الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من تجاربى مع الثقافة المصرية السائدة

طلعت رضوان

2018 / 8 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من تجاربى مع الثقافة المصرية السائدة (3)
طلعت رضوان
من بين تجاربى مع الثقافة المصرية السائدة، ما حدث معى بعد أنْ قراتُ كتاب (عمارة يعقوبيان) الكاتب علاء الأسوانى، فكتبتُ دراسة عنها (وأنا لا أكتب إلاّفى حالتيْن فقط: 1- إعجابى بالعمل 2- استفزازى من العمل) وكان نصيب (عمارة يعقوبيان) الحالة الثانية..وبصفة خاصة الهجوم على: 1- أبناء شعبنا النوبيين وتجريحهم 2- الهجوم على أبناء شعبنا المسيحيين وتجريحهم 3- الهجوم على أبناء شعبنا من الطبقات الشعبيية وتجريحهم.. وهذا بخلاف أنّ (عمارة يعقوبيان) لاينطبق عليها اسم (رواية) فهى أقرب للكتابة الصحفية منها إلى العمل الأدبى
كتبتُ دراستى وأنا أعلم بأننى أسبح ضد تيارالثقافة السائدة ، حيث تبارى (كبار) النقاد وكبارالصحفيين فى كتابة (قصائد الغزل) فى (الرواية) التى ليست رواية..وانضم إليهم كبارالإعلاميين فى برامج (زغزغة مشاعرالمشاهدين)
فكان من الطبيعى (الذى لم ألتفت إليه وإنْ كنتُ أتوقعه) أنْ يرفض معظم رؤساء تحريرالمجلات الأدبية..ورساء تحريرالصحف الأدبية (مثل أخبارالأدب) نشردراستى) وبعد أنْ رفعتُ راية الاستسلام..ووضعتُ دراستى بجوارشقيقاتها فى (تابوت المحفوظات) تقابلتُ (فى ندوة ثقافية) مع الشاعرالراحل (حلمى سالم) فإذا به يـُـعاتبنى لأننى لا أشارك فى الكتابة فى (مجلة أدب ونقد) التى رأس تحريرها بعد الأستاذة فريدة النقاش..وهى المجلة التى يـُـصدرها (حزب التجمع اليسارى) فعرضتُ على الشاعرحلمى سالم (فكرة) دراستى عن (عمارة يعقوبيان) فرّحب بالدراسة ونشرها فى أول عدد بعد استلامه لها..وقد أشارإليها الناقد السينمائى الراحل الجليل سميرفريد ، فى دراسة له عن الأفلام السينمائية وعلاقتها بالأدب.
ومن بين الذكريات المريرة أنّ الأستاذ جمال الشاعر(المذيع بقناة ثقافية مصرية) أرسل لى دعوة لمناقشة (عمارة يعقوبيان) وعندما ذهبتُ (وقبل الدخول إلى الاستديوللتسجيل) سألنى الأستاذ علاء الأسوانى (وكان لايعرفنى) وقال لى: هوّ حضرتك ح تتكلم عن إيه؟ فقلت له عن (عمارة يعقوبيان) فتورّدتْ خدوده واتسعتْ ابتسامته وهويسألنى: ورأيك إيه (ورغم أننى كنتُ أعرفه من صوره فى الصحف والمجلات والفضائيات) بالرغم ذلك غلبتنى سذاجتى وعفويتى الفطرية فقلت له: لدى الكثيرمن الحفظات..وقبل أنْ أكمل كلامى إذا به يلتقط علبة سجائره وموبايله ومفاتيح سيارته وينطلق مسرعـًـا فى اتجاه باب الخروج..فلمحه العاملون مع جمال الشاعرفانطلقوا خلفه..ولكنه رفض العودة..ولما دخلتُ الاستديوطلب منى جمال الشاعرأنْ أحكى له ما حدث فقلت له: اتصل به واسأله..وعندما حكيت تلك الحكاية لأصدقائى المُـقرّبين عاتبونى لأننى لم أذكرما حدث لجمال الشاعر(وكلــّـما تذكــّرتُ تلك الواقعة أسأل نفسى: هل أخطأتُ أم كان تصرفى هوالصواب؟ وإلى متى تتحكم فىّ سذاجتى الفطرية) وحتى لايتشكك أحد فيما سردته، فإننى أستشهد بالكاتبة ومعدة البرامج (سعاد سليمان) التى اتصلتْ بى وحـدّدتْ موعد التسجيل.
كان المشهد التالى لتلك الواقعة أنّ الأسوانى كتب فى بعض الصحف والمجلات أنّ: جمال الشاعرأعـدّ له (فخـًـا) للهجوم عليه وتشويه روايته بالاتفاق مع واحد اسمه طلعت رضوان. الأستاذ الأسوانى لم يحتمل كلمة (نقد) لكتابه المُـعنون (عمارة يعقوبيان) بل أنه لم ينتظرليسمع ما سأقوله..وكنتُ أبتسم عندما أقرأ مقالاته فى صحف عديدة ويختتم مقاله بجملة متكررة فى كل مقال (الديمقراطية هى الحل)
من بين محاور(عمارة يعقوبيان) الهجوم على الشعب النوبى وتجريحه..ولم يكن الأستاذ الفاضل الأسوانى هوالوحيد الذى فعل ذلك، فقد تداولتْ وسائل الإعلام المُـختلفة تصريحات المُـطربة المصرية (شيرين عبد الوهاب) التى وصفتْ كلبها بأنه ((كلب نوبى)) وتزامن هذا التصريح مع تصريح آخرللمُـطربة اللبنانية (هيفاء وهبى) التى وصفتْ قردها بأنه ((قرد نوبى)) فهل هى مُـصادفة أنْ يتزامن التصريحان فى وقت واحد؟ وإذا ربطنا تلك التصريحات المُـعادية لأبسط قواعد السلوك الحضارى، بما حدث خلال السنوات الماضية من عداء سافرضد أبناء شعبنا النوبيين، وإتهامهم (بالباطل) أنهم يدعون إلى الانفصال عن مصر، فإنّ العقل الحر لابد أنْ يتوقف أمام مُـخطط مُمنهج لتشويه صورة النوبيين، خاصة وأنّ الكاتب الذى نال شهرة كبيرة (علاء الأسوانى) ساهم فى هذا التشويه عندما كتب فى كتابه الذى أخذ اسم (رواية عمارة يعقوبيان) أنّ من عوّد الصحفى المريض بداء الحب المثلى (الشهيرفى الترجمة العربية بالشذوذ الجنسى) الخادم (النوبى) والسؤال المسكوت عنه فى الثقافة المصرية السائدة، لماذا لجأ علاء الأسوانى إلى تحديد الهوية الوطنية لشخصية إدريس (النوبى) دون أى مبرردرامى، فتعمّد أنْ يكون أول شخص تسبب فى تعلق حاتم بالانحراف الجنسى نوبى الهوية. فلماذا هذا التعمد فى الاختيار؟ وماهى وظيفته الدرامية؟ وما دلالة ذلك على المستوييْن الواقعى والفنى؟ وعند البحث عن إجابة لهذه الأسئلة، نجد أنّ كل الصفحات التى تناولتْ حياة حاتم تخلو تمامًا من أى توظيف درامى لاختيار شخصية إدريس النوبى ليكون هو البداية لانحراف حاتم الجنسى، وبالتالى فإنّ السؤال المشروع هو: لماذا لم يكتف الكاتب بإطلاق اسم الشخصية دون تحديد هويته الوطنية؟ لماذا لم يُـفكرفى رد فعل النوبيين وهم يقرأون هذا الاتهام، أليس هذا الاتهام إهانة لهم وتجريحًا لمشاعرهم؟ ولماذا لم يُفكرفى أثرذلك على القارىء العادى، فيُصدّق أنّ النوبيين ( المعروف عنهم التزمت الدينى والأخلاقى ) بهم هذه العادة المرذولة دينيًا وأخلاقيًا. ونبذها شعبنا وفق التراث الحضارى المصرى، اللصيق بالثقافة القومية النوبية.
وإذا كان بعض الأشخاص لديهم تلك العادة الشهيرة لدى العرب ب (اللواط) فوجودها فى مصر(كافتراض) إستثناء عن القاعدة، والاستثناء– كما يقول القانونيون- لايجوزالقياس عليه أو التوسع فيه. وكذلك عندما اختار الأسوانى شخصيات مسيحية دون أى توظيف درامى . ويكون السؤال أكثر مشروعية عندما تكون هذه الشخصيات شديدة الوضاعة كما أراد لها الكاتب أنْ تكون . مثل شخصية أبسخرون الديوث الذليل . وشخصية ملاك الانتهازى المتآمر. وشخصية مدام سناء فانوس التى أقامتْ علاقة جسدية مع زكى. وكل ذلك دون أى توظيف درامى.
وإذا تجاوزنا المُـطربتين اللتيْن لاعلاقة لهما بالفن أوالأدب أوالثقافة، وتوقفنا عند علاء الأسوانى بصفته أحد المحسوبين على الثقافة المصرية، نكون قد عرفنا السبب وراء تشوية الشخصية النوبية، حيث أنّ المُـتعلمين المصريين المحسوبين على الثقافة السائدة (وعلاء الأسوانى من بينهم) يرفضون مبدأ الخصوصية الثقافية، وانصبّ عداؤهم للنوبيين بسبب وجود تيارثقافى نوبى يدعوللدفاع عن مُجمل التراث النوبى، وعلى رأس ذلك التراث الدفاع عن اللغة النوبية، والعمل على إحيائها حتى يعرف الجيل الجديد من النوبيين تراثهم ولغتهم. بينما الثقافة السائدة ترى أنّ هذا التوجه ضد (العروبة) وضد اللغة العربية، ليس ذلك فقط وإنما هذا التوجه (من وجهة نظرالعروبيين) الهدف منه ((انفصال النوبة عن مصر)) هنا تبلغ ذروة التشويه الذى طال الأديب النوبى حجاج أدول الذى اتهمه العروبيون بأنه يدعو لانفصال النوبة عن مصر، دون دليل واحد يؤكد مزاعمهم.
إنّ كتاب (عمارة يعقوبيان) الذى رفض الأسوانى الاستماع لصوت مخلف عن أصوات مُـجامليه) مجموعة من القصص القصيرة ولسنا إزاء رواية. ذلك أنه لا توجد أية علاقة تجمع بين الشخصيات الخمس الرئيسية. فقصة زكى ليس لها أدنى علاقة بقصة حاتم أو طه أوعزام. وهوما ينطبق على باقى الشخصيات (باستثناء بثينه التى جمعتها علاقة بطه ثم زكى) وبخلاف هذا الاستثناء تبدوكل شخصية مستقلة تمامًا عن باقى الشخصيات، وبالتالى انعزال الأحداث بعضها عن بعض. وقد ترتّب عن ذلك انعدام وحدة الصراع بين هذه الشخصيات والأحداث التى وردتْ بصيغ تقريرية مثل تحقيقات الصحف التى يعرفها كل المصريين. وبانتفاء وحدة الصراع التى تجمع وتلضم الشخصيات والأحداث فى نسيج واحد ومتفاعل، تختفى أهم خاصية من خصائص الإبداع الروائى .
وقد لجأ الكاتب إلى إطلاق الأحكام القيمية. وهى أحكام إنْ جازت فى الكتابات الإنشائية الوعظية، فإنها تهدم أى عمل إبداعى، كما أنها (= الأحكام القيمية التى دسّها الكاتب على شخصياته ) تتناقض مع الشخصية المصرية، فضلا عن أنها مكتوبة كزوائد ليس لها أى وظيفة درامية. مثل النص على أنّ الرجل من عامة الشعب ((لايتحرج فى مجلس الرجال من ذكرأدق تفاصيل علاقته الخاصة مع زوجته. حتى يكاد الرجال فوق السطح يعرفون كل شىء عن علاقات بعضهم البعض الجنسية. أما النساء فهنّ جميعًا يـُـحببن الجنس جدًا ويتهامسن عن تفاصيل الفراش)) (ص25) وبما أنّ طفولتى ونشأتى كانت فى بيئة شعبية. وأنّ علاقتى بهؤلاء (الشعبيين) لم تنقطع، فإننى أجزم أنّ ما ذكره الكاتب إتهام باطل. ولوأنه ذكرأنّ شعبنا المصرى (شعبيين وغيرشعبيين) يعشقون تأليف وتبادل النكت (جمع نكتة وهى صحيحة لغويًا) لأصاب الحقيقة. وبمراعاة أنها نكت تتسم بالعموميات ولاتخوض فى الخصوصيات.
وكذلك موقف بعض سكان العمارة من شخصية طه: فهم منزعجون من تفوّقه فى التعليم ويُكلّفونه بأعمال شاقة تستغرق وقتًا طويلا ويُـغدقون عليه بالبقشيش لإغرائه وفى نفوسهم رغبة دفينة خبيثة لتعطيله عن المذاكرة. هذا غيرالسخرية من ابن البواب الذى يود الالتحاق بكلية الشرطة، بل إنّ أحد السكان بعد أنْ سخرمن تعليم أبناء البوابين والمكوجيه، استشهد بحديث الرسول ((لاتُعلّموا أولاد السفلة )) (ص28 ،29) وأرى أنّ الكاتب رضخ واستجاب لتصوراته الخاصة التى تتعارض مع الشخصية المصرية. وإذا كانت نشأتى كانت فى بيئة شعبية، فإنّ حياتى العملية عرّفتنى بأشخاص من كل الطبقات، فلم ألحظ أبدًا ظاهرة السخرية من أبناء الفقراء النابغين. وإنما شاهدتُ العكــس، حيث عاصرتُ مواقف لأشخاص أثرياء ويشغلون مناصب رفيعة، كانوا سعداء بأولاد الفقراء المتفوقين فى التعليم. وكانوا يُترجمون سعادتهم بالتشجيع الأدبى والمادى .
ولجأ الكاتب إلى التعميمات التى ينفرمنها الإبداع، مثل النص على أنّ البارات الصغيرة يرتادها ((زبائن من الرعاع والمشبوهين)) (ص51) أوالنص على أنّ غالبية أصحاب العمل فى القطاع الخاص يتحرّشون بالعاملات لديهم جنسيًا. فالكاتب يسرد عن بثينه أنها تنقلتْ خلال عام واحد بين أعمال عديدة. وتركتها لنفس السبب الذى يحدث دائما: عندما يصرصاحب العمل على أنْ يُـقـبّـلها عنوة فى المكتب الخالى أويلتصق بها أويشرع فى فتح سرواله ليضعها أمام الأمر الواقع.. إلخ (ص61) وكنتُ أسمع فى طفولتى وحتى الآن، أنّ أماكن العمل لها قداسة، لأنها مصدرالرزق. وإذا كان يوجد فى الواقع صاحب عمل يُضحى بسُمعة متجره فى سبيل غرائزه الجنسية، فهو استثناء شاذ. والاستثناء لا يجوزالقياس عليه أوالتوسع فيه. ومن التعميمات كذلك النص على أنّ الشواذ جنسيًا يبرعون ((عادة فى المهن التى تعتمد على الإتصال بالناس مثل العلاقات العامة والتمثيل والسمسرة والمحاماه)) (ص 181) والكاتب هنا تغاضى عن، أو تجاهل حقيقة ثابتة وهى أنّ المهن التى لها علاقة بالناس تشغل معظم مناحى الحياة. مثل الأطباء والصيادلة والمهندسين والتجار والحرفيين وأصحاب المحلات التجارية والإعلاميين إلخ، وبالتالى فما قيمة النص على مهن بعينها؟ أليس من الأفضل تجنب التعميم، خاصة إذا كانت الصياغة تقريرية، وليس لها أية وظيفة درامية. وذكرالكاتب أنّ الساعة العاشرة مساء كل يوم هى ((ساعة تغييروردية الحراسة لجنود الشرطة التى يعرفها كل الشواذ فى وسط البلد ويسعون خلالها إلى التقاط عشاقهم من بين الجنود (ص 9، 10) فهل هذه حقيقة مؤكدة استمدّها الكاتب من دراسة ميدانية؟ وبالتالى تحتمل هذا التوكيد والتعميم، أم هى من وحى خيال الكاتب؟ وإلى أى مدى يجوزللإبداع أنْ يستخدم منهج علم الاجتماع فى إحصاء الظواهرالاجتماعية؟ وما دليل الكاتب عن معرفة الشواذ (= مرضى الحب المثلى) بأسلوب وتوقيت التقاتهم بجنود الشرطة؟
إنّ القصص الخمس تفتقد للجدل الدرامى بوصفه التجسيد الفنى للجدل الواقعى فى الحياة. وعلى سبيل المثال فإنّ الصفحات التى تناولت شخصية طه، نجد الكاتب يُقدم وجهة نظر الأصوليين حول تكفيرالحاكم والمحكومين وأنّ ((المجتمع فى مصرمجتمع جاهلية لامجتمع إسلام. لأنّ الحاكم يُعطل شرع الله وحرمات الله تُنتهك على الملأ..الخ)) (ص129 ،130) أو ترديد مقولاتهم الثابتة ((لانريد أمتنا اشتراكية ولاديمقراطية. نريدها إسلامية. سوف نجاهد حتى تعود مصرإسلامية )) (134 ، 135) وبعد أنْ تعرّف طه على الشيخ شاكرالقيادى الأصولى بدأ ((يُدرّب نفسه على أنْ يُحب الناس ويكرههم فى الله. تعلّم من الشيخ أنّ البشرأحقروأهون من أنْ نُحبهم ونكرههم من أجل صفاتهم الدنيوية. بل يجب أنْ تتحدد مشاعرنا ناحيتهم وفقًا لالتزامهم بشرع الله)) (161) وبعد أنْ كان يحب بعض السكان صار((يكرههم فى الله. لأنهم تاركون للصلاة وبعضهم شارب خمر)) (162) ويُكررالكاتب ذات الأفكارعلى لسان رضوى التى تزوّجها طه بمعرفة التنظيم الأصولى الذى إنضم إليه. فتحكى لطه أنه بعد وفاة زوجها الأول (وهوأصولى أيضًا) سعى أهلها لتزويجها. ولكنها رفضت العريس الجديد. لماذا؟ قالت رضوى ((هومهندس ثرى. لكنه تارك صلاة وحاول إقناعى بأنه سيلتزم بعد الزواج. لكننى رفضت. شرحتُ لهم أنّ تارك الصلاة كافرشرعًا ولايجوز أنْ يتزوج مسلمة)) وهى لاتكتفى بذلك وإنما تصب غضبها على أبويها وعلى أهلها لأنهم غيرملتزمين ((هم ناس طيبون لكنهم للأسف لازالوا على الجاهلية)) (ص308) كما ينقل الكاتب وجهة نظرالأصوليين حول الصراعات الدولية والاقليمية. فكتب على لسان الشيخ شاكرالذى كان يخاطب طه بأسلوب تحريضى ((أطفال المسلمين يُذبحون بهذه الطريقة البشعة. تأمّل وجه هذه الطفلة العراقية التى مزّقتها القنابل الأمريكية. أليست هذه الطفلة مسئولة منك مثل أختك وأمك؟ ماذا أنت فاعل لنصرتها)) (ص169) وهوتكرارلخطاب الأصوليين فى دفاعهم الفج عن المسلمين فى أفغانستان والبوسنة والشيشان إلخ. فى الوقت الذى كانوا فيه يقتلون المصريين (مسلمين ومسيحيين) بزعم جاهلية المجتمع العصرى.
وإذا كان هذا هوموقف الأصوليين، فهل دورالإبداع هوالاكتفاء بنقل أفكارهم وتصوراتهم عن العالم؟ مع التغاضى التام عن تقديم الوجه الآخرلجدل الحياة، الذى يتجسّد فى أى عمل أدبى فى أشكال من الجدل الدرامى. وعلى سبيل المثال يقول الشيخ شاكرلطه (( أنت وجميع أبناء جيلك لم تتلقوا التربية الإسلامية. لأنكم نشأتم فى دولة علمانية وتلقيتم تعليمًا علمانيًا. فتعوّدتم التفكيربطريقة تستبعد الدين. ولقد عدتم إلى الإسلام بقلوبكم. بينما سوف تستغرق عقولكم وقتًا حتى تتخلص من العلمانية. وتصفوا للإسلام)) (ص167) هذا الخطاب الإنشائى إذا جازفى كراسات الإسلاميين، فإنه فى العمل الأدبى لابد أنْ يقابله الوجه الآخرالرافض لهذا التزوير. أى أنّ الكاتب يكون موفقــًـا إذا راعى الجدل الفنى مع هذه المقولات الكاذبة، فيـُـقـدّم الوجه الآخر الذى يؤكد على أنّ المجتمع المصرى أمامه عقبات كثيرة حتى تتحقق (علمنة مؤسسات الدولة) ومن هذه العقبات أنّ الدستورالمصرى الصادرعام 1971 نصّ على أنّ الشريعة الإسلامية مصدرأساسى للتشريع. ولكن الأصوليين لم يقتنعوا بذلك فجاء التعديل الصادرفى ابريل80 لينص على أنّ مبادىء الشريعة الإسلامية المصدرالرئيسى للتشريع. كما أنّ جامع الأزهر تحول إلى جامعة بالقانون رقم 103 لسنة1961 الأمرالذى ترتب عليه ظاهرة الطبيب المسلم والمهندس المسلم والمحامى المسلم إلخ وتبعًا لذلك تحولّت النقابات المهنية إلى بؤرصديدية منتشرة فى المجتمع المصرى. وفى الوقت الذى كان فيه الأصوليون فى نقابة الأطباء يصرخون ويولولون من أجل الشعب الأفغانى، كانت النقابة تتجاهل جرائم المستشفيات الاستثمارية والحكومية فى حق شعبنا المصرى. وتتجاهل قتل شعبنا على أيدى الأصوليين. ووصل الأمر إلى درجة أنْ وقفتْ عميدة المعهد الفنى الصحى فى أحد الاجتماعات وصاحت صارخة إنّ الإسلاميين ((منعونى من الاشتراك فى رحلة النقابة داخل مصر. وطالبونى بأنْ يصحبنى محرم)) (صحيفة القاهرة 13/9/ 2002) وبخلاف عشرات الأمثلة التى تؤكد أنّ آليات إدارة المجتمع المصرى هى آليات الدولة الدينية وهذا هوالوجه الغائب فى عمارة يعقوبيان عن جدل الدراما .
والكاتب لم يكتف بإبرازتوجهات الأصوليين وعرض أفكارهم. وإنما سطــّـرالصفحات المطولة عن اعتقال الدولة لهم وتعذيبهم. بل وتعمُد قتلهم. قالت رضوى عن زوجها السابق ((كتبوا فى الصحف أنه أطلق النارعلى الضباط فاضطروا إلى قتله. ويعلم الله أنه تلك الليلة لم يُطلق طلقة واحدة من سلاحه. طرقوا عليه الباب. وبمجرد أنْ فتح أطلقوا عدة دفعات من الآلى. فأستشهد وثلاثة أخوة معه. قتلوهم متعمدين وكان بوسعهم لوأرادوا أنْ يعتقلوهم أحياء)) (307) وفى الصفحات من 199– 202 ومن 235– 239 ، 268 ، 289 وصف تفصيلى لمعاناة الأصوليين مع مباحث أمن الدولة. سواء فى أساليب القبض عليهم أوأثناء تعذيبهم. ودَأَبَ الكاتب على تكرارما حدث لطه أثناء التعذيب. وكيف أنهم أجبروه على اختياراسم امرأة. وكيف كان يبكى وهويستعطف الجنود حتى يكفوا عن إدخال العصا فى جسده. قال طه لشيخه ((لقد هتكوا عرضى يا مولانا. عشرمرات يا مولانا)) وتكون النتيجة المؤكدة بعد كل هذا الوصف التفصيلى هوتعاطف القارىء مع الأصوليين. وهوتعاطف– وإنْ كان له شرعية إنسانية– إلاّ أنه يأتى مفتعلا ومتعمدًا، لأنه أتى منفصلا عن مجمل أحداث وشخصيات العمل من ناحية، وأتى منعزلا عن جرائم الجماعات الإسلامية ضد كل مختلف معهم. وهذا التجاهل لجرائمهم (اغتيال فرج فوده ومحاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ إلخ) هوما أسميه انتفاء الجدل الدرامى الذى هو التجسيد الفنى لجدل الحياة على أرض الواقع.
إنّ هذا الجدل لم يكن خافيًا على الكاتب، لأنه استخدمه بشكل فنى فى بعض المواقف القليلة. مثل موقف بثينه عندما أحضرلها طه كتابًا عن الحجاب ثم أخذها إلى الجامع لتسمع خطبة الشيخ شاكر. ولكنها لم تتأثربالخطبة وقالت إنها مملة (162) وكذلك المشهد الذى جمع بين كمال الفولى والحاج عزام، نجد كمال رمزالفساد يُهنىء عزام تاجرالمخدرات على حملته فى مجلس الشعب ضد الإعلانات الخليعة فى التليفزيون. وفى نهاية المشهد فإنّ كمال يُخبرعزام بأنّ نصيب الرجل الكبيرمن أرباح توكيل السيارات هورُبع ال 300 مليون جنيه. وكذلك المشهد الذى جمع كل من عزام وزوجته الأخيرة والشيخ السمان. كان عزام قد اشترط على زوجته عدم الإنجاب. ولكنها حملت وأصرّتْ على الاحتفاظ بالجنين. فلجأ عزام إلى الشيخ السمان كى يقنعها بشرعية التخلص من الجنين خلال أول شهريْن وقال لها أنّ ذلك لايعتبراجهاضًا لأنّ الروح تنبعث فى الجنين فى بداية الشهرالثالث. وأنّ هذه فتوى موثقة لكبارعلماء الدين. ثم طلب منها طاعة زوجها وذكّرها بحديث الرسول: ((لوأنّ لمخلوق أنْ يسجد لمخلوق مثله لأمرتُ الزوجة أنْ تسجد لزوجها)) ولكن الزوجة التى كانت مجرد عاملة بسيطة ردّت عليه ((يعنى أسقط نفسى ويبقى حلال؟ مين يقول كدا؟ لايمكن أصدقك لوحلفت لى على المصحف)) وبعد احتدام المناقشة بينها وبين الشيخ الذى قال لها ((احترمى نفسك يا بنتى واياكى تتجاوزى حدودك)) فإنها ترد عليه ((أتجاوزإيه وأتنيل إيه؟ يا شيخ يا مسخرة. دفع لك كام عشان تيجى معاه؟)) وهكذا– وبشكل فنى– وضع الكاتب الوجه والوجه الآخر. خاصة وأنّ الكاتب ذكرفى بداية المشهد أنّ الشيخ السمان سوف يسافرإلى السعودية للاشتراك مع الأخوة العلماء هناك فى اصداربيان شرعى وبالأدلة على جوازالاستعانة بالجيوش المسيحية الغربية لانقاذ المسلمين من الكافر المجرم صدام حسين (من 242 – 246 )
فى الأمثلة السابقة كان الكاتب موفقــًـا عندما خلق الصراع الفنى من التناقضات. ويكمن سر النجاح عندما ينبذ الكاتب (أى كاتب) الأحادية وينحازللتعددية بكل تجلياتها. ولكن الأسوانى– باستثناء الأمثلة المذكورة– كان يتبنى الأحادية. فأفقد عمله أهم مميزات الإبداع : أى الصدق الفنى.
ومن عيوب (عمارة يعقوبيان) الاستطراد فى سرد تفاصيل يمكن الاستغناء عنها ولاتؤثر على السياق ويكفى معها الايجاز. مثل الوصف التفصيلى لمحاولة ملاك الحصول على غرفة فوق السطح (من ص 42– 47) أووصف حياة الشواذ والأماكن التى يلتقون فيها واسم الشاذ السلبى والاسم الايجابى (من ص 51– 54) كما أنها عبارة عن معلومات لاتفيد القارىء إلاّ إذا كان يعد بحثًا عن الحب المثلى. وكذلك تفاصيل زواج عزام من سعاد ( من ص72 – 78 ) أو تفاصيل تجنيد طه فى تنظيم سرى وتفاصيل فترة التدريب على أعمال العنف. وتفاصيل خطة اغتيال ضباط المباحث إلخ إلخ.
كما يغلب على الشخصيات التشوه والانحلال. إما الاغراق فى الجنس والخمرأوالفساد الأخلاقى. وحتى الشخصيات الثانوية لم تنج من هذا المصير. قال الكاتب إنّ بثينه ((لم تعد تبالى حتى بما يردده سكان السطح حول سُمعتها. كانت تعرف من مخازيهم ما يجعل تظاهرهم بالفضيلة أمرًا مضحكًا. إذا كانت هى أقامت علاقة مع طلال لاحتياجها للنقود. فإنها تعرف نسوة فى السطح يخنّ أزواجهنّ لمجرد تحقيق المتعة)) (225) وبثينه تُجرى اختبارات شريرة ومسلية إذا قابلت شيخــًـا مسنــًـا محترمًا يحلولها أنْ تختبره فترقق صوتها وتتأود وتبرزصدرها المكتنز. وكان تلهف الرجال عليها يملؤها بلذة أقرب إلى التشفى والشماتة)) أما أمها فهى لا ترى بأسًا من تحرش أصحاب العمل بابنتها وكانت حجتها ((اخواتك فى حاجه إلى كل قرش من عملك. والبنت الشاطره تحافظ على نفسها وشغلها (62) أما أبسخرون (المسيحى) فإنّ الكاتب يصفه بأنه ((لايرى ولايسمع ما يحدث أمامه ولوكان جريمة قتل)) (38) وفى أول لقاء له مع سيده الجديد (زكى) فإنه يقف مطرقــًـا منكمشًا كالفأر)) (37) وعندما يبرزأبسخرون من أحد أركان الشقة فكأنه ((كائن ينشط فى مجاله الطبيعى كالسمك فى الماء أوالحشرات فى البلوعة)) (39) فلماذا لم يُـفكرالكاتب فى أثرذلك على المسيحييــن، وعلى مجمل شعبنا، ونحن نعيش تحت سياط الاحتقان الدينى منذ عدة سنوات؟ ورباب– شخصية ثانوية- تعمل مضيفة فى بار ولاتمانع فى بيع جسدها لمن يدفع، فتذهب إلى شقة زكى. والكاتب لايكتفى بذلك وإنما يصر على أنْ يقدمها كلصة أيضًا (89) والكاتب يسمح لزكى أنْ يصف رباب هكذا ((إنها تمثل الجمال الشعبى بكل سوقيته واثارته وكأنها قد خرجت لتوها من احدى لوحات محمود سعيد)) (ص18) حتى الفنان العظيم محمود سعيد لم يسلم من التشويه. وقد قرأتُ لنقاد ثقاة ما كتبوه عن محمود سعيد. ولم يذكرأحد أنه سعى للابتذال والاثارة. وأكتفى بما ذكره الفنان والناقد الكبير عزالدين نجيب حيث كتب أنّ فن محمود سعيد تشيع فيه ((الروح المصرية الصميمة التى استقى منها عناصره التى تُذكرنا بها فنون النحت والتصويروالعمارة المصرية القديمة)) وأما عن المرأة التى صوّرها محمود سعيد فى أشكال متنوعة ضمن معزوفته عن الجسد الإنسانى. كتب عزالدين نجيب أنه برغم ما فى عاريات محمود سعيد من ((زخم الجنس وعبق الأنوثة وفيض الخصب. إلاّ أنها تتعدى ذلك كله إلى رحابة الحياة نفسها. إلى الرغبة فى اكتناه المجهول والامساك بسرالكون)) (فجرالتصويرالمصرى الحديث– دارالمستقبل العربى– عام 1985ص 59 ، 60)
وإذا كان زكى الذى ابتذل وشوّه فن محمود سعيد لايفقه حرفــًـا عن أبجديات الفن التشكيلى، فإنّ الكاتب (أى كاتب) لابد أن يتوفرلديه الحد الأدنى عن هذه الأبجديات.
حتى دولت (شخصية ثانوية) سليلة الأرستقراطية التى رسّخت قيم السلوك النبيل، قدّمها الكاتب فى صورة بشعة. تسعى إلى تدميرشقيقها زكى، فهى لاتتورع عن سبه ب ((يا وسخ يا ابن الكلب)) (113) ويتحجّرقلبها فتطرده من الشقة. ونوازع الشرلديها بلا حدود. فترفع ضده دعوى حجروحتى تنجح فى ذلك، وكى تُثبت سفهه فإنها تتصل بشرطة الآداب. وبالفعل يتم ضبطه مع بثينه عارييْن فى الفراش. والكاتب يغالى فى تضخيم الشرفى نفس دولت، فإذا افترضنا أنّ الجشع المادى هومحرّكها من أجل الحصول على ميراث شقيقها، فلماذا يضعها الكاتب فى ذلك الموقف المشين وهى تشارك ضباط شرطة الآداب فى الضحك بغرض ((المجاملة والتشجيع والشماتة)) (301) أما حاتم فهوساخط على أبيه لأنه انشغل عنه واهتم بعمله القانونى. أما أمه الفرنسية فإنّ أباه قد التقطها من بارصغيرفى الحى اللاتينى كانت تعمل فيه ساقية. وفى مونولوج طويل قال حاتم مخاطبًا أمه فى قبرها (( أظنك قد خنتِ أبى أكثرمن مرة. بل أنا واثق من ذلك. أنت فى الواقع ساقطة. يكفى المرء أنْ يفتح كفه فى بارات باريس ليلتقط عشرة من أمثالك )) (257)
من بين كل تلك الشخصيات الموبوءة بجرثومة الشر، كأنه قدرلافكاك منه. والتى تحركها الغرائز المدمرة، من الشبق الجنسى وعبادة المال وعقلية التآمرواختفاء قيم الإحساس بالجمال الإنسانى، من بين كل ذلك الخواء الروحى، تنبثق (فجأة) شخصية بثينه. إذْ نراها وقد تغيّرت وأنّ علاقتها بزكى تطوّرتْ من علاقة جسدية إلى شعوربالدفء الإنسانى وتنتهى قصتهما بالزواج، ولكن على طريقة أفلام الميليودراما.
ولكن باستثناء بثينه، التى جاء تحولها فجائيًا. فحرم القارىء من متعة معايشتها وهى تعانى مخاض التحول. باستثناء بثينه وزكى الذى جاء زواجه منها غيرمبررفنيًا. فإنّ الشرالمتجسد فى أبشع صورالانحطاط الأخلاقى، هوما يظل عالقــًـا فى ذهن القارىء.
فإذا كانت كل هذه الشخصيات موبوءة بالشروالفساد. وليس لديها أدنى اهتمام بتغييرالواقع إلى الأفضل. وإذا كان طه الشاذلى وزملاؤه الأصوليون هم الذين يحملون رسالة التغيير. ويعارضون الحكم ويتباكون على أطفال المسلمين فى كل مكان على سطح كوكب الأرض. أما أطفال شعبنا المصرى فهم كفرة ولاتجوزعليهم الرحمة. والأصوليون يهاجمون شيوخ السلطة ويقدمون الشهداء وفقــًـا للصورة التى رسمها الكاتب لهم. وبصفة خاصة تلك اللغة الشاعرية المأساوية فى وصف اللحظات الأخيرة من حياة طه بعد أنْ أصابته رصاصات الجنود حيث ((تناهتْ إلى سمعه أصوات بعيدة مفعمة: أجراس وترانيم وهمهمات منشدة تتردد وتقترب منه وكأنها تستقبله فى عالم جديد)) (343) فهل رسالة الكاتب هى أنّ (الأصولية الإسلامية هى الحل؟) وأنّ الأصوليين هم المرشحون لتغييروجه المجتمع المصرى؟ سؤال مشروع تطرحه قراءتى لهذا العمل. وإذا أقسم الكاتب أنه لم يقصد شيئًا مما ذكـرتُ، فإنّ القاعدة التى لاخلاف حولها هى أنّ العبرة بما هومدون فى الكتاب. وليست العبرة بالنيات.
000
كتاب الأسوانى (عمارة يعقوبيان) الذى رفضتْ المجلات والصحف الأدبية نشردراستى عنه (حتى بعد أنْ طلب منى الأستاذ صلاح عيسى اختصارالدراسة لنشرها فى صحيفة القاهرة وبعد عملية الاختصارفإنه لم يف بوعده) كان كتاب الأسوانى محطة من محطات تجاربى مع الثقافة المصرية السائدة.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاب كويتي «مبتور القدمين» يوثق رحلته للصلاة في المسجد


.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ




.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب