الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللُّغْز

طارق قديس

2018 / 8 / 19
الادب والفن


المسؤول سيئ المِزاجِ. دَخَلْتُ إلى مكتبِهِ لأوقع أوراقاً فَوَبَّخَني وأمرني بالمغادرة على الفور. خرجتُ مُسْرِعاً. أغْلَقْتُ البابَ خلفي. وَقَفْتُ قليلاً أتساءَلُ عن السبب والدَهْشَةُ تأكُلُ وَجْهي. فَكَّرْتُ. قَرَّرْتُ أن أسألَ مُديرةَ مَكْتَبِهِ - بِمُصطَلَحٍ آخرَ "السكرتيرة" – لَعَلَّها تَحُلُّ اللُّغْز.

إنها ذريعَةٌ مُقْنِعَة للحَديثِ مَعَها لثوانٍ، والتأمُّلِ في تفاصيلِ جَسَدِها المُلْتَهِب. فهي جَميلةٌ جِدَّاً، شقراءُ، غَليظَةُ الشَفتَيْنِ، مُكْتَنِزَةُ الثَّدْيين. لها مُؤخِّرَةٌ ذائِعَةُ الصيتِ لا تُضاهيها مُؤَخِّرَةُ ابن خلدون ولا حتى مُقَدَّمَتُه ! ولَعَلَّ دِقَّة التفاصيل تلك ما جَعَلَتْها تنالُ حُظْوَةً لدى الرُؤساء، مادِّيَّةً ومَعْنَوِيَّة، وجَعَلتِ الكثيرينَ يَسْعونَ للقائِها بداعي العَمَلِ زوراً وبُهْتاناً.

استجمعتُ قُوايَ. تَوَجَّهْتُ إليها. لم أَجِدْها. أجَلْتُ البَصَرَ في المَكان. هناكَ امرأةٌ أخرى تَقِفُ في زاوِيةِ الغُرْفةِ يَلُفُ رَأْسَها حِجابٌ أبيضُ، تَرتَدي قَميصاً فَضْفاضاً أزْرَقَ اللون، وبِنْطالاً أَسْوَدَ. لم أَرَ وَجْهَها بِوُضوح. ظَهْرُها يُحَدَّثُني أني رَأيْتُ هذا الجَسَدَ من قَبْل. إنْتابَني الفُضولُ للحديثِ مَعَها، لَكِنَّ أمْراً ما قَفَزَ إلى ذِهْني. تَذَكَّرْتُ أنَّ هنالِكَ اجتماعاً بَعْدَ قليل. نَظَرْتُ إلى الساعَةِ في يَدي. ولمَّا تَيَقَّنْتُ من ضيقِ الوقت غادَرْتُ المَكانَ على عَجْل.

الكُلُّ في المبنى يَتَحَدَّثُ عن المسؤول. "المسؤولُ ليسَ على ما يُرام"، " المسؤولُ غاضِبٌ جِدَّاً"، "المسؤولُ أَلْغى جَدْوَلَ أعمالِه اليوم"، "المَسْؤولُ في حالةٍ هِسْتيرِيَّةٍ". وأخيراً "المسؤولُ غادَرَ المبنى إلى مَنِزِلِهِ وعَيْناهُ تَرْمِيانِ شَرَراً". هذا غَيْضٌ من عِباراتٍ تَرَدَّدَتْ على مَسْمَعي. الكُلُّ يَتَحَدَّثُ عما شاهَدْتُهُ لَكِنْ بِطَريقَتِهِ، لَكِنَّ أَحَدَهُمْ لم يَقْبِضْ على السَبَب.

الإشاعات تَضْرِبُ المكان لَكِنَّ الحقيقَةَ مَجْهولَة. هناكَ من يقول أن السَبَبَ هو حَريقٌ دَبَّ في مَنْزِلِهِ، وهُناك من سَمِعَ أنَّ قرارَ إقالَتِهِ قد صَدَر، وآخَرُ يرى أن السِرَّ يَكْمُنُ في الخلافاتِ العائلية، وآخرون أكَّدوا أنَّ أنباءَ هَبوطِ الليرة التركية في البورصَةِ وَراءَ ما حَدَث !

عُدْتُ إلى مَكْتَبي. ألْقَيْتُ بالأوراقِ في الدُرْجْ. رَكَنْتُ إلى الكُرْسِيِّ، ثُمَّ أخَذْتُ نَفَسَاً عَميقاً. لم تَمْضِ بَضْعُ دَقائِقَ حتى دَخَل أَحَدُ الزُمَلاءِ وهو يَضْحَك. بدا أن هناكَ كَلاماً في فَمِه. سَأَلْتُهُ عما يُضْحِكُهُ، فَأَفَصَحَ أنه ما من شيءٍ سوى خَبَرِ تَعَكُّرِ مِزاجِ المسؤول، فالخَبَرُ هذا حَديثُ الساعَة. أكَّدْتُ لَهُ ما قالَ، وأخْبَرْتُهُ بما يُقالْ، وَهُوَ ما جَعَلَهُ يَسْتَمِرُّ في الضَحِكِ حتى كادَ أنْ يَخْتَنِق.

سَألْتُ عما يُضْحِكُهُ، فسألني إنْ صَدَّقْتُ أيَّاً من الإشاعات التي سَمِعْتُ. عَبَّرْتُ له عن عَدَمِ تَيَقُّني مما قيل. عِنْدَها باغَتَني بسؤالٍ ظَنَنْتُهُ انتقالاً لموضوعٍ آخر، "هل رأيْتَ سِكِرتيرَتَهُ اليوم؟". سَكَتُّ لِلَحْظَةٍ ثم أخْبَرْتُهُ أني بَحَثْتُ عنها ولم أَجِدْها، وَوَجَدْتُ مَكانَها أُخرى.

لم أكَدْ أُنْهي كَلامي حتى اتَّسَعَتْ مساحَةُ الابتسامةِ على وَجْهِهِ فيما هو يُؤكِّدُ لي أنه ما من أخرى في المَكْتَب. إنها هي نَفْسُها، كُلُّ ما في الأمرِ أنها تَحَجَّبَتْ !

ارتسمتِ الدَهْشَةُ على وجْهي. أخذتُ أعيدُ ما سَمِعْتُ في نفسي. بدأت ملابساتُ اللُّغْزِ تَتَّضِحُ شيئاً فشيئاً. فالسِرُّ مَرَدُّهُ للسِكِرتيرَةِ. وَهُوَ - بِبساطَةٍ - لم يَحْتَمِلْ حِرْمانَهُ من مُشاهَدَةِ مفاتِنِها كما في كُلِّ صَباح، ولم يَعُدْ قادِراً على رَدِّ مارِدِ الشَهْوَةِ في جَسَدِهِ إلى قُمْقُمِه. إنَّهُ عُواءُ المُتْعَة الساكِنُ فيه، يئنُّ تَحتَ وَطْأةِ الصَدْمَةِ، يُعَبِّرُ عن استيائِهِ مما حَدَثْ، يَرْفُضُ ألا يَرى شَعْرَها الأشقَرَ بعدَ اليومَ، أو ذِراعَها أسْفَلَ الكُمِّ القصير، أو رُكْبَتَها بينَ ثنايا خُيوط الجينزِ المُمَزَّق.

قَلَّبْتُ الأمرَ في رَأسي. الحُجَّةُ مَنْطِقِيَّة. أخذتُ بالابتسام، ثم طَلْبُتُ من زميلي الانصرافَ حتى أُنْجِزَ ما تَبَقَّى من عمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج