الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة المشتاق

جميل حسين عبدالله

2018 / 8 / 21
الادب والفن


رسالة المشتاق
أتذكر يوم اللقاء الأول، والأخير، حين جلسنا تحت الشجرة الفارهة، نرقب مغيب قرص الشمس بين الأمداء النائية، وخيوطها الحمراء تنسل بخلسة وراء البحر الهادر ببلايين الأفكار الغامضة، وتحتجب خلف زرقة المياه الممتدة إلى آخر عرش نتخيله في عالم المرئيات الباهرة. وهبات النسيم العليل تتراقص على جدائلك المحبكة بدقة، ورجات الفؤاد المدنف تتهاوى في بؤبؤ عينيك الواجفتين برقة، وهزات الجسد الجريح تتوارى خلف أنظارك الساهمة، وكأنك تقولين بصمت: قد ذاب الحلم يا هذا، فلا تعشق المستحيل.!
احتميت بمعطفي حين أحسست بأولى قطرات الرذاذ على جسدي الذابل الملامح، ترسم همساتُها خيال قبلك على خدي المتورد خجلا، والمتورم ألما، رفعت رأسي نحو السماء الباسمة، رأيت النجوم تلمع بخفة، وكأنها تترنح بما ينزف في قاعك من أغاني الوداع، وحكايات الأزمنة الغابرة بين الصدود، والوصال. بكيت في أغواري، وولولت، وأعولت، والصوت يعاند جملي، والصدى يردد آهاتي، ويرجِّع أناتي، وأنا ثمل بأحزاني التي تترى، وأوجاعي التي تتوالى، وكأنها نذير شؤم، يبشر بقرب نهاية الأحلام الوديعة. فهل شممت من هذا الزفير رائحة الجسد المحترق بعذاب السنين، وخراب الإنسان.؟
الزقاق ممر المحبين، والحي منتجع المعذبين، والمدينة مكتظة بالبائسين. سكون، وصخب، وآلام تحكيها الألوان، وتحاكيها الجدران. وأطفال يتامى، ونساء ثكالى، وأبواب مغلقة، ومنافذ يزدحم حولها الذاهلون، وجلبة هنا، وهناك، ومفاوضات، ومساومات، وحكايات تروي ما كتب من قصص في أسفار المتألمين، وأنظار المتأملين. تلك هي اللحظة التي هربنا منها معا، لعلنا أن ننقش على الرمال قلبا اخترقه سهم الهوان، وننحت لأمنيتنا كوخا مضمخا بدمائنا النازفة بحرارة الغرام، ومرارة الذهول. فها نحن قد سرنا يمينا، والمدينة خلفنا، والفضاء أمامنا، ولا أحد يرانا، أو يسمعنا، أو يتتبع خطواتنا، ويرقب هفواتنا، ويرنو بصره إلى استكشاف سقوطنا، وهبوطنا. وها نحن نخب على الشاطئ الذي عشقناه، وألفناه، وارتحلنا منه إلى أحلامنا الذهبية، وتهنا في خيال ما يخفيه عنا من فضاء الحريات المكبوتة، لكي نعلن للعالم أن أكبادنا قد لفتها نيران الرغبات الوالهة. وها هو المدى قد افترش اللون الرمادي، واحتضن قدرنا المدوي، وبات موحشا بخطواتك الخامدة، وعميقا فيما يختصره من ذكريات موءودة. وها هو الهمس يبرز ما أضمرناه في نجودنا من نظرات، وبسمات. فهل نسي ضحكتك التي تعالت في الآفاق، وتسامت بها الأذواق، وكتبت على صفحة قلبي سطرا لن أنساه ما حييت.؟!
سيدتي: رأيت في عينيك برودة أعرف كنهها جيدا، وأدرك معناها الغزير بما يرشح في قاعه من توهان. فآه، آه، صمْت الزمان، والمكان، وحنين الوجود، والعدم، وأنين الحياة، والكون، ودموع الإنسان، والبيان، يسكن تلك العيون التي حملت شوقا لرمال عبقت رائحتها بقليل من المطر المنهمر بين أحناء قلب عشق الإيوان، فإذا به ينال منه جائزة الهوان. وأحيانا تنسد عيوني بواقد زفراتي، فأتأمل أحزان فؤادي، وأستفهم أشجان وجداني، ثم أراك تلعبين بعصيَّة معقوفة، تنقرين بمخلبها على سطح المياه الراكدة في أغواري، وتقولين: يا هذا، لست لك. أنا فتاة عصية، وأنثى شقية، وأنى لك أن تقطع المسافات فيما بيننا، وتطوي المراحل التي تبعدنا عن بعضنا، لكي نجلس على أريكة واحدة، ثم أشم في صوتك رائحة التاريخ المنسي، والحضارة الجامدة.؟
سيدتي، ماذا يغريك حين تخرجين من لهاتك تنهيدة تخفينها دائما، وأنت تطلين بعينيك من أعلى المبنى الذي يضم رفات حلمي، وقبر وجدي، ونظراتك التي تخفينها عن بصري، توحي إلي بأن تلك الذكرى المحصورة بين أطلال المباني، هي حقيقة مطلقة، وليست صورة واهمة.؟ شيء يستفزني، ويدلس ما أراه من مشاهد هامدة، ويزيف كل الحقائق التي ورثها من ربوعي الكاسدة، ويربك سيري بين لجج الظلام الذي أحلق في سهومه وجلا، وضجرا، وأنت نائمة، أو ربما مستيقظة، أو ربما تغازلين طيفا آخر، أو فارس حلم تنقشينه بالحناء على ساقك المتوهج بعنفوان الأنوثة الطازجة، وتذوبين في خياله حين ينهار حلمي في تذكر شبحك، وتخيل روحك. ربما قد أكون أنا، أو يكون غيري، لا أدري، لكني موقن بأنك تبحثين في تفاصيل اللحظات عن صدق اللغة، وقوة الفكرة، وتفتشين عن مدى قدرتها على رسم المعنى الذي صارحتك به حين قلت: سيدتي، أعلم يقينا أنني أخاطر بخطواتي في هذا القفر الموحش، وأغامر بما أطلبه من مجد، وسؤدد، لكنني سأبقى معاندا لهذا الخاطر المزعج، ومصرا على أن أظهر لك أن الإملاق الذي ورثه من فكر كاسد، لا يمنع من صيد المعاني الثمينة.!
سيدتي، تذكري أنك حين تشيحين بنظرك بعيدا عني، وتحملقين في فضاء آخر، وتتفرسين في وجوه المارة، وأعين السابلة، وأيدي الكادحين، وأنت تريْن في استحضار الذكرى أن جدران الغرفة أرحم من هذا الجمود الذي أبى الزمن البائس إلا أن يبرزه على صفحات ما نكتبه بالدموع الحرى، لن تكوني إلا فاتكة بحلم سجنه القدر في عمقي، وقاتلة لأمل بللني برغبة حانية، أداريها بشوق يصيرني ضحية لتيه موجع، أحاكيه بصراخ مسموع بين الآفاق، وأداريه بلعاب ازدرد مرارة غصته بحزن، وكمد. فماذا دهاك، ونحن نعرج على الطريق المحاذي للمقبرة، ونلقي عيوننا على ما كتب من تاريخ على الشواهد البالية، فتقولين: لن نصل إلى المبتغى، ما دمت لا تعترف بلغة الحاضر.!
أجل، هذه اللحظة العابرة، انسلخت من عقلي، وانفلتت من قاعي، وانتهت إلى ضياع ممزوج بفراغ، ومسكوب من كؤوس شربناها بنهم، فنلنا منها ثملا، وكسلا. لكن، يا سيدتي: قد تمضي الشهور، وتنقضي السنون، وأنت لا شئ يجدد فيك نبض الحياة، وهمس الوجود، إلا بعض الزيارات الخاطفة إلى الأهل الجاثمين على فروة الانتظار، حيث يوجد الأصل المتنائي عن الفرع الزاحف بين المدن المنهكة بسؤال السنين، فتطلين من مستشرف عال عن نظري الكليل، فتشهدينني أطوف حيال قبتك المرمرية برغبة الولهان، لعلي أن أشم رائحة، أو أسمع صوتا، أو أشهد شاخصا، أو أعثر على خيال، ويطول بي المقام بين ريب، وحيرة، وتنزوي عن لبي كل المناظر البهية، وتلتوي في خلدي كل الطرق التي تؤدي إلى المرام، فأتوجس خيفة مما يفاجئني، ثم أغادر إلى ربعي الخالي من أحلامي. وأملي أن أعثر على ورقة مكتوب عليها هذا الشعور الغامض، والرغبة الكسيرة، والشهوة الدفينة، لكني حين أرجع حسيرا، وأقفل راحلا إلى يابس مناهلي، لا ألمس إلا حرارة الشمس، وصوت الجنادب، وشيوخا محدودبين، يمخرون عباب السراب، وينقلون الخطى إلى المعابد طلبا للبركات، ونساء يمسحن دموع الأطفال التائهين بين الواحات. فهل سيعوضني ذلك ما فقدته بين الغابات من غايات جميلة.؟ لا، بل الأدهى، أن تلك الزيارات الطفيفة، قدر عليها أن تكون خفيفة لهموم ألمت بحياتك الجديدة مع شريك حياتك المتوهم، أو الحقيقي، وقد تنتهي بدون أن يهمس في أذني صوتك الذي أبحث عنه بين الأصوات، أو يخطر في قلبي شخصك الذي فقدت ما يطفح عليه من آيات، فلا أكاد أجد شيئا يذكرني بما انمحى في صوري من أمارات، أو يحيي في سبيلي ما انطوى عليه الزمن من علامات، بل حتى بسماتك التي نقشت في قعر الأمنيات، تأبت نزواتها على ذاكرتي، فعجزت عن رسمها كما هي في لوحة الذكريات.
سيدتي: تتمنين أن تغمضي عينيك، وتجدين نفسك في الطريق المؤدي إلى منزل والديك، وأنت تجرين وافر أذيالك كما كنت في الماضي، لكي تحتضني والدك الذي طالما كنت تهابين صولته، ثم تحسين بحنينه الذي كتمت أنفاسه منذ سفر اللاعودة، وحين ترتوين من حدب والدك، تقذفين برأسك بين دفء والدتك التي ما فتئت تدعو بحمايتك في كل مهاتفة ينقلها الأثير إليك، ثم تسيل دموعك كالجمان، فتمسحينها بألم، وكل غمرات جوانحك شوق إليها، وأمل في أن تظفري بقبلة منها على خدك المحمر بالخوف من الإنسان، والمضمخ بالوجل من كل شيء يفارقك، وينهض شاخصا بين عينيك، ولكنه لا ينطق بما يضمر، ولا يعرب عما يبطن، وكأنك فقدت الثقة بهذا الكائن الذي خرج من رحم المرأة بعدما كان شهوة في عقل الرجل الخائن، الغدور. لا أراك قد أبعدت النجعة، وأظهرت ما ليس في الطبيعة، لكن، أراني لم أطق أن أُسمع فؤادك أنين الخذلان، وشكوى الأحزان، ووجع الأنواء، وهلع المطالع، وخزي المنازل. ولو أطقت ذلك، لوضعت أناملك على جرحي، ولكتمت أنفاسي الصادعة في جواني، ثم لا محالة، ستنفذين إلى عالم مخضل بالبكاء، وممرع بالسآمة، ومجلل بالخيبة، لكن، لم تفعلي ذلك، بل تركت أناتي تردد في غربتها ما أعانيه وحيدا، وشريدا: إن تاريخ البائسين لا يداويه إلا الموت، أو الفوت.
سيدي: لازالت رؤاك مبعثرة بين نصفك الذي حضر معي في سفري، لكي يشاطرني غربة المهجر، وبين أهلك الذين قضيت بين أحضانهم عمرك الطويل الذي تكتبينه على ورق الشجر المرمي على طول الطريق، والمرسوم عليه: من... إلى... وحينها تتوهج عيناك في لحظه تذكرك تلك، وتعود لتنطق، وتروي كيف نكون أعداء حين تقترب سفننا من النجاة. لكني سأصر على أن أكتب إليك، ومن بعد سنين طويلة، انتهت في الخيال، والوهم، والبله: سيدتي: لك مني سلام المحب المشتاق. كنت أجمل وردة زينت حياتي. ويا ليتها لم تذبل قبل أن نهديها في عيد الميلاد. كنت أحلى شمعة أضاءت ليلي. و يا ليتها لم تحترق حتى نكمل الدرب سويا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض