الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاموك- رواية- (1- 7)

وديع العبيدي

2018 / 8 / 26
الادب والفن


وديع العبيدي
كاموك
(رواية)

الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!


لا تكَلي أحبك
عيب..
بعيونك بعدني ازغير..
واستعجل عليه الشيب.. (شعر خليجي)
*
That’s a funny joke!
Said the duck
That men should always love witout cause!
Where’s the logic´-or-sense in that?
Geoffrey Chaucer



(1)
دكتور ديث؟..
يس. دكتور ديث!..
آي مين. آي آسكنغ أباوت دكتور انجكشن..
آي وونت تو داي!..
آي دونت اندرستاند يو..
وات يور سيينغ..
دو يو نيد انتربريتر؟..
وج لانغ وج يو سبيك؟..
آي وونت تو داي
جاست داي.. فيد آب!.
(مركز فرانسس بيكون للصحة الحديثة)

(2)
ألفان وخمسة لم تكن، سنة عادية. ليس لفقدان أصدقائي في تلك السنة، بدء بأعزهم في الثالث عشر من يناير الى اكبرهم سنا، في الثالث عشر من نوفمبر نفس العام.
وليسها لالتقائي بكل من مارتا ومريم وتحولنا الى ثالوث، يبلسم جراح غربتي وعزائي.. بل ليس لوصولي إلى هنا في تلك السنة المشؤومة..
ولكن.. لفقداني عشرين كغم من وزني مرة واحدة، فلم يعد يعرفني أحد، ممن كان يعرفني.
تلك المناسبة.. أعني فقدان الوزن، كانت سبب علاقتي الوثيقة بوكالة الصحة الوطنية، وبعد عامين فقط.. من تلك الصلة.. وصلتني أوراق الترشيح لبرلمان الصحة.
لم يكن الأمر كذلك بالضبط. في بدء وصلتني أوراق التصويت على ترشيح عضو جديد، محل عضو منسحب، فخطر لي التقدم لترشيح نفسي. وبعد موافقة الوكالة، على لأي، بدأت في اعداد مسودة برنامجي الصحي.. هكذا.
أوصت الطبيبة فورا بادخالي ردهة الطوارئ في المستشفى، وانا أؤكد لكلّ من يراني، وعيناه تفيضان بالقلق والعطف، كأنني سأموت بعد ثلاثة عشر دقيقة.. [نو ووري.. أي أم أوكي!].
بالنسبة لهم، كنت مجرد (ميت) يمشي الى قبره.. وبالنسبة لي، كنت أولد من جديد، لا غير!
تردّدت تلك الجملة كثيرا في المستشفى.. وأثار وضعي فضول كثيرين.. ربما لحسن حظ المتدربين في تلك السنة.. وكان بينهم ملتحون سعوديون، أو شباب صينيون، يشبهون رواد الفضاء.
قرأ أحدهم لوحة البيانات المعلقة بجانب السرير، وأعاد قراءة الاسم بصوت مسموع.. (ايغور كركجورديان كاموك).. كان ذلك تصرفا طفوليا، فابتسمت. قال لي: تعرف كاموك؟..
- جدّي!
- عفوا.. أعني الفرنسي.. ألبيرت كاموك..
- الفيلسوف، نعم!..
- تاريخ ولادتك يطابق تاريخ وفاته!..
- العكس صحيح أيضا!
ابتسم المطبق الصيني، وأنا ابتسمت، كالعادة. فقال:
- طبعا.. ممكن!..
- ليس ممكن، أكيد!..
قلت له بحزم وأنا أنظر في عينيه، ووجوه زملائه..
- بعد ولادتي بأيام متّ. ولأن أمي لم يكن لها أولاد، وقد طلبتني بعد أدعية كثيرة وصلوات سنين طويلة، فقد رفضت تسليمي للدفن. احتفظت بي في حضنها، وكأنني ما زلت أعيش. الجارات اعتقدن انها جنّت. وكانت تكرر طيلة الوقت جملة واحدة: (لالا.. الله لا يخدعني.. لقد طلبت منه ابنا، وقد اعطاني.. لا يمكن أن يأخذه مني ثانية!)..
احدى الجارات كانت تصرّ على دفن الطفل.. دفني أنا.. فذهبت الى (الدايه) لكونها الوحيدة صاحبة الأمر، والقادرة أن تؤثر على أمي.. كانوا يخافون عليها من الجنون.. وهي الخياطة الوحيدة عندهم.. فكانت المفاجأة الكبرى، عندما قالت الداية: صبيحة معها حق.. هذا الطفل لم يولد للموت!.. فقامت بتغيير اسمي القديم، وبعدها بثلاثة أيام، فارقتني الزرقة وشحوب العينين، وصرت أنمو بسرعة.. بالروح والجسد.. لذلك أعرف أنني هو!..
نظر اليّ المطبقون ببلاهة، وانسحبوا مختفين مرة، والى الأبد!.

(3)
الفلج الذي أخذ من جدّي نصف العام وأحاله كومة عظام لا تزن خمسة وعشرين كغم في أيام الخير.. أخذ من والدتي آخر عشر سنين حياتها، بالكاد تتحرك أو تنطق شيئا بسهولة.. كان ذلك في أيام الحرب والحصار.. ولم تفقد من وزنها الكثير.. وعندما رأتني خارجا، رفعت ذراعها وبقيت عيناها تنظرانني، فتأخرت في الحركة، لسماع كلماتها الاخيرة.
حتى تلك اللحظة، اعتقدت أنها لن تلحظني وأنا اغادر. قد تكون نائمة، أو ساهية، ولن تتذكرني.
بعد مدة من ارتجاف يدها ودمدمة شفاهها المرتعشة، وعيناها جامدتان نحوي، لا تتحركان.. ندّت عنها تلك الجملة الأخيرة: أنت ميت!.. تذهب بغير رضاي.. أنت أيضا ميت، مثل أخيك!.
كان أخي قد مات قبل ست سنوات. أعني أنه اختفى، أو فقد، في الحرب. ولم يأتِ ثانية. والناس قالوا أنه مات، اجتمعوا وأقاموا جنازة ومأتم.. وأمي على حالها، مفلوجة، منذ وفاة شقيقها الأصغر، الذي كان يناديها: (ننه!). فقد كانت تكبره اثنين وعشرين سنة.. وذلك هو عمر شقيقي المفقود.. وكذلك هو عمر سلمان العبيدي سبارتكوس مانشسترستي..
كان ينام في حضنها ويقول لها: غني لي يا (ننه!).. وكانت دموعها تسيل وهي تغني. ثم يعانقها ويبكيان سوية. كان اسمه (طارق!). وقيل سمّوه طارقا لأنه جاء في الليل.. وكلّنا جئنا في الليل.. ليس هو فقط..
وعندما تطوع في الـ(بيش مركَه)* كان يزور البيت في الليل فقط، ويختفي قبل خيط الصباح. وعندما مات، لم يكمل عامه الثلاثين.. مات في الصباح.. للمفارقة.. عكس معنى اسمه..
كان الشخص الثالث في رحلة موت العائلة، والأول عقب والديه. لم نستطع بعدها رؤية بيت جدي القديم الذي يقال أنه تهالك، وصار تلة من تراب في وادي العوسج ذاك.
لسنوات بقيت أمي المفلوجة محور اهتمام العائلة الجديد، ولكن كثيرين ماتوا، وهي في مكانها، كما هي.
جدّي هو الآخر مات مفلوجا. جدي الذي هو أبوها. ولكنه لم يتأخر ستة أشهر في حالته الأخيرة. كان ذلك قبل حرب اكتوبر الاخيرة بسنة.
أول من مات بعد خالي، كان أخي الأصغر، وكان في الثانية والعشرين من عمره. وبعده مات ابن خالي الاكبر.. أعني ابنه الأوسط، لأن الأكبر غادر البلد قبل الحرب.. صار الموت يقرض الجيل الثالث من العائلة، أمام أنظار الجيل الثاني.
كان جدي يقول: الشخص الملعون يموت أبناؤه قبله!.
إذا كان عدد ضحايا الحرب مليون شاب عراقي.. فما أتعس ذويهم إذن..
كلّ قصص موت العائلة ارتبطت بالحرب.. جدّي قبل حرب فلسطين الأخيرة.. قبل عام من موت طه حسين.. جدّتي بعد عامين من نهاية حرب الكرد الأخيرة.. خالي بعد عامين من بدء حرب ايران الأخيرة.. شقيقي مات في الحرب بعد أربع سنوات من موت خالي.. ابن خالي بعد عام من موت شقيقي وكان جنديا في الحرب.. والدتي في العام الثاني للحصار.. بعد عام من وقف حرب الخليج الثانية.. والدي بعدها بعامين..
عندما قالت لي أمي: أنت ميت!، كنت في الحادية والثلاثين، خارجا من حربين.. وتقول لي: أنت ميّت!.
تجاهلت تلك اللحظة والجملة، وابتلعت الموقف وأنا أستقل السيارة الواقفة أمام الباب. استحضرت ابتسامة مصطنعة ، لمواجهة السائق، لكنه كان أكثر ذكاء من النظر إليّ. أطلق عبرة محسورة: (توكلنا على الله!)، وترك السيارة تنساب على الاسفلت. تمنيت حينها أن أنام او أدخل في غيبوبة، ولا أصحو الا وأنا خارج الوطن.
ّأنا لا أكون مثل أخي. لأن أخي مات في الحرب. وأنا لم أمت في الحرب. اللوحة البرونزية التي سلّمها الحزب لأهلي، تقول أن أخي – شهيد- ضحى بنفسه دفاعا عن الوطن والكرامة. وأنا انهزمت وتركت الوطن يلعق جراحه لوحده.. ولأنني لم أمت في الحرب، أخذت الحرب مني كلّ شئ.
في تلك السنوات، كان الناس يقولون: الله يجمع إليه أحباءه. من يحبّه الله يأخذه من هذا العالم.. وكانت الحرب بورصة موت رائجة.. الموت أشرف من حياة هذه الأيام!. إذن.. لو كان الله يحبني، لما خرجت من حربين استمرتا عشر سنوات، من غير عمل ولا راتب ولا وجه يستقبلني.
أمي قالت: أنت ميت!. ولم أقل لها، أنا أموت كل يوم ثلاثين ميتة. كلّ نظرة من نظرات الناس ونظراتكم في البيت، هي موت. الميّت يموت مرّة واحدة. أما انا فقد متّ ملايين المرّات. منذ نهاية الحرب وانا أموت كل يوم وكل ساعة. وما زلت أتنفس. يا ريتني متّ وارتحت!. لم أقل لها ذلك.
يا ريتني قلتها وخرجت. (درب الصدّ ما ردّ!).
ــــــــــــــــــــــــــــ
• (بيش مركَه): عبارة كردية عرف بها الجيش الشعبي الكردي الذي قاده الملا مصطفى البرزاني في العراق خلال [1961- 1975م] من أجل استحصال الحقوق القومية الثقافية والسياسية للكرد، وقد ضمّ بجانب الكرد غير قليل من العراقيين المؤيدين لهم. في العام (1975م) وقع العراق وايران على اتفاقية جديدة يمتنع كل طرف بموجبها عن دعم مناوئي البلد الثاني، وكانت الحركة الكردية تتخذ من الأراضي الايرانية عمقا لوجستيا في عملياتها، مما حدّ من نشاطها، وهاجر زعيم الحركة إلى الولايات المتحدة الأميركية عقبها وتوفي هناك بعد تسعة أشهر. تلك الاتفاقية التي أريد لها توطيد السلام المحلي والاقليمي، صارت هي الشرارة التي فجرت أزمات متنوعة، جعلت الحرب والاضطراب والدمار طابعا عاما للمنطقة، ورسمت الربع الأخير من القرن العشرين، وامتدت لما بعده.


(4)
بيت جدّي الذي عرفته ونشأت فيه يتكون من قسمين، أحدهما يدعى البيت القديم، وهو في عمق المنزل.. يتكوّن من باحة تطل على حجرتين نحو الخلف، يلتصق بهما مطبخ وحمام صغيران بشكل جانبي؛ والآخر هو البيت الحديث، ويضم حجرتين من الطابوق الأصفر، أحداهما داخل دهليز الباب، والأخرى جانبي على امتداد المطبخ والحمام، وفي وسطهما حجرة ضيقة طولية تستخدم لقضاء الحاجة.
يفصل بين البيتين مساحة خضراء تشغل نصف مساحة البيت، مزروعة بشجيرات توت ورمان وخوخ ومشمش وفسيلة نخلة صبية، لا تكاد تكبر، فهي كما هي مذ رأيتها أوّل مرة. وفي الأرضية بين أقدام الأشجار بسط خضراء من خضرة السلطة التي يسميها جدي (أوتلاغ) أي: عشب، وعندما تقدم له صينية الطعام ولا يجد الخضرة، يتجه نظره نحو الحديقة ويوجد كلامه للمرأة: حفنة من ذلك العشب.
تلك الحديقة أو (البغجة)* كانت تحتمل كل مستلزمات العائلة، يتولى جدّي زراعتها وتقوم جدّتي برعايتها.. وعندما يستلقي جدّي على فراشه للقيلولة، في الباحة المسقوفة، أو عند المساء على سريره، المجاور للبغجة من جهة الباب الخارجية، تراقب عيناه صور الشجيرات والأعشاب المنتشرة بين سيقانها، وجماعات الدجاج المتجولة بينها.. حتى يأخذه النوم..
لا يتكلّم جدي كثيرا.. ولا يدور حوار حقيقي في بيت الجدّ المسكون بصمت متوتر بلا نهاية.. تسلقه حرارة الشمس طيلة أشهر الصيف، وتتعاصفه نبال المطر الساقطة بشكل عمودي أو مائل، فترشق رشفاتها عتبات بعض الحجرات، وتغسل الباحة الكونكريتية التي هي مضافة جدّي عند اعتدال الجوّ.
في المساحة بين تلك الباحة والبغجة من جهة الداخل، جلس جدّي على كرسي خشبي تفوح منه رائحة التاريخ، بينما وقف أمامه عطا بربر يحلق شعر رأسه ووجهه، ويشذب شعرات شنبه، ويلقط له شعيرات أذنه وأنفه وحاجبه، المتدلية خارج حدودها..
هو أيضا كان يقضي ساعات طويلة في تشذيب أغصان الشجيرات والأعشاب المستطيلة من وقت لآخر..
في الطرف الآخر، في باحة البيت الحديث جلس خالي الأوسط على كرسي بلاستك أحمر اللون يمسك بين يديه كتابا، ويراقب جدّي من وقت لآخر ببهجة ظاهرة.. يوم الخميس الأخير من كل شهر، هو تقليد ثابت من سنوات طويلة، يحلق ويتحمم ويتخلّص من كل تبعات الشهر المنصرم، ليدخل الشهر الجديد كمولود جديد..
كم تقدر عمره؟..
قال خالي الأوسط موجها كلامه لي:
أنت أعرف مني.. بما مكتوب في بطاقته الشخصية..
ليست لجدّك بطاقة شخصية..
كيف.... لكلّ شخص بطاقة.
إلا جدّك.
وماذا تخمن أنت عمره..
قرن.. ربما..
ماذا يعني قرن.. أنت تمزح..
لا أمزح.. أنه قديم.. ولا يتغير..
ألم تسأله..
لا يجيب.. وربما هو نفسه لا يعرف..
ثم التفت لوالدته الجالسة على عتبة الدرج الأولى وسألها:
كم هو عمر زوجك؟
ضحكت بغير صوت ورفعت يدها بالفوطة تغطي شفاهها..
أنت لا بد تعرفين عمر زوحك بعد كلّ هذه السنين..
الرجل يسأل عن عمر المرأة، لكن المرأة لا تسأل عن عمر الرجل يا بني.
عندما تزوجتما لا بدّ سمعت بطريقة ما شيئا عن عمره.. شاب، كهل، عجوز؟
أبوك هو هكذا دائما منذ رأيته.. ولم يتغير..
ألم يكبر؟..
صدق عندما أقول لك هذا الرجل لا يكبر.. لقد كان كبيرا منذ أول رؤيتي له..
صورته في بداية الجمهورية لا تختلف عن صورته الآن..
اخفض صوتك.. أحداث تلك الأيام جعلته يبدو أكبر.. لكنه لم يتغير..
أبي اسطورة تستحق التوثيق.
هل تسخر من أبيك؟
أنا لا أسخر يا أمي.. أنه اسطورة فعلا.
البركة فيكم يا ولدي.
الدّجاجات هي شاغل جدّتي الرئيسي في نهارها الطويل.. والبغجة هي ما يشغل جدّي عندما يكون في الييت. البغجة تعني حديقة، وهي صيغة تصغير من (باغ) التي تعني بستان. هي كل ما تبقى من تاريخ جدّي وحياته الطويلة. وعندما يتأملها ويعمل يديه فيها يعمل بنفس الهمة والرغبة التي كان يعمل بها في شبابه، عندما كانت أراضيه تمتد على أعالى حوض ديالى الذي كان يسمى نهر جالولا.
ــــــــــــ
• (بغجه): كلمة تركية تعني بستان صغير، أو بستان منزلي.


(5)
أمي كانت الوحيدة التي تقول أن أباها كان فلاحا، وأنها كانت تعمل معه في الأرض، وكان لجدّي قطيع من الماشية يتولى الاعتناء به صبي اسمه "هسين".. عند المساء بعدما تعود الماشية.. يجلس هسين على التيغة ويغني.. وكانت أمي الصبيّة يومذاك تحبّ غناءه، وتغني معه..
هسين ليس اسمه الحقيقي.. وانما دعاه جدّي هكذا رديف اسمه.. لأن اسم جدّي هو (حسن)، ويدعونه (الحسني) للتفخيم.. أما هسين فهو طفل أرمني فقد أبويه في ذلك الزمان.. وتبناه جدّي ابنا له، لأن بكره كان فتاة، التي هي أمّي.. وكان يعاملها مثل (صبي) لحاجته لأحد في الزراعة والرعي.. وكان هسين يرعى وأمي تزرع.. في ذلك الزمان طبعا..
وعندما احتل الانجليز البلاد مرة بعد مرة وانتشر العساكر الأجانب ذهبت الأرض.. وطما الغرباء على الأهلين القليلين جدا يومذاك.. فأخذ جدّي الصبي معه في القطار الصاعد إلى الموصل.. لا تعرف أمي إلى أين أخذه.. ربما أعاده للناس الذين أخذه منهم.. هسين كان جميلا في كل شيء.. وكان مهذبا جدّا.. على ما تصفه أمي..
ثم عاد جدّي لوحده عند المساء.. منذئذ وجدّي لا يتكلم.. ولا يجيب على سؤال.. وكل رجال أيام زمان لا يتكلمون.. لا يتكلمون مع النساء.. وفي حلقات الرجال يتلكمون لوحدهم.. يتركون الاطفال والنساء خارجا..أنا فقط كنت أحضر أحاديث جدّي القليلة مع خليل تتار.. صديقه الوحيد في السوق..
في نهاية كل شهر.. عندما يجتمع الناس في بيتنا.. للاستماع للروزخون الذي يأتي من خارج المدينة.. الروزخون وحده يتكلم.. وأمامه يجتمع الرجال والنساء والأطفال.. الرجال في الأمام على البسط، والنساء وراءهم على الأرض، وفي الأخير الأطفال.. جدّي لا يتكلم.. وفي موعده يذهب للنوم.. تاركا السهرة لما بعد منتصف الليل.. القريبون يعودون لدورهم، والبعيدون يبيتون معنا لليوم التالي.. وهو في العادة نهاية الاسبوع..
أنا أحببت جدّي.. الوحيد في العائلة أحببته أنا وتقربت منه.. لا أدري كيف ولماذا.. هو صارم لا يتكلم.. حادّ المزاج.. يحاسب على كل حركة.. وياما وبخني على ابتسامة ثغري.. وهي ليست ابتسامة.. مجرد بشاشة غبية ورثتها لا أدري من أين.. فلم يكن في وجوه عائلتنا تلك البشاشة..
مع الوقت صرنا صديقين.. منذ الصباح يفتقدني.. في وقت الطعام يفتقدني.. كلما أراد أن يفعل شيئا أو يذهب لمكان يأخذني معه.. صرت دائما في محيط نظراته.. ولم يعد يوبخني.. يراقبني كجزء من حديقته، ودجاجات جدّتي، والقطّ الذي يتسلق السلم الى السطح في ذهابه وإيابه..
قبل المساء يسأل جدّتي.. هل وضعت له العشاء.. متى تضعين فراشه.. هكذا يتكلم بلغة الغائب.. حتى عندما أكون أمامه.. لكنه لا يتحدث معي مباشرة.. عندما يريد شيئا يستخدم عينيه.. نظراته أوامر ورغبات.. يخرج أتبعه.. هذه هي ايضا لغة الكلاب..
في الطريق.. في السوق.. عندما نكون لوحدنا.. يتكلم معي مباشرة.. يسألني عن المدرسة.. عن مستواي في الدراسة.. لا أدري لماذا اقتنع بذكائي وتفوقي.. هذا ما قاله هو.. صرنا أصدقاء.. أصدقاء دون أي أحد.. ولم يعرف أحد بذلك.. ولم يسأل أيضا..
ربما أحببته لأنه لا يحبّ الكلام.. وربما لا أحبّ الكلام أنا لأجله.. لكن صداقتنا كانت قصيرة العمر.. ربما لذلك كانت جميلة.. تمنيت لو كنت أنا ابنه.. ابنه البكر.. ربما لذلك كرهتني أمي.. كرهتني أمي أكثر.. ابنه البكر بعد أمي أيضا كان يكرهني..
لماذا يكره الكبار صبيا لا شأن له بهم.. لقد أخذت منهم أباهم.. هل يغارون لأنه يحبّني.. هل كان ثمة شيء من ورائي لا أعرفه.. لكني جدّي لم يترك لي ارثا.. ترك بيتين، سجل كلا منهما باسم ولديه الأصغر والأوسط.. وأنا أورثني عاداته وآلامه.. كراهة الذين يغتاظون منه..
كان صارما.. قوي الشكيمة.. يقف في وسط السوق.. ويوبخ كل باعة الخضر وأصحاب المحلات.. بسبب امرأة وبخ كل عمّال القطارات.. صوته جهوري.. قسماته حادة.. بشرته بيضاء تميل للاحمرار عندما يسخن.. ليس كبير الحجم جدّي.. أنه في طولي الآن.. ربما أقل.. ليس بدينا.. ولا نحيفا جدّا..
أضع كرسيا وراءه.. أصعد عليه وألف له عمامته حول رأسه، أو أقطع شعيرات أذنه.. آه يا ذلك الرجل.. لكم أحببته وأحبّه حتى الآن.. ربما أورثني أول شعور بالحبّ.. لكن فقدانه ألهب عواطفي نحوه أكثر.. هو كان يرعاني..
رعاني عندما طردتني أمي من البيت.. ولا أدري لماذا مات بسرعة.. كنت أنتظره قرب البنك مرة في الشهر عندما يحضر لاستلام راتبه التقاعدي.. لماذا كنت أنتظره وليس أخي الأكبر.. أبلغه رسالة أمي.. يعطيني مبلغا لأمي.. ولا يسمح لي بمرافقته.. يقول لي أرجع لأمك.. انها تنتظرك..
مرتين فقط رافقني للبيت ولم يدخل.. وقف عند الباب.. مرة واحدة وافق على تناول قدح ماء.. ولكنه لم يدخل تحت سقف أحد من أولاده.. ولا مرّة.. لا يضع رجله على العتبة.. ولا يتأخر بضعة دقائق.. يسأل أو يجيب أو يوصي ويذهب..
عندما يذهب تنفرط أمي في البكاء.. وأنا أدخل في الحجرة.. جدّي لا يسمح لأحد بدعوته أو مرافقته.. الستة أشهر الأخيرة كان أمام عيني كل يوم.. طيلة اليوم.. أفرش كتب المدرسة.. وأجلس أمامه أقرأ وأعمل الواجب.. يراقبني وأرقبه.. كان يذبل مثل شجرة كبيرة.. حتى تضاءل وصار مثل عشبة..
كان والدي طبيبه وخادمه.. يناوله الطعام والدواء.. يأخده للحمام ويبدل ثيابه.. والدي هو صهره.. أما أبناؤه وبناته فكانوا غرباء عنه.. هل أحبّ والدي كما أحبني.. جارنا خزعل المضمد كان يزرقه ابرتين يوميا.. تقلصت إلى أبرة لأنه جسمه لم يعد يحتمل.. ثم ألغيت الأبرة عندما فقد الوعي.. في اليوم الثالث كان صرة عظام..
أنا الوحيد من أحفاده وقفت استلم التعازي مع أحد أخوالي غالبا، ونادرا يكون الجميع حاضرين.. لوحدي حضرت الأيام السبعة قياما وقعودا مع كل قادم ورائح.. أجرع القهوة المرّة كالكبار في جرعة أو جرعتين.. دائما القهوة الساخنة أول طهيها أتناولها أنا في المقدمة..
في ذلك العزاء اكتشفت أن له بنت عم وأبن عم.. لم أعرفهما في حياته ولا ذكرهم أحد لي.. كان لابن عمه بنتان جميلتنا رأيتهما مرتين.. تمنيت يومها الارتباط بتلك العائلة.. بنات عمومة أمي.. وعندما مات خالي الأصغر بعد عقد منه.. عرفنا أن لجدّي أخوة في الغربية.. زعلا كثيرا لعدم معرفتهما بموته.. حضروا كل أيام العزاء.. وبعدها انقطع الإتصال أيضا..
بعد موته تعلّقت بجدّتي.. وهي تعلّقت بي أيضا.. وعاشت معنا في نفس البيت حتى ماتت.. هي الأخرى ماتت بقربي.. كنت أقرا في الرياضيات التحليلية.. وهي تقول لي تكلم معي.. اقرأ بصوت لأسمعك.. وفي ذلك المساء ماتت.. كانت الساعة الرابعة بعد الظهر.. لم تكن مريضة.. ولا متعبة.. كانت عمياء فقط.. أرادت أن تغفو القيلولة.. ولم تستيقظ بعدها حتى اليوم..
بي من جدّي وجدّتي أكثر مما من أمي وأبي.. هناك تحت روحي شيء قديم ما يزال ساخنا.. كأنه الان.. ما يزالان أمام عيني.. أعني في داخلي بكلّ طراوة الماضي وجمالية البيت القديم.. ذلك الصمت والصرامة والخوف والنظام .. الذي ينطوي على عاطفة ورعاية وحبّ كبير.. كيف تجرّأت وأنا طفل صغير أن أمسك المقص وأقربه من شحمة أذن جدّي.. أو ألف ذراعي الصغيرة حول رأسه وأنا على الكرسي.. لأن ذراعه لا تطاوعه على لف العمامة من الخلف..
عندما أرى أحدا ما زال أبواه أو أجداده أحياء.. تزيد الغربة داخل روحي.. مايا هي الوحيدة التي قالت لي: لا تتحرك!.. ومرّتين أو ثلاثة.. قطفت شعرات طويلة من جانب أذني اليسرى.. مايا هي الوحيدة التي كانت تحضن كفي بين أصابعها وتدلكها مثل طفل صغير.. بعد ذلك صرت أقول لها: مايا.. أنت نقطة ضعفي!..
ولكنها تزعل حين أقول لها ذلك!..

(6)
ليس في حياتي غير النكد.. ليس مطلوبا منك استكمال القراءة.. ليس عندي شيء أقوله.. ماذا لدى المنكود غير النكد.. ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى.. كلام نكد.. الأفضل هو السكوت.. اذا تكلمت لا يحتمل الناس سماعك.. هذا ما حدث أول وصولي للنمسا.. أول امرأة عرفتها.. قالت أن لها أصدقاء يودّون التعرف عليّ..
كان من بينهم رسام أكاديمي يقاربني في السنّ.. هو الرجل الوحيد في المجموعة.. عندما أطلعته مرّة على موضوع عن بلدي.. رفع رأسه نحوي بشكل جانبي وقال: لماذا تريدنا أن نعرف هذه القصص البروتالية.. هذا جارح.. أكتب فقط ما عشته.. ومددت يدي أسحب الورقة منه..
حتى اذا لم تتكلم.. حتى اذا سكت.. يفضحك صمتك.. ملامح وجهك وقسماته تقول ما يكفي.. انسان منكود.. ماذا تفعل هنا.. من دعاك الى الحفلة ومن وضعك في هذا المكان.. العالم بحاجة للفرح والمسرات.. بحاجة للكذب والتمثيل.. للنكت والضحكات والنعومة والفرفشة.. العالم تعبان ويحتاج راحة ونعومة.. وأنت تزيد نكد الدنيا.. الاوربيون نسوا كامو وكافكا وسارتر وقصص الحروب والمحارق.. وأنت تعيد أسماءهم لأسماع العالم.. ألا تفهم.. العالم يكفيه ما فيه من نكد.. ابحث لنفسك عن مكان آخر.. فرفش أضحك.. طنش.. لماذا تشيل الدنيا على راسك.. طنش وفرفش.. (انما الدنيا طناجر)*.. دعنا نضحك.. ملعون أبو الدنيا..
أولئك حربهم انتهت.. طووا كوارث الحروب وأدب ما بعد الحرب.. ولكن حربنا ما زالت ساخنة الجراح.. وضحاياها على قيد الحياة.. نحن احترقنا بحروبهم.. وهم لا يريدون أن يعرفوا عن ضحايا حروبهم وآلامنا.. هل يعملون على مسح حروبنا من الكالندر.. أم يمسحون اسم العراق أساسا من الخريطة والتاريخ.. ولا يبقى ما يخدّش مشاعرهم وضمائرهم.. ملحمة جلجامش خرافة.. وما نكتبه ليس غير خرافة.. ملاحم خرافية لذاكرة مريضة في طريقها للزوال..
كثرة الفهم تجلب الهمّ..
حكمة الانسان حماقة..
شخص ذو رأيين لا يصل الى نتيجة..
انسان متذبذب لا يستقرّ على حال..
الانسان ذئب.. ذئب بأنياب شرهة في جلد خروف أو أسد..
واذا لم يقدر أن يكون ذئبا مفترسا، عليه أن يقنع بدور الخروف.. العبد.. الأبله..
فلا مكان في المجتمع لطبقة ثالثة من البشر..
غالب أو مغلوب.. ذئب أو خروف.. فوق أو تحت..
على فكرة.. يوجد حلّ وسط.. تعمل سمسار بين الفوق والتحت..
وهكذا تكسب الطرفين وتستفيد، وتتحرر من هزيمتك..
بغير ذلك ما نفع العقل والفهم..
يا أخي.. العقل والفهم والثقافة والحضارة والعلم في خدمة الانسان وليس العكس..
ما معنى الحكمة.. تضيّع نفسك ووقتك من أجل حكمة..
لا حكمة غير سيدوري*.. كلْ واشربْ واستمتعْ واشبعْ بالجسديات والحسيّات، قبل أن يذوي وينتهي كلّ شيء..
ماذا تفعل امرأة بالحكيم والمثقف.. تنظر الى طوله.. تشبع منه شوف!.. اصحَ..
خلّي عقلك ينفعك..
البصل أيضا رأسه كبير..
المرأة المصرية نظرت للعراقي ضاحكة وقالت.. أنتم تقولون شبير.. وعملت بأصابعها حركة غير جميلة..
الجسد يذوي.. والذاكرة تتوهج..
قبل عشرين سنة اكتشفت أن تضييع العمر من أجل مبدأ أو موقف هو محض حماقة!.. يومها كنت خسرت ثلث عمرك.. كتبت ذلك في مجلة تصدر في هولنده.. واليوم تركت المبدأ وصرت تتحدث عن الحكمة والكرامة.. الشاطر من ينفع ضرسه.. ها لقد عافك الجميع.. لا زوجة ولا أطفال ولا أهل ولا أصدقاء.. ولا حتى صياع الشارع يدنون منك..
عندك (موني) تعال.. مفيش لا تضيع وقتي..
جاي تنيك ولا تتفلسف.. خلصنا!..
خللي عقلك ينفعك..
خذ لك فرد كلب.. حيوان صغير.. واقعد تكلم معو.. شكلك صعب!..
ذهبت الى دائرة البلدية فأحالتني الى جمعية رعاية أو تجارة الحيوانات الأليفة.. هناك نظروا إلي مليّا وتركوني أنتظر ساعات وساعات.. ثم أعطتني إحداهن ملف داخل مظروف وقالت: اقرأ التعليمات!.. واذا توفرت فيك الشروط إتصل بنا لتحديد موعد، واجلب معك كل المستمسكات الأصلية في المقابلة.. وبالمناسبة.. هل تحبّ الحيوانات؟..
تحدّثنا في موضوعات كثيرة.. قلت كلاما لم يكن في خاطري.. وشعرت لأول مرّة أن هذه الأفكار لا بدّ لها أن تخرج.. ولا تموت في داخلي..
ــــــــــــــــــ
• أصل البيت: (اترك الدنيا وهاجر.. انما الدنيا طناجر) للشاعر اللبناني سعيد عقل[1911- 2014م].
• سيدوري: هي المرأة صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، وهي تمنح جلجامش الباحث عن الخلود تلك الحكمة!.

(7)
أمي تغني لوحدها في البيت.. أغانيها حزينة مبللة بالدموع.. والدي يبتسم عندما يسمع غناءها وهو يدخل البيت خلسة.. لم تكن أمي تغني أمام والدي.. وعندما يفاتحها بالموضوع تنكر بشدّة.. تتهمه أنه يفتري عليها.. ثم تقول له معاتبة.. هل تركت في قلبي مكانا للفرح لأغني.. وكنت أنا أستمع إليها وأسألها عن معنى الأغنية .. فتتهرب قائلة: هي أغنية وبس.. هكذا يقولونها.. ليس لها معنى..
ما زلت أحفظ كثيرا من أغانيها التركية.. يسمّونها خوريات*.. تشعر أمي بالراحة عندما تنشد تلك الخوريات التي تعلّمتها من هسين الراعي الذي كان يجلس على (تيغه)*.. وينشد غربته ويستدعي أهله البعيدين.. وهي عموما تتحدث عن لواعج الحنين وعذابات الغربة..
أمي هي التي حدّثتني عن الراعي وأغانيه وغربته.. وقد نشأ معا في ذلك البيت.. وعندما اختفى.. بقي خياله وصوته يعيش معها.. تستحضره هي الأخرى للهروب من مرارة الواقع.. تلك المرارات الداخلية التي لا يجد المرء أحدا يبثه أياها، أو يخفف عنه لواعجها.. بل يخشى افشاء أسرارها في مجتمع بوليسي يتصيد التهمة والفضيحة.. لذلك تحاول ابعادي خارج البيت لتنفرد ببث لوعجها..
أمسك ورقة وقلما وألاحق تسجيل كلمات الأغنية حسب تكراراتها وحروفها الزائدة.. وأحاول تجربتها لوحدي.. ورغم كوني قليل الكلام والاختلاط يومها.. إلا أنني تعلّمت الغناء التركي من أمي.. ثم تعلّمت أغنيات حديثة لمطربي التركمان في العراق ومنهم اكرم دوزلو..
لم اعرف أن والدي وشى بي بين أصدقائه.. ومنهم بعض المعلمين في المدرسة.. ذلك أننا في امتحان النشيد في الصف الثاني، طلب مني المعلم حسيب أن أغني له أغنية تركمانية.. وهو من أقارب الأسرة.. فأنكرت معرفتي بالغناء.. وألحّ علي..
وعندما فشلت محاولاته قال لي مقسما: أنه سيضع لي صفرا في النتيجة إذا لم أغني له بالتركمانية.. وسيفرض علي أن أعيد السنة كلّها.. فرضخت وأنشدت بخجل مقطعا عن عصافير تطير في المطر وتسقط على الأرض..
ياغمور يغر.. يير ياش اولر..
قوشلر اوتشر.. سرخوش أولر..
ذلك هو حال السكران العاشق مثل شارب الخمر.. فانتعش الاستاذ حسيب وهذا هو اسمه.. وأعطاني درجة كاملة.. لكنه طلب مني اكمال الاغنية.. ومن يومها.. انفتح لساني أمام الناس..
والدي كان موظفا عند الحكومة.. وكذلك خالي.. وخالي الآخر كان في الجامعة في بغداد.. والبقية كانوا تلاميذ في المدرسة.. يحلمون بوظيفة الحكومة.. مثلي أنا أنا..
كلّ الأطفال سمعوا باسم (جالولا)* من كتب التاريخ في المدرسة.. حيث وقعت معركة بهذا الاسم بقيادة القعقاع ابن عمرو التميمي.. قال جدّي أن جثث القتلى غطت الأرض.. والبقية انهزموا.. لذلك سمّوها: (جلّى/ جلّو).. لم أقل له أن (جالولا) تقع على ضفاف السند.. ومثلها اليوم على الأتلانتك.. لكن الغزاة لم يجلوا عن المدينة.. وهذا معنى اسمها الذي يتكون جملة سؤال وجواب نفي:[جلوا؟.. لاء!].. ما يزال الناس يتدفقون على المدينة من الشرق.. كما كانوا منذ أيام سومر وبابل.. لا تمنعهم جبال ولا ثلوج.. ولا.... وضع ضابط الجوازات الباكستاني في مطار فرانكفورت.. اصبعه على تلك الكلمة وسألني:
- ما هذه؟
- جالولا..
- ما هي
- مكان ولادتي.. تاون صغيرة
- اين تقع؟..
- في ارض النهرين!
ابتسم.. وانا ابتسمت ايضا.. عرفت انه يعني مدينة بنفس الاسم في بلده!.. ناولني الجواز بحفاوة خاصة.. متقدما اصحاب الحفاوة في التقدم نحو طائرة لوفتهانزا.. مشيعا بنظراته عن بعد..
أهل المدينة بسطاء.. كادحون.. وجوههم كالحة.. أيديهم يابسة وبطونهم كشحاء.. ظهورهم منحنية من تسلق الجبال.. لا يعرفون القعقاع ولا يحبّون المعارك.. يتحدثون أكثر من لغة.. لكنهم بالكاد يعرفون العربية.. العربية كانت في المدرسة ومراجعة دوائر الحكومة.. الكتب والسجلات والمجلات كانت بالعربية.. أما الموظفون والشرطة فيتحدثون التركمانية.. تعلّمنا العربية في المدرسة.. وصرنا نعرف ما لا يعرفه أهلنا.
الأذان أيضا بالعربية والصلاة.. كيف كانوا يصلون إذن.. في الجامع الخطبة ليست بالعربية والمحادثات بين الناس بلغات أخرى.. انتظر جدّي ريثما ينتهي من صلاته.. يلتفت لي ويقول.. اسبقني.. سألحق بك..
الحياة في المدينة كانت رتيبة.. لا يوجد فيها شيء جديد.. وأي حدث.. عرس أو زيارة أو جنازة أو مشاجرة تعتبر حدثا سعيدا.. يستغرق الناس فيه كلّ النهار.. ثم يردّدونه اسبوعا حتى تعود الرتابة.. وعندما لا يحدث شيء يختلقون مناسبة وينشغلون بانتظارها..
من تلك المناسبات.. انتظار زيارة عدنان القيسي بطل المصارعة العالمي للمدينة.. انتظرناه أكثر من شهر.. عرفنا كلّ أخباره وسيرته وجمعنا كلّ صوره.. وتحلقنا حول التلفزيون أماسي طويلة لنحفظ ملامحه ونمتدح عضلاته القوية، وصورة ذراعه المشهورة بضربة (العكسية)*.. وأخيرا جاء..
لا أدري بعد كم من الانتظار.. وأنا لم أره.. قيل أنه جاء.. وانشغل به أهل المدينة كيف جاء وكيف عاد.. قيل أنه مرّ بالشارع الرئيسي الذي يمرّ على جانب المدينة ولا يمرّ وسطها.. قيل أنه كان ضخما وعظيم الجثة.. وكان واقفا كالتمثال في حوض السيارة الخلفي.. وهو يحيّي الجماهير على جانبي الشارع.. لأنه لا يستطيع دخول السيارة لعظمته..
وكان العيد بالنسبة لنا مناسبة محبّبة.. حيث تتعطل المدارس ونرتدي ثيابا جديدة ونحصل على النقود والطعام الجيد ونذهب إلى التسلية.. كنا ننتظر العيد قبل شهر أو أكثر.. وترتبط كلّ الأشياء بالعيد.. علينا أن ننام مبكرا لكي يرضى علينا العيد.. علينا طاعة أهلينا لكي لا يزعل العيد.. علينا عدم المساس بثيابنا الجديدة حتى يأتي يوم العيد بلا تأخير.. وهكذا جعلنا من العيد شخصا ننتظره ونطيعه ونخاف منه لكي لا يزعل ويتأخر أو يذهب إلى مدينة أخرى ويحرمنا من رؤيته هذا العام..
وعندما انتشرت أخبار (أبو طبر)* الذي يدخل البيوت في الليل دون أن يكسر الباب ويقتل أفراد العائلة دون أن يسرق شيئا أو يترك أثرا على جريمته، وأحيانا يأخذ كنزا عزيزا من البيت يعرف مكانه وأهل البيت نيام لا يعرفون.. وقصص كثيرة عنه مثل السوالف والخرافات التي يتبادلها الناس بالهمس ووجوههم يابسة صفراء من الخوف..
صرنا ننتظر وصوله إلى مدينتنا.. قيل أن أبو طبر مثل العيد يتقدم مدينة مدينة.. والبعض قال أنه وصل شهربان.. أو شخصا رأى خيالا غريبا عند جبال تللي عباس*.. وهكذا ينسحب الناس ويختفون داخل جلودهم بعد صلاة العصر.. وتقفل الأسواق مبكرا.. والمحلات تخلو من الأطفال ويخيم السكون فلا تكاد تسمع نأمة.. وكان السكون المطبق وقت المساء، يبعث من الرعب أكثر من حالة الخوف أو الكارثة عندما تقع..
صار بعض الناس يصرح بمعلومات جديدة مفادها أن عصابة ابو طبر يأتون قبل نزول الليل، وينتظرون مختفين في مكان ما يراقبون منه الناس، ليختاروا البيت الذي يقصدونه في الليل.. ومن الأفضل أن يعود الناس مبكرين لبيوتهم ويناموا مبكرين.. ويمكنهم عمل حراسات.. أو الأفضل التظاهر بالنوم.. لكي لا يتعرضوا للقتل.. فجرائم ابو طبر غريبة وقد لا يكون فيها قتل أو سرقة..
انتظار أبو طبر كان أطول المناسبات التي عاشتها المدينة.. وأخيرا أشيع أن المدعو ابو طبر غيّر برنامجه وصار ينفذ جرائمه في وضح النهار.. في الصباح أو الظهيرة أو قبل المساء.. وهكذا سادت حالة من الهدوء والنظام المطبق في المدينة..
الناس يقومون بأعمالهم وهم يتلفتون أو يسرعون مطأطئين رؤوسهم.. وقلّ الكلام، وحتى التحيات بينهم تتم بحركات سريعة بالأيدي دون اخراج صوت.. كأن أبو طبر نوع من الجنّ الذي يختفي داخل الزمن ويتحفز بالصوت والحركة..
الوديان والأماكن المظلمة والأبنية المهجورة، وعربات القطار النائمة في المحطة، كلّها صارت أمكنة موبوءة واحتمالات مفتوحة لخروج جنّ أبو طبر منها في أي لحظة.. نذهب للمدرسة زرافات زرافات مسرعين هطاعا.. ركضة واحدة من باب البيت لباب المدرسة وبالعكس..
لا نتأخر لوقوع قلم أو كتاب.. وكلّ فرد يخشى على نفسه.. انقطع اللعب والحركة في تلك الأيام.. صارت الأضوية تبقى مضاءة طيلة الليل وكذلك يترك الناس أضوية الببوت مضاءة في ردهة البيت أو الحجرة الخارجية، ليعرف الضيف أن أهل البيت في بيوتهم يشاهدون الأفلام، أو يقرأون الكتب التي تبعد عنهم السوء والفأل السيء..
ــــــــــــــــــ
• (خوريات): نوع من الشعر الغنائي التركي على غرار (أبوذيه): أو رباعية، يتكون من ثلاثة اشطر بقافية موحدة وقفلة بقافية مفتوحة. ونسبة إليها حمل بعض شعراء الشام لقب (الخوري)، تجوزا من نظم (الزجل). وهذا النظم موجود في كثير من اللغات بما فيها الأوربية، كالألمانية والانجليزية ويقال لها: (Lyrik) بالألمانية، و (rymen) بالانجليزية.
• التركمانية: (لغة) تتحدث بها قبائل المغول الذين منهم جنكيز خان وتيمورلنك الذين اجتاحوا بغداد والشام في أواسط القرن الثالث عشر، واستقرت جماعات كبيرة منهم في المنطقة. وأصلهم من أواسط أسيا شرقي الصين، ويوصفون ببدو السهوب، مهنتهم الرعي والغزو، اشتهروا بخيلهم القصيرة الأرجل، والفروسية والتنظيم الدقيق، وفنون قتالية مميزة، يبنون بيوتهم من الجلود بشكل خيام دائرية متعددة الأوتاد، خلاف الخيمة العربية الي اعتمدت أساسا للخيمة الحديثة المعتمدة في الجيوش ذات الوتد الواحد أو الوتدين. وقد سيطروا لقرنين من الزمان على الصين وتكونت منهم سلسلة أباطرة، والحدّ من هجماتهم كان الدافع لبناء سور الصين العظيم. ولكنهم أقل مستوى حضاريا من أهل الصين وفي كتاب (تاريخ البشرية) لتوينبي[1889- 1975م] تفاصيل وافية عنهم. والتركمانية من اللغات المقطعية، أكثر تطورا موسيقيا من ناحية الايقاع اللفظي من اللغة الصينية، ولها لهجات كثيرة ومتنوعة بحسب قبائل المغول الكثيرة، التي توزعت انحاء العالم بما فيها أوربا الغربية خلال موجات الهجرة الثلاثة من مواطنها غربا وجنوبا وشمالا حسب تصنيف توينبي. وهي لغة العثمانيين سكان الاناضول الذين ورثوا امبراطورية بيزنطه في شرق أوربا والامبراطورية العباسية في بغداد. وهي الأصل الأم التي تطورت منها اللغة التركية الحديثة في باكورة الجمهورية التركية ضمن مشروع كمال مصطفى اتاتورك [1881- 1938م] لتحديث تركيا. وينتشر التركمان بلغتهم وثقافتهم اليوم فضلا عن الجمهوريات الخمسة في وسط أسيا، في كل من ايران والعراق والشام وألبانيا ومقدونيا، ومصر خلال حكم اسرة محمد علي باشا [1805- 1952م].
• (تيغه): مفردة عامية عراقية معناها حائط قصير أو سياج مبني من اللبن/(clay): وهو الطين المشوي بالشمس، أو (الطابوق) الطين المفخور بالفرن.
• (المعلم حسيب): هو شقيق كل من [مالك، نجيب] وهم ثلاثة أخوة لأبوين من أصل تركماني، من أهالي مدينة الوجيهية من اعمال محافظة ديالى، على مسافة نصف ساعة من بعقوبة مركز المحافظة، ونرتبط بم بصلة وزيارات عائلية. كان حسيب معلما للموسيقى والنشيد، وهو من الشباب الماركسيين يومذاك، التقيته ثانية في مدينة جالولا بداية السعينيات، وقد أعدم لاحقا.
• مدينة عراقية في اعالي حوض نهر ديالى وتدعى أيضا نهر جلولاء، شرقي دجلة شمال شرقي بغداد. جرت فيها أحداث معركة بنفس الأسم بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي في تاريخ معارك الفتح الاسلامي.
• (العكسية): نسبة لمرفق الذراع بالعامية العراقية، وهي حركة اشتهر بها المصارع المذكور وهو أمريكي من أصل عراقي، وله قرابة عائلية بالمعلق الرياضي المعروف مؤيد البدري، الذي كان وراء تنظيم دعوته للعراق مع فريق المصارعة الأمريكي أوائل السبعينيات.
• (أبو طبر): (طبر) سكين عريضة قصيرة يستخدمها جزار اللحوم لتقطيع العظام، اشتهرت هذه الكنية في النصف الأول من سبعينيات العراق في القران العشرين، حول جرائم سرية ذات أجواء غرائبية حدثت باستخدام تلك الآلة، وكان التلفزيون العراقي ينقل أخبار تلك الجرائم في أفلام مصورة عن ماقع الجريمة الحية، وكان الفاعل مجهولا ولا يترك أثرا. وهو نوع من الجرائم الذكية وأول في مستواها يومها، فانتشرت حالة من الرعب في انحاء العراق، وسيما المناطق المحيطة بالعاصمة. وبعد حوالي عامين، بدأ خيوط تتجمع من خلال رصد سيارات مخطوفة يعثر عليها في مناطق متفرقة، اشيع ان المجرم يستبدل أكثر من سيارة في حركته. وفي أواسط السعينيات أذاع التلفزيون العراقي عن نبأ هام سوف يتم زفه للمواطنين، وكان ذلك خبر القاء القبض على عصابة الجريمة المعروفة بأبي طبر، واعتبر ذلك حسب لغة البيان، أنتصارا تاريخيا لقوى الامن والشرطة العراقية التي تتبعت خيوط الأحداث التي أوصلتها لوكر الجريمة. والوكر هو بيت يقع من حي البياع شمالي بغداد، تسكنه عائلة عراقية تتكون من أب كان يعمل مفوض أمن مع زوجته وبناتهم. واعتبرت زوجته شريكة له في جرائمه. وبحسب البيان تلقى المفوض المفصول من وظيفته عدة دورات أمنية في ألمانيا حول الطرق الحديثة في كشف الجرائم. ومعظم ضحايا تلك الجرائم كانوا من كبار الطباء والشخصيات الأكاديمية الرفيعة في مجتمع بغداد انذاك.
• تللي عباس أو (دللي عباس) كما يلفظها العامة.. الاسم القديم لمدينة الخالص من أعمال ديالى شمالي بغداد على الطريق إلى كركوك، عاصمة تركمان العراق. والتصحيف بين التاء والدال وارد في العامية العراقية، علما ان (دللي) مفردة تركمانية معناها (مختل العقل/ مجنون). أما التل: فهو مقطع صوتيVorsilbe/prefix)، تدخل في بعض أسماء المواقع القديمة ومنها تل كيف وتل عفر وتل محمد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في