بوصفها نظاما "تتكرر فيه حالات الاختلال بسبب المواجهات الاجتماعية والسياسية الواقعة فيما وراء السوق"( الفيروس، 15). وعليه، فما تروجه النظرية المزعومة للاقتصاد المجرد من مفاهيم حول الليبرالية، مثل مفهوم "السوق غير المقنّن"، ليس إلا أكاذيب ومزاعم لا أساس لها من الصحة. ففي الواقع، تخضع السوق لتقنين "لسلطات الاحتكار فيما وراء السوق"، يؤكد سمير، فيما يعتبر "الانحراف السلعي" شكلا خاصا من الرأسمالية هو من "يتحكم في إعادة انتاج المجتمع بكامله وليس مجرد نظامه الاقتصادي"( الفيروس، 15). إن قانون القيمة يخضع "كل الحياة الاجتماعية" لمنطقه وليس "الحياة الاقتصادية للرأسمالية" فحسب. ولذك لا تعتبر القوانين التي تتحكم في هذه الأخيرة "قوانين عامة للتاريخ"، كما تشيع النظرية المذكورة، فهي لا تعدو، في نظر سمير، أن تكون من طبيعة تاريخية خاصة ترتبط بالعلاقات الاجتماعية المتعلقة بالرأسمالية، وهو ما يعني أن فهم الرأسمالية غير ممكن خارج إطار الصراع الطبقي على مستوى المجتمعات، أو الصراع بين القوى والدول مثل التنافس بين رؤوس الأموال، وبالتالي فإنه ليس ثم مجال لتصور رأسمالية متعالية ومنفصمة عن تاريخها أو "فصل الاقتصاد عن السياسة"، يضيف سمير. والواقع أن نظرية الاقتصاد المجرد، أي المنفصل عن شروطه التاريخية، الاجتماعية والسياسية، أو كليته الاجتماعية، ليست سوى خطابا تبريريا لشرعنة الرأسمالية تتغذى من أسطورة "سوق يعمل من تلقاء ذاته"، أي ذاتي التنظيم، يحقق التوازن العام، وبوسعه أن يصلح الاختلالات التي قد تصيبه والعيوب التي قد تطرأ عليه بشكل عرضي. وبدلا من أن تعمل النظرية تلك على تحليل شروط اشتغال الرأسمالية الفعلية، تهرب إلى الأمام بتصورها اقتصادا خياليا "يخلط بين المفاهيم ويساوي بين التقدم والتوسع الرأسمالي، وبين السوق والرأسمالية"( الفيروس، 18). على أن النقد الموضوعي يقتضي الإقرار بأن هذا الخطاب نجح في فرض مفاهميه وتصوراته ولغته على ضحايا الرأسمالية قبل الرأسماليين أنفسهم، بأن قدم لهم تحليلات متعلقة بنظام مثالي صنعه خيال المنظرين لا علاقة له بواقع الرأسمالية الفعلي، وفي هذا بالذات يكمن سر الفعالية الإيديولوجية لليبرالية الجديدة المظفرة. فالخلط المقصود بين "اقتصاد السوق" و"الاقتصاد الرأسمالي" أسهم في إضعاف استراتيجية المقاومة لدى الحركات الاجتماعية والحد من فعالية انتقاداتها للسياسات الليبرالية الجديدة القائمة، ذلك أن السوق يقترن بالتنافسية، فيما يتحدد وجود "رأس مال" بالحد من المنافسة، أي بالاحتكار، ومن ثم ستكون الرأسمالية الفعلية نقيضا لسوق خيالي يجري تصوره كحيز يعمل وفق قوانين مجردة، لأن الأولى تشتغل بمنطق التوسع الذي لا يبالي بمثل هذه القوانين، بقدر ما يخضع لمنطق الربح ومتطلباته في "أوضاع تاريخية معينة"(الفيروس، 17).

الطوبى الرجعية و"رشاد السوق"

يفتح سمير النار على ما يصفه بالطوبى الرجعية( وهي برنامج القوى المسيطرة في الرأسمالية اليوم القائم على تدمير قوى العمل وتفكيك الأنظمة الحمائية والعودة إلى "أجور البؤس" في المركز، وعلى الهيمنة على الأنظمة الانتاجية وتنويع وتوسيع عمليات النهب والتبديد المتواصل لثروات الأرض ببلدان الأطراف)، واضعا النقاط على تفاهتها ولا جدوى مشروعها. فما تقدمه هذه الطوبي كاقتصاد صرف خالص، ومصنف على أنه نيوكلاسيكي زورا، يشيد انطلاقا من مسلمة في غاية العبث: السوق وحده قادر على تنظيم وإدارة ذاته بذاته وعلى" انتاج التوازن الطبيعي العام والتوازن الاجتماعي الأقصى"، وهي المسلمة التي تتعزز، بنظر سمير، بإضافة تافهة من المتن الفلسفي/الاجتماعي لما بعد الحداثة تبتغي إضفاء المشروعية على نظام ينتج المزيد من المآسي والتهميش واللامساواة وتعظيم النزعة المرضية للاستهلاك، ويغرق الغالبية العظمى من الشعوب والكادحين في حالة من البؤس لا نظير له. ولا تزيد مقولات ما بعد الحداثة عن مجرد شرعنة شكلانية لممارسات التلاعب التي تفرضها إدارة الأزمة بالنسبة لنظام اقتصادي واجتماعي لا يستطيع القفز على تناقضاته الجوهرية، وهي نشاط يبدو مجاورا وموزايا - ربما تابعا- لما يسمى بعلم "الاقتصاد الخالص" أو النظرية الاقتصادية الخالصة، (وهي تحتل، حسب سمير، مكانة الصدارة في "الفكر الوحيد" المهيمن في الخطاب الرأسمالي الراهن، باعتبارها إيديوولوجيا ذات طابع اقتصادي مهيمن ملائمة لمقتضيات تطور الرأسمالية الأساسية) **، كل مسعاه هو إثبات المشروعية "الأزلية" للرأسمالية، وتعزيز الاعتقاد بأنها "تحقق حكم العقلانية فتجيب على رغبات الإفراد إجابة صحيحة"(نقد، 28)، وتمثل "نهاية التاريخ"، كما بشر بذلك داعية العصر الأمريكي فوكوياما، ما يفترض تعميما لمنطق السوق ليطاول جميع مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، وبالتالي مكافحة كل العوامل غير العقلانية التي تعوق نشاطه، بما في ذلك "الدولة". ولذلك فخطاب الطوبي الليبرالية يمثل النواة الصلبة، بتعير سمير، للايديولوجيا المهيمنة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، يصادر على أن عمل السوق من شأنه أن يقنن ويضبط الحياة الاجتماعية من تلقاء نفسه بقدر ما هو قادر على ضبط ذاته بذاته. وإن ما يميز هذه الإيديولوجيا المتلبسة لشكل نظرية اقتصادية علمية هو كيلها المستمر إلى التخلص من الأبعاد غير الاقتصادية في تفسير وبناء المجتمع، على النحو الذي يجعلها مستقلة عن فروع العلوم الاجتماعية الأخرى، وبالتالي اكتساب طابع نظرية "خالصة" مزعومة.

الفلسفة الاجتماعية-السياسية للنيوليبرالية

يقوم الفكر البرجوازي على فلسفة اجتماعية- سياسية مكملة يتصدرها مفهومي الحرية الفردية ونظرية القيمة. فبموجب الأول سيكون المجتمع مجرد تجمع لأفراد أحرار يقدمون أنفسهم في سوق العمل، أو يرفضون شروطها، يبادرون إلى إنشاء وحدات انتاجهم أو يمتنعون، يشترون ويبيعون بحرية مطلقة. وليس الفرد الحر سوى "الإنسان الاقتصادي" الذي اخترعته الفلسفة الليبرالية ليكون التعبير عن فعل "قوانين الاقتصاد"، مع يعني أن "ممارسة الحرية [تفترض] تنظيم المجتمع على أساس تعميم السوق في مجالات عرض العمل وطلبه والقيم بالمبادرة الانتاجية، وتبادل المنتجات"(نقد، 30)، بينما تتولى النظرية الاقتصادية وضع قواعد هذا المجتمع وإعادة انتاجه بتصويرها على أنها تستجيب لرغبات الأفراد، وتمثل النظام العقلاني المتوافق مع طبيعتهم كأفراد أحرار منذ الأزل. ومن ثم فإن كل ما من شأنه الحد من حريتهم من ظروف تاريخية، أو من الدولة وحتى الملكية الخاصة، سيعد من العوامل غير العقلانية التي يتوجب إزاحتها من طريقهم كشرط "لتنفيذ المشروع القائم على تحويل الكوكب إلى تجمع أفراد أحرار يتلاقون في الأسواق للتفاوض على جميع ملابسات العلاقات البينية.."( نقد، 30). والحال أن هكذا مفهوما للحرية الفردية هو في الأساس "مفهوم ذو طابع فوضوي يميني"، يقول سمير، يصطدم بجميع أنواع التنظيم من الدولة والنقابات، بل وحتى الممارسات الاحتكارية، ما يفسر شعبيته وسط " قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة"، بينما قد تنقلب معاداته للدولة في بعض الظروف إلى نقيضها كما حصل مع صعود الفاشيات في القرن الماضي. ولذلك تظل النظرية الاقتصادية الرائجة طوباوية وبعيدة عن حقيقة الرأسمالية الفعلية. فالسوق الخالص المحتفى بها في خطابها الدارج لا وجود لها، لأن الواقع يكشف أن لهذه الأخيرة كسوق وطنية طابعا مزدوجا، إذ هي "مندمجة في أبعادها الثلاثة(كسوق للعمل ولرأس المال والسلع)، بينما هي - بصفتها سوقا عالمية – مبتورة مقتصرة على بعدين اثنين فقط، ينقصها اندماج العمل على صعيد عالمي"(نقد، 31-32). وهذا الطابع المزدوج يصلح، في نظر سمير، لتفسير "ظهور النزعات القومية إلى جانب صراع الطبقات"، واندراج "الفوضوية اليمينية" في "خطاب القومية المتطرفة".

(يتبع)

هامش

*-سمير أمين، الفيروس الليبرالي، الحرب الدائمة وأمركة العالم، ترجمة سعد الطويل، الطبعة الأولى، 2004، بيروت، ANEP دارا الفارابي( في النص باختصار: الفيروس، ورقم الصفحة).
**- سمير أمين، نقد روح العصر، ترجمة فهمية شرف الدين، الطبعة الأولى، 2003، بيروت، ANEP دارا الفارابي، ص: 26 . ( في النص باختصار: نقد، ورقم الصفحة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط