الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاموك- رواية- (15 -21)

وديع العبيدي

2018 / 8 / 30
الادب والفن


الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!


(15)
لم يترك جدّي مالا ولا ملكا.. ولم يرثه أحد في خصلة أو مكانة.. فلاحا كان.. ولم يمتهن أحد الفلاحة.. غاية منية أحدهم حديقة منزلية يستذكر فيها مجدا غابرا.. حاولت أمي تربية دجاج غير مرّة.. وفي كلّ مرة ينحل الدجاج ويموت.. أخي الأصغر هو الوحيد الذي تخصص في البستنة.. وكان على وشك اكمال دراسته العليا.. لولا أن الموت كان له بالمرصاد..
صنع في البيت ماكنة نسج يدوية.. زرع زهورا.. أحضر دجاجا وعصافير ملونة.. لا الزهور أزهرت ولا الدجاج عاش.. عصافير الحب وحدها عاشت وكان يحضر لها حبوبا خاصة.. ولأنه كان قليل المكوث في البيت أيام العطلة.. فقد بقيت ماكنة النسج في منتصف الطريق..
كانت أمي ترعى العصافير.. وتسكت عن موت الدجاج.. وتنصحه بعدم تكرار التجربة.. بعد شهر من موته.. شهر واحد تماما.. بدأت العصافير تذبل وتنحل.. انتبه لها أخي الأكبر.. كان بعضها ميتا فعلا.. فتح باب القفص.. وسمح للبقية بالعودة للفضاء.. بقي القفص فارغا.. بقيت أكياس الدخن لوحدها.. مجرد ذكريات يتيمة لأيام وأشياء لا تتكرر..
والدي كان موظفا.. ينتقل كلّ عامين لمدينة أخرى.. بقينا بلا بيت ولا أرض ولا بستان.. كلّ فرد في العائلة انشغل في هواية أو مهنة يميل إليها.. أنا وقعت قرعتي في الكتب.. وقعت قرعتي في الحرب.. وقعت قرعتي في الغربة.. كتاب يسلمني لكتاب.. وحرب تسلمني لحرب.. وغربة تسلمني لغربة.. لا بيت ولا عائلة ولا وطن.. العقود تعتلج عمري مثل بكرة عمياء.. عندما بدأ اليأس يفترس حافات سنيني انسحبت داخل ذاكرتي.. اعتكفت داخل عقلي.. لم يبق لي أحد في الخارج.. الذاكرة تدور مثل ثور الناعور.. من آخر أيامي عودا نحو الطفولة.. العائلة القديمة التي لم يبق كثير من شهودها..
جدّي هو رأس ذكرياتي.. جدّي الذي مات قبل نصف قرن.. لكنه بالنسبة لي ما زال يعيش في مكان ما.. هناك.. في ذاكرتي.. منذ عشرين عاما وأنا أعاقره ويعاقرني.. إذا انشغلت عنه مدّة.. يزورني في حلم.. مرّات أجده يعرج بقدمه اليمنى.. لم يكن يعرج في حياته.. ربما لم ألحظه يومذاك..
قليلون يذكرون جدّي في العائلة.. وأكثرهم لا يحبّه.. لا يحبّ صرامته وطبيعته الخالية من الابتسام والكلام والمجاملة .. هذا يعطيني امتياز حبّه والانفراد به.. السنوات الأخيرة من حياته ترافقنا جيّدا.. وكنا شبه أصدقاء.. في الأشهر القليلة الأخيرة من حياته كنت الوحيد أشاركه الحجرة.. أضع كتب المدرسة وأراقبه من حين لآخر.. رغم أنه لم يكن يتكلم.. بالكاد كان ينظر لي.. أو يشعر بما يدور في العالم..
في لحظة ما طلب مني والدي مغادرة الحجرة.. كنت أريد أن أسأله لماذا.. طلب مني دعوة جارنا المضمد خزعل الذي كان يزرقه مرّتين في اليوم بدل الطعام الذي توقف عن ابتلاعه.. دخل خزعل الحجرة مع والدي وأغلقا الباب فورا.. بعد قليل انفتحت الباب.. قام والدي بغلق جفني جدّي المفتوحتين وسحب الغطاء على رأسه تماما.. تلك هي شارة الموت.. حضرت أمي للحجرة وبدأت تبكي وتنوح وتصرخ.. لم يأتِ أحد.. أراد والدي أن يجد أحدا يشاركه الرأي عما ينبغي عمله.. صار الرأي تنفيذ وصيته.. دفنه في مدينة أجداده.. لم تكن الأمور سهلة.. في وقت متأخر بعد الدفن.. تحدد مكان مراسيم قبول العزاء.. الرجال في خيمة وسط الحارة.. والنساء في منزل بعيد عن مكان الخيمة.. بعد اسبوع من الدفن اهتم والدي ببناء القبر.. بعد شهر ذهب وخط رقعة باسم صاحبه..
بعد عشر سنوات تم حفر قبر خالي الصغير بجواره.. لكن زيارتهما تبعث على الغربة.. بالكاد كنت أصدق وجودهما هناك.. كان حضورهما في ذاكرتي وحياتي أقوى من أي مكان.. لذلك أنصرف بسرعة.. لا تخالجني أيما عاطفة.. ربما كان قلبي قاسيا يومها.. كنت شخصا آخر.. لكنني أيضا لم أعترف بالموت كمبرر للنسيان أو الانفصال.. العاطفة والذاكرة لا تعرفان الموت والزمن يزيدهما أوارا.. كما يحدث الآن..
في حياة جدّي كانت العوائل تجمتع مرة أو مرتين في العام في بيت الجدّ.. الفرصة الوحيدة التي يلتقي بها الجيل الثالث ويتعارفون.. بعد موت جدّي أبطلت تلك المناسبة.. ولم يظهر أحد يتنكب عمادة العائلة.. لا أحد يسمح بتحويل منزله إلى فندق اجتماع عوائل.. عوائل يتوزعها التنابز والحساسيات أكثر من المحبة.. الحساسيات تبدأ من النسوان ويختفي الرجال من المسرح.. وتنتهي الزيارة بالزعل والقطيعة..
خالي الأصغر كان يحضر من بغداد في العيد.. أمي هي كبيرة العائلة الآن.. يضع رأسه على صدرها.. يقبلها من جانبي وجهها وجبينها.. ويغني في أحضانها مستذكرا تلك الأيام.. كان صوته جميلا.. وكانت أمي تبكي قبل ان يبدأ الغناء..
كل العائلة تدخل في كورس بكاء.. النساء أولا.. الاطفال تاليا.. عندما يتحول العيد إلى مأتم.. يتوقف خالي عن الغناء ويكركر ضاحكا ساخرا منهم.. الانسان يغني ليفرح وأنتم تقلبونها مناحة.. خالي لا يبكي.. هكذا يبدو.. في الواقع أنه أكثر تأثر منهم .. لكني يريد تغيير الجوّ..
بدل اكمال الجلسة يتجه نحو الباب.. ألحق به.. ونخرج من البيت.. يبدأ خالي جولته على بيوت الأقارب بيتا بيتا على القدمين.. حتى لا يكاد يمرّ بيت لا يطرق بابه أو يرفع صوته مناديا من الخارج فيخرجون إليه.. يحتضنون رأسه ويخضبون شعرهم بدموعهم.. الدموع حاضرة في الفرح والترح غالبا.. أحيانا يدخل لتناول الشاي وتبادل حديث قصير ثم يعتذر لاكمال الجولة على الباقين.. أحيانا يتناول قطعة شوكولاته.. وأحيانا يبعث التهانئ من الباب.. في ذلك اليوم الواحد كان يهنئ نصف المدينة تقريبا.. لا أعرف كيف يحفظ وجوههم وأسماءهم وعناوين دورهم.. رافقته مرتين أو ثلاثة..
كان خالي الأصغر محبوبا جدا.. من النساء على الأكثر.. كان اسمه الأصغر.. فهو أصغر العائلة وبقية رائحة الأبوين.. لا يعود عادة للبيت الذي خرج منه.. يذهب الى مدينة أخرى لاكمال التهاني.. قبل أن يعود إلى بيته.. لم يكن قد تزوج يومها.. فقد مات بعد عام من الزواج..
لا أحد يملأ الفراغ الذي تركه ذلك الجيل القديم.. العائلة فقدت رائحتها ودفئها الأصيل.. والحنين والحنان العائلي سحقته الحضارة والتكنولوجيا والمادة.. لا أدري إذا كانت وجبة العيد تحظى باهتمام العوائل هناك.. غالبا لا.. كلّ شيء صار يخضع للحسابات والميزانية.. في زمن الخير والطيبة كان يعيب على أحد التكلم بالفلوس والحسابات.. انقرضت القيم الانسانية تحت سرفات التسليع وبورصة الدولار اللعين.. ليس في عائلتنا ثري ولا فقير.. لم نعرف البحبوحة والترف ولا رأينا الشظف..
في تلك الأيام.. كانت تتكرر مقولة.. ابن الأصول لا يتغير مع الزمن.. لا يبدل أخلاقه مع التغيرات.. أين هي الأصول اليوم.. أين الذين لم يتبدلوا ولم يهصر الحصار أمعاءهم وأخلاقهم.. أكيد ثمة بيئات أكثر محافظة على تقاليدها عبر الزمن..
لكن عائلتنا تغيرت.. وأقول هذا للأسف.. الجيل الثاني يتمرد على الأب ولا يريد أن يعرف الجدّ أو يعترف به.. ابناء الخال والعم لا يميلون للتعارف رغم أن آباءهم وأمهاتهم أخوة ويجمعهم جدّ واحد.. يخرجون من بيت واحد وبطن واحدة ولا يعودون لينظروا في وجوه بعضهم.. أتمنى أن أكون هناك وأقول لهم ذلك.. أتمنى أن تتحوّل العائلة إلى عشيرة متضامنة ويسند بعضها بعضا..
والدي الذي لم يتكلم كثيرا هو الآخر.. قص علينا قصة عصيان الأعواد المشدودة مع بعضها على الكسر.. وسهولة تكسيرها متفرقة.. قصة كانت تتردد كثيرا.. لكننا جميعا نسيناها عند الكبر وأهملناها عند الحاجة.. العائلة بلا رأس.. والعشيرة تفرقت إلى أجنحة وزعامات وخلافات في الرأي.. البلد كلّه تفرق وافترق.. ولم يبق منه غير الذكريات.. الوطن مثل الطفولة.. صندوق ذكريات.. وأغانينا شكوى ونواح وعواطف يتيمة..
الكبار من جيل جدّي لم يكونوا يتدخلون في الصغيرة والكبيرة.. كانت لهم سياساتهم الثابتة والمعروفة للجميع.. ويعرف الجميع أهمية اتباعها والمحافظة عليها لمصلحة العائلة.. عندما يخالف أحدهم وصية.. يختفي من المشهد عاما أو عامين أو ربما للأبد.. ربما ينتهز فرصة العيد للاعتذار والعودة للشمل.. مخالفة الوصايا تعني أيضا الحرمان من المكانة والدور..
الجيل التالي لم يحافظ على مفهوم العمادة والزعامة.. تحولت لديهم إلى وصاية وعبودية.. يتدخلون في أصغر الصغائر.. ويجردون الفرد من رأيه وكرامته.. ومع المدّ الديني في السبعينيات تحولوا إلى دعوتية داخل العائلة وحلقة الأقارب.. يفرضون الحجاب والحشمة وتطبيق الفروض الدينية جبرا وقهرا.. ولا يتوانون عن توبيخ الأكبر منهم بذريعة تطبيق الشرع.. هكذا فقدت العلاقة العائلية دفئها وحضانتها لتتحول إلى مجتمع عبودي.. العلاقات العائلية تحولت إلى منظومة أمنية يخشى أحدهم من وشاية الاخر.. خوف ورياء ورفض داخلي.. هذا الدور تنكبه أخي الأكبر.. تحول البيت إلى جامع ليس فيه غير الفروض الدينية والقراءات والمواعظ.. الكلمة والضحكة والنكتة محظورة.. الحجاب والثياب الشرعية مثل زيّ عسكري داخل وخارج البيت.. يبدأ من الطفولة ولا ينتهي.. في اتصال أخير مع أخي.. صار الحديث عن نزعته الدينية والتيار السائد.. قال هذا غير صحيح.. هؤلاء لا علاقة لهم بالدين الصحيح.. صار الفساد يطبع كلّ شيء.. والحلّ.. ما العمل.. قال ان الحل عند الله.. لكنه قرر الاعتكاف والانقطاع عن الخارج.. أتعبه التفكير والاحباط وأمراض الوراثة.. ولأنه كان محظوظا فقد مات بعد أشهر.. وانتهى من تبعات الفساد..
لم أسمع جدّي يتكلّم في الدّين والأخلاق.. لم يحاسب أحدا على كلمة أو ثياب أو سلوك.. شخص آخر من جيله كان واعظا وعالما.. يزوره الناس في البيت ويسألونه.. ولكن غير قليلين يخرجون من عنده بلا كلمة.. كان ينظر للشخص إذا كان ينتفع بالكلمة أو يستخدمها للمحاججة والمنابزة والتسلط على الناس..
أحيانا يبقى ساكتا أمام السؤال.. لا يهتم إذا كان بعضهم لا يشرب الشاي قبل ايجاب الطلب.. أولئك كانوا يميزون الناس بحسب طبائعهم وتواريخهم.. ويعرفون الشرّير والانتهازي والطماع والملتوي.. من قال أن الشرّ غاب في زمن.. لكن الشرّ يحد بأهل البصيرة..
اليوم يضحك الكلّ على الكلّ.. والشرّير يسود أهل الخير.. والعملة الرديئة تطرد الجيّدة.. الشرّ يعمّ وينتشر.. أما الخير فيضيق وأهل الخير تحاك ضدهم الدسائس والألاعيب.. أبعد عن الشر ولا تجلس في مجلس الأشرار.. هل الزعيم شرّير أم المجتمع.. أم حاشية الحكم وقادة الدين.. الزمان لم يتغير.. لكن العمى زاد وطما الجبن والجهل.. ويقال.. ان الأشياء السيئة تحدث بالجملة.. بعضها يفسح المجال للبعض الآخر.. وهذا ما حصل.. أحيانا يأخذ الفساد مفتاحا ملوّنا وتبريرات منطقية.. كلّ مجتمع يقوم على التبرير، ينتهي للفساد.. التبرير كذب على الذات وهروب من الحقيقة.. وخوف من المسؤولية الانسانية..
ونحن.. منذ دخول الانجليز في بلادنا وحياتنا.. صارت مجتمعاتنا وبلداننا حديقة خلفية لتصريف أمراض الغرب الأخلاقية والاجتماعية.. وليس حاجاته الاقتصادية وهيمنته السياسية غير المبرّرة.. الانجليز بدأوا بمناهج التعليم التي أوصى بها ساستهم وفلاسفتهم.. والأميركان بدأوا بالثياب والمطاعم.. ووصلوا لتغير عقول الناس وأخلاقهم بالانترنت والفيس بوك والهواتف.. التي زادت التحلل والجريمة والفساد داخل البوت والبلدان..
ونحن هربنا من مدن أجدادنا للمدن الكبيرة ثم العاصمة.. ومن العاصمة إلى الغرب.. فوجدنا الكوارث والفساد الذي هربنا منه في بلداننا.. ينتظرنا في الغرب.. لأن الذي أدخل الفساد والكوارث في بلداننا.. هو الغرب نفسه الذي التجأنا إليه.. كثيرون ينهمكون في التجارة وعبادة المادة والمال والذات..
التفكير يتعب القلب والعقل.. ولا أحد يريد أن يغير العالم أو يعترض عليه.. حكمة الكلّ هي الاستفادة من التغيرات واللعب مع الزمن.. ولا بأس أن يجمع أحدهم كل النقائض في شخصه بغير شعور بالتناقض أو الحرج.. التحلل والطمع والدين..
نصف قرن ليس زمنا طويلا لينقلب فيه العالم على رأسه.. نصف قرن.. لا تساوي عمر انسان.. فلاسفة الغرب يعرفون أن الأمل مات والحضارة سقطت واليأس سيد العالم والطريق مسدود.. وأن السياسة والاعلام والدين تجارة كذب.. العلاقات بين البشر في كلّ أنواعها استبدّ بها الطمع والانانية وعقلية الافتراس..
التكرار قاتل في الغرب.. حتى جمع المال والاستمرار في جمع المال.. ومعالجة الازمات المالية بالأزمات وتوجيه التهم للاجانب والغرباء صارت تكرار في تكرار.. ارنو غروين يقول ان اليهود كانوا علكة تصريف الأحقاد والتهم في الغرب.. واليوم تستخدمت الرأسمالية الأجانب واللاجئين في محل اليهود لتصريف أزماتهم وتحميلهم مسؤولية الجريمة والفساد..
لماذا لا تفهم بلداننا هذه الحقائق وتعالجها من الداخل.. لوقف هدر البشر وعدم تصدير أبنائها لأرصفة الغرب المهينة.. علينا أن نعود إلى بلدننا ومدننا وعوائلنا.. والذين لم يخرجوا عليهم التعلّق ببلدانهم وبنائها من الداخل.. بدل خدمة مكائن الرأسمالية والجريمة اليومية.. لا بدّ.. ولكن.. متى..


(16)
أختى هي التي اكتشفت قصيدتي الأولى التي كتبتها وأنا في العاشرة.. عندما كانت تنبش في حاجاتي الخاصة.. لم أكن أعرف أنها تتجسسني في غيابي.. وقبلها لم يخالجني فيها شكّ.. كانت الثقة بالنسبة لي أمرا طبيعيا.. وأن الأشياء بين الناس تجري مجراها في الطبيعة.. فهل يشكّ العصفور في غصن الشجرة.. أم الشجرة تشك في النهر، وأحدهما يتجسس الثاني ويتلصص من ورائه..
هي أكبر مني.. وما زالت هي أكبر مني، بل وأفضل مني.. لكني لم أعرف ثيمة الشكّ والتجسس فيها.. فهي أكثر مني تطوّرا في ميدان الذكاء، رغم أن لي موهبة الشعر وهي بلا موهبة.. بدأت أتردد وأتكتم في أموري أكثر.. لكني لم أهتم بالشكّ والثقة كثيرا. لذلك احتفظت بطبيعتي الفطرية.. وبقيت أخضع لها بلا جدل أو تردد.. فهي لا تفعل السوء ولا تريد بي سوء.. وهكذا بقيت حتى يومي هذا.. لأكتشف خداع الحياة.. وكم كنت مغرّرا به منذ البدء.. أي بدء.. لا أدري.. ربما قبل البدء.. فهكذا تبدأ كلّ الأشياء قبلما نعرف.. وربما قبلما نكون.. وعندما نكتشف.. يكون الماء قد طما علينا ونحن نحاول التعلق بالقشّ.. قصة القشّ هذه ستأتي لاحقا.. وهي مكتوبة في مكان آخر.. الكتابة أيضا هي (قشّ).. والذي يستطيع أن يفعل شيئا لا يحتاج أن يكتب ويفكر ويحلم ويخطط.. أنه يفعل مباشرة..
أختي لا تكتب ولا تهتم بالخط وقواعد اللغة، لكنها تنفذ إرادتها دون مشورة أحد.. تخرج من البيت وتفعل ما برأسها.. ثم تعود منشرحة الأسارير وكأن شيئا لم يكن.. ويمكن للعالم أن يحترق وتنقلب الكرة الأرضية عشر مرّات، أما هي فتبقى طبيعية ولا تفصح شيئا عن نفسها.. وهذه ليست أختي..
أنها لغز المرأة.. المرأة التي اكتشفت متأخرا.. أنها أقوى من الرجل.. وهي الأذكى بالفطرة وهي الأفضل والأبقى حسب دارون.. وليس لنا نحن الرجال غير القشّ والقشور.. غرور الأفكار والتصوّرات والمكافآت اللاحقة لنياتنا الحسنة.. رجال مخدوعين ومغرّر بهم..
كانت قد قرأت سطور القصيدة الأولى لوحدها.. رغم أنني شخصيا كتبتها في العتمة بخط ملتبك غير متأكد من فكّ طلسمه.. ثم قفزت إلى الصالة وأخبرت أمها.. لم تخبر أمها.. وانما وقفت في وسط الصالة وبيدها دفتري المدرسي وتقرأ بصوت خطابي كأنها ميرابو أو القس بن ساعدة.. تعلّمت هذا من كتب الأدب والبلاغة التي كنا نقراها معا..
في تلك اللحظات عدت أنا من الخارج.. وأحسست مباشرة أن تلك الكلمات تخرج مني وتنزع أحشائي انتزاعا.. حاولت انتزاع الدفتر من يدها فلم أستطع.. ولم تنقطع عن القراءة.. قلت لها أن تسكت فلم تسكت.. فدخلت الحجرة ودفنت وجهي في الوسادة وبكيت..
بكيت ولم يهتم لي أحد.. فيما هي تضحك ساخرة.. ربما ما زال ذلك الطفل في داخلي يبكي حتى الان.. ولا يهتم به أحد.. وسوف يبقى كذلك يبكي حتى الأبدية.. بعدما أموت.. سيبقى هو في مكان ما ينشج لوحده يائسا من كلّ شيء.. لمجرد أنه اعتاد ذلك.. ولأن البكاء فعل وجودي باطني.. فهو آخر دلالة على حياة انسان..!
قبل أربعين عاما كنت أستقل قطار الجنوب، وحيدا، غريبا، مرتبكا، للدراسة في الجامعة. لم أكن أحبّ الجامعة، ولا التخصص المعيّن لي، ولكن المضطرّ قطع أرضا..
تلك كانت أول مرة أترك فيها البيت وأبتعد عن العائلة.. وأنا مضطرّ.. لم أكن قد بلغت العشرين.. لا أفكر في مستقبل، ولكني أهرب من الماضي.. ولا يشغلني غير اللحظة.. الآن.. ما يضطرني في ذلك الموقف..
رغم تعلّقي بالدراسة لسوء حظي.. فهي الشيء الوحيد الذي تعلّمته وتعلقت به.. نهاية المراحل الدراسية الاساسية الثلاثة جرت بسرعة.. ولم يعد غير أحد طريقين: الجامعة أو الجيش. وكلاهما يبتدئان بحرف الجيم، وينتهيان بالمجهول.
في وسط سنّ المراهقة، عدت للبيت وفي ذهني جملة: أعدادية المعلّمين. وكانت اعدادية المعلّمين الجديدة تقع قبالة بيتنا بالضبط، لا يفصلني عنها غير الشارع. أما المدرسة الثانوية المركزية التي أدوام فيها فتبعد نصف ساعة عن البيت. ولكن الموضوع لا يتعلق بالمسافة على الأرض، انما بمسافة الزمن، وما بعد الزمن. كان مصير اعدادية المعلمين قريبا جاهزا ومضمونا، ومصير الثانوية بعيدا ومجهولا بكل الحسابات.
والدي كان دمقراطيا، لم يتدخل في الأمر.. والدتي تعرف مهنة التعليم وتقديرها الاجتماعي.. لكن المعثرة كانت في مكان آخر، مكان كان يحتل موضع اعتزازي، ولا أقول نقطة ضعفي.. أقولها بأسف الآن.. تلك كانت أختي.. هي الوحيدة التي اعترضت.. لم تعترض على شقيقي الذي ترك البيت والمدرسة وذهب إلى معهد الفنون الجميلة، اعترضت عليّ أنا.. أنا الوحيد الذي كنت أسمعها.. كلمة الجامعة لم تفارق لسانها، وعلى الفور أقنعت معها والدتي ، وهكذا أحبطت أول رغبة وأول قرار شخصي، تخذته في حياتي..
لم يكن عليّ مطاوعتها، ولا حتى أخذ رأيها أو إعلامها بالأمر.. الأمر يخصني وتلك حياتي.. أنا هو الحمار الذي سيحمل (العليجة) وليس غيري.. لماذا أحمل عليجة غيري.. لا أدري.. هل كان عليّ أن أكون مطيعا ومهذبا، للمحافظة على تلك الصورة البلاستيكية الفاقعة..
نعم.. هذا ما كنت أفكر فيه.. صورتي العائلية والاجتماعية، ولا يقل أحد عني كلمة غير مناسبة..
في كل حياتي كنت أكتم تمرّدي في داخلي، لتبقى صورتي الخارجية (خوش ولد، مؤدب، مطيع)..
ولقد أطعت.. وأطعت وأطعت كلّ حياتي.. أطعت حتى الموت.. حتى كدت أصير مسيحا آخر.. لكني مسيح بلا رسالة.. مخدوع بالرياء الاجتماعي.. مخدوع بخمير الفرّيسيين.. وكانت أختي فريسية.. هي وكلّ من معها..
هل كان للنعمان بن المنذر(*) أن ينوء بخطواتنا الصغيرة ونحن نذهب للمدرسة كلّ يوم، مربكين هدوءه بوشوشاتنا الناعمة وضحكاتنا البريئة.. أم استغفل عمر بن عبد العزيز(*) زرافاتنا المتدحرجة في المسيات الحزينة وأيام العطل المترفة بالكآبة.. ما سرّ الاصرار الغريب على مرافقة النعمان إلى المدرسة ذهابا ومجيئا وعدم مقاربة الخليفة الخامس.. هل كان الخوف أم الكره المبكر للسلطات.. يجعلنا قريبين من الناس.. بين ضجيج مطارق الحدادة ومسدسات الاوكسجين.. ورائحة الخبز المتصاعدة من الأفران..
مسحت صورة دار المعلمين الاعدادية من مشهد الشارع المقابل لبيتنا.. أخرج أعمى من البيت كلّ صباح متوجها للمدرسة الثانوية البعيدة.. أخرج أعمى في طريقي إلى السوق.. وعندما أتمشى مع أصدقائي، ترتسم بقعة سوداء أمام ناظري عندما نحاذي ذلك المكان.. وحتى لا أرى ذلك المكان الأسود، قررت الذهاب الى أبعد جامعة في البلاد.. مدينة بعيدة تبتلعني فلا أرى هذه المدينة ولا البيت ولا تلك البقعة السوداء..
ــــــــــــــــــــــــــــ
* من أسماء الشوارع المؤدية للمدرسة والسوق في مدينة بعقوبا/ العراق.
* النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي الملقب (ابي قابوس) [582- 609م] ملك العراق وعاصمته (الحيرة)، مسيحي نسطوري، ابرش احمر الشعر، ادنى الى القصر في هيئته، وأمه يهودية من خيبر. وهو مقدام ممدوح، باني مدينة (النعمانية) على ضفة دجلة اليمنى. جاء في (صحاح الجوهري): [ان العرب كانت تسمي كلا من ملوك المناذرة بالنعمان، لأنه كان أخرهم.] النعمان بن المنذر من حكام العراق قبل الاسلام، وقد عرفت دولته بالمناذرة وعاصمتها الحيرة/(بمحاذاة الكوفة لاحقا التي تخذها علي بن ابي طالب [595- 661م] عاصمة له [657- 661م]).وكان الحكم فيهم وراثة، وفي سيرة ابن اسحق النوفلي زيادة في المعلومات عن الموضوع.
* عمر بن عبد العزيز [682/ 717- 720م] ثامن خلفاء العهد الأموي [661- 750م]: دعا للعناية بالعلوم الشرعية وتدوين الحديث. عمر بن عبد العزيز من خلفاء العهد الأموي، اتخذ اجراءات وقرارات اصلاحية للعودة بالحكم إلى صفائه الأول.



(17)
(توفيق) هو إسم جدّي.. ولكنّ أيّا من ذريته لم يشمله معناه، ولا هو نفسه.
أنّ (توفيق) ليس صفة، وإنما هو إسم مصدر.. والمصدر لكي يكتسب فاعلية، يلزمه أن يتشخصن، شخصنة المصدر هي النعت.. الثروة والغني لا قيمة عملية لها دون تنعيتها ونسبتها لشخص أو ذات..
الثري هو الذي يمتلك الثروة، والغني هو صاحب الغنى، والناجح هو صاحب النجاح، والموفق هو صاحب التوفيق. أما الكلمة والمصدر فلا قيمة عملية لها، من غير تخصيص.
ربما كان جدّي ضحية إسمه.. مجرد إسم من غير هوية.. ربما أدرك ذلك متأخرا.. جعل أسماء بناته وأبنائه على إسم الفاعل.. حتى اسم جدّتي صيغ حسب إسم الفاعل، صاحب الشيء، ولكن الدالة المجردة غير المنسوبة.. بقيت في جدّي.. وانعكست نسبيا على الجميع.. أولئك الذين ولدوا داخل السجن.. بقوا محكومين بتعاليمه..
جدّي الذي لم يكن الابن البكر ولا الوحيد.. وربما ليس أصغر أخوته.. لكنه انفرد عن الجميع.. والوحيد الذي أعفي من السفربر.. كان رجل العائلة الوحيد في يومه.. كان عميد العائلة والعشيرة والبلدة.. لكنه لم يجعل لنفسه سلطة ولا حاشية.. لم يتزوج نساء ولا خلف ذرية بلا عدد ..
وجد نفسه منذورا لفكرة غيبية.. وسخر كل وجدانه ليخلص للفكرة.. فكرة الغوث/ المدد(*).. الذي لا يضاهيه ولا يوازيه فيض أو أحد.. لكنه لم يخلص الاخلاص الذي يخلصه من قدر محيطه..
بقيت عربة العائلة مربوطة بكتفيه مثل النير.. يجرّها بعضلات صدره التي تستلب طاقة قلبه.. بقي قلبه مؤرجحا بين الغوث والعائلة.. العائلة لم تكن له عونا.. ولا الغوث أيّده.. الغوث انتظره.. والعائلة لم تطلقه ولم تخلص له.. لا العائلة أحبته وسندته.. ولا الغوث أجاره.. رغما عنه صار جدّي بطلا على جبهتين.. كلّ ما لديه هو ايمانه بذاته واعتداده بنفسه.. معلقا بين الأرض والسماء..
كم هم الذين يدركون مشيئتهم وأسطورتهم الشخصية حسب تعبير باولو كويلهو(*).. ليتركوا كلّ شيء ويتبعوها.. جدّي أدرك اسطورته وأمسك بخناق قدر مشيئته.. ولكنه لم يستطع الاخلاص له.. ولا تخلص من كلّ ما يقف في طريقه إليه..
تعليقة جدّي أنه كان ولم يكن.. اسمه توفيق ولكن من غير معناه.. لديه كلّ شيء ولا يملك منها شيئا.. بقي جدّي ينتظر ما/ من يخلصه من حالة التعليق تلك.. حالة المابين.. حالة الفتور والفجاجة.. حال لا حار ولا بارد.. لا قوي ولا ضعيف.. لا بار ولا شرير.. لا غني ولا فقير.. لا في الأرض ولا في السماء..
لكي تدخل التاريخ لابد من قرار.. ولا قرار بلا جرأة.. ولا جرأة بلا مجازفة.. ولا مجازفة بلا خسائر.. لا خسائر بلا تضحية.. ولا تضحية بلا وعي.. وعي الضحية بذاتها.. أو وعي البطل بتبعات بطولته.. هل كان ضعيفا.. هل كان تمسكه بالتقاليد الاجتماعية نقطة ضعفه.. كان يلزمه قرار شخصي ينزعه من حالة التعليق.. تغيير القدر يحتاج إلى ثورة.. ثورة تغيّر كلّ شيء.. وتجازف بكلّ شيء..
ليست وظيفة الثورة تأمين النجاح والتحكم بالنتائج.. وانما كسر المحظورات.. وتقويض العوائق التقليدية.. التي تسجن الفرد والمجتمع.. في سياقات الذلّ والجمود.. أنت يا جدّي لم تكن ثوريا.. وبقيت تجاهد داخل نفسك.. دون أن تتحول إلى مناضل.. بل لم تتطور من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر..
ابنك الصغير.. الغرّ الذي كان في سن المراهقة.. كان ثوريا ومجازفا أكثر منك.. حمل السلاح وتمرد على النظام والحكومة.. وضع روحه وحياته التي لم يدرك قيمتها يومها على كفّ عفريت.. لكنه كان يناضل في اتجاه آخر.. وعندما نكص عن الثورة وأسلم السلاح.. عندما خضع لتقاليد المجتمع وتكوين عائلة عادية مات.. مات ميتة عادية.. مات على قارعة طريق.. وعلقوا على صدره يافطة: (مجهول هوية)!..
هذا الاسم الاشاري المعلق.. غير الحار وغير البارد.. هو سبب عذابك وسبب عذابنا جميعا من بعدك.. أنه سبب عذابي أنا الذي أدفع فاتورة غيابك.. التي لم تستطع تسديدها بحضورك.. نكصت أمام المجتمع.. نكصت أمام الانجليز.. نكصت أمام الحكومة.. صرت تستلم راتبا من الدولة.. أدرت قفاك لكل الماضي وقرار المشيئة والاسطورة .. وبينما أنت في طريق استلامك راتب الحكومة.. مفترحا بالدراهم والدنانير.. جاءت نهايتك.. سقطت في الشارع ولم تبلغ بيتا ولا هدفا.. لا نفعتك عائلة ولا مجتمع ولا حكومة..
لم تستفد من الوقت الضائع.. دورة السنوات التكرارية الجامدة التي انتظرت منك قرارا.. كونت عائلة وهمية.. أنتجت صبية وبنات.. كونت ثروة وهمية واستلمت راتبا وهميا.. وكأنك ما فعلت.. كلّ ما فعلته ألتقمته الريح.. العائلة والبيت والأرض والصيت والأولاد وو.. ماذا.. هل نسيت شيئا.. هل تذكرني بشيء.. ربما أنا.. أنا الوحيد الذي لم أنفصل عنك..
لا أحاول الخروج منك.. ولا أريدك أن تتركني.. لكنك لا تفعل شيئا من أجل خلاصنا.. تلك الفاتورة المعلقة في عاتق ذريتك.. أحملها أنا مثل صخرة سيزيف.. الخروج من حالة الوسطية والتوفيق السلبي.. لا حار ولا بارد.. أريدك أن تسخن يا جدّي وتذيب قيود القدر التي تمنعنا من الانطلاق.. أو تبرد برود الموت.. ونخرج من دائرة الكارما إلى الأبد..
اصعد إلى السماء أو أنزل تحت الأرض.. لكي تزلزلها.. أين أنت!..
ألم تسمع المغني وهو يغني.. دكَـ راسك بكَاع الحبس واصعد امراجَف للدفّ/ أيّام المزبّن كَضن.. تكَضن يا ايام اللفّ(*)..
نحن ما زلنا في أيام اللفّ والتكرار يا جدّي.. ما زلنا بغير قرار ولا.... مجرد خرزات عمياء في مسبحة الأيام والسنين.. التي تلف وتلف ولا تتعب.. الخرزة أيضا تتعب عندما تشعر أنها مجرد خرزة.. لا تستطيع أن تفلت من المسبحة..
كلّ هذا بسببك يا من لا حار ولا بارد/(*).. لم تبق في البيت ولا ذهبت للحرب.. لا صرت مع الناس ولا ركضت مع الحكومة.. حرّمت على نفسك وعلينا السياسة والتجارة والعسكرية والمقاولات.. لا صرنا فلاحين وناسا عاديين.. ولا كنا ضباطا وتجارا وشيوخا..
بقيت في حلقتك البكتاشية(*) لا تصعد مع الدفّ ولا تنزل للأرض.. لماذا لم تسخن.. باحة بيتك كانت كبيرة جدا.. لكن الحلقة تجتمع في الباحة الخارجية أمام المنزل.. تأتلق الأضوية وتتلامع الشعل وتتبارى الرماح والسيوف والنبال وصيحات المدد.. كثيرون يصعدون وكثيرون ينزلون.. وأنت لا صاعد ولا نازل.. لا حار ولا بارد.. فاتر.. وما زلت فاترا رغم كلّ السنين الطويلة.. ماذا يخرجنا من فتورك..
أنا نفسي صرت فاترا مثلك.. لسنين طويلة كنت أعتبرك.. مثالي وطريقي الذي أنهج عليه.. اعتبرت فتورك فلسفة، ووسطيتك حكمة.. كرهت الجيش والسياسة والجهاد والمقاومة ورفعت عيني إلى ما بعد السماء أنتظر المدد..
حاربت عشر سنين بلا قضية.. ورفضت أن أصير ضابطا لأحفظ ضميري من التلوث.. وعندما خرجت من الحرب.. أو الحرب هي التي طردتني منها.. رفضني الجميع.. الجميع يا جدّي.. حتى أنت.. هل تذكر!..
أنا نادم يا جدّي.. هل تسمعني.. أقول أنني نادم على كلّ شيء فعلته حسب طريقتك.. ونادم على كل ما لم أفعله.. كنت أعتقد أن رفضي بطولة.. الآن أكتشف أن رفضي أن أكون مثلهم كان جبنا.. كثيرون وقفوا على بابي.. كثيرون مدّوا لي أيديهم.. كل الفرص جاءتني ورفضت.. وأزاء كلّ منها كنت جبانا أو غبيا.. لكنها لم تكن بطولة ولا نزاهة.. لقد ضاع كلّ شيء.. وها أنا الآن أوّل المتهمين.. تهمتي أنني لم أفعل.. تهمتي هي رفضي لكلّ فرصة..
ماذا أقول لك.. حتى هنا.. في أرض الخلاص الوهمي.. جاءتني الفرصة.. بل الفرص.. قبل أن تذهب الفرصة لأحد .. جاءت بين يديّ.. فرصة الذهاب قبل الآخرين.. بلوغ الشوط والهدف قبل أن يبدأ الكلام في أي شيء.. لكنني كنت غبيا أولا.. وجبانا أيضا.. وهذا كلّ ما حملته معي للمنفى.. المنفى الذي انتقل من الخارج إلى الداخل.. من الجغرافيا إلى الذات.. أنا الآن منفي خارج نفسي.. لا أعرف طريق العودة إلى ذاتي..
وقد بلغت الستين من بعدك أنتظر المدد.. ولا مدد.. ستون عاما من الفتور ولم أبلغ الدرجة الحرجة.. هل تعتقد أنني أقاتل أفضل منك.. لماذا تنكص عن حربك وتبيع قضيتك وتنتظر من ذريتك أن يكملوا الجهاد الذي لم تكمله.. أنت تركت حياتك ناقصة.. ووسمت كل أقدار حيواتنا بالنقص والتهميش.. أريد أن أسخن الآن.. ولا أقع في الطريق ملعونا براتب الحكومة يا جدّي..
تنقلت في أربعة بلدان حتى الآن.. بلدان لا تتشابه ولا تختلف.. لا يجمعها شيء ولا يميزها شيء.. الناس هم الناس والوجوه غير القلوب.. والقلوب غير الوجوه.. وكثيرون منهم اختاروا أن يكونوا بلا قلوب.. أتكلم مع طرشان وأسير مع عميان.. معهم أنا وحيد وبغيرهم أنا وحيد..
أعيش داخل ذاكرتي وأتحاور مع ذاتي.. أهرب من بلد لغيره.. ومن ناس لناس.. وكأني أقلب أوراق عملة رديئة.. تلك العملة التي صارت تحكم كلّ شيء.. وأنت استلمت العملة وسقطت في الشارع.. كيف يمكني أن لا أتحول مثلهم.. عملة رديئة ممسوحة الملامح.. عملة يصادق البنك على صلاحيتها.. ماذا تبقى أيضا ولم يمسخه الصمت والفتور..
لكن.. إذا كنت أنت لم تعرف كيف تسخن.. فكيف أسألك العون.. إذا كنت تبادلني نظرات صامتة عندما نلتقي فكيف تمدّ لي يد العون.. علّمني الخروج من سجن قدرك.. أو الخروج منك.. أو الخروج عليك.. لا أريد أن أتركك.. ولكنني أكره البقاء على ما أنت عليه.. تعال معي لنخرج من سجن الأيام والسنين ونحترف الثورة.. نحترف أو نحترق سيّان..
أنت متّ وبقيت ذكرى.. وأنا على وشك الموت والتحول إلى ذكرى.. دع الذكرى تتحول إلى نار ونور.. دع الغيث يتحوّل إلى لهب واللهب إلى صعد.. اكسر المصاريع ليأتي المدد.. كلانا سنكون أقوى.. ثمة جيل ثالث ورابع ينظر إلينا ببلاهة ولا يعرف.. لا يعرف قصتنا.. لا يعرف ما هو فيه.. ولا يعرف ما يأتي عليه.. أنا وأنت نعرف ونرى ونقدر..
اخرج من صمتك.. لا تترك وصيّة.. ولكن قل كلمة.. أمنح بركتك لمن يعقبك..
أنا خلافك لم أصمت.. تكلمت.. كلامي ذهب بعيدا.. لكن القريبين لم يسمعوه..
أنا ما زلت أتكلم حتى اليوم. والقريبون لا يسمعون.. ولا يريدون أن يسمعوا.. والبعيدون يسمعون ولا يسخنون..
البعيد صار قريبا والقريب صار بعيدا.. والأدوار تتبادل.. الشرق في مكان الغرب.. والغرب في مكان الشرق.. الأهل في مكان الغرباء.. والغرباء في مكان الأهل.. المعادلة لم يتغير طرفاها.. الحال هي الحال..
متى يسخن الهواء.. متى يسخن ظهر العالم.. متى تتزحرح أسوار أريحا.. ويخرج الناس إلى البرية.. تخرج الروح من محدودية الجسد..
ليتني أجد خلاصا لروحي.. ليكون خلاصك فيّ.. أنت الذي لم تقدر أن تكون لي خلاصا!..
ـــــــــــــــــــــــــ
• (غوث، مدد، فيض).. من الاصطلاحات الصوفية.
• (لا حار ولا بارد).. عبارة انذارية وردت في رؤيا يوحنا (رؤ3: 15- 17) الى كنيسة لاودكيا في الاناضول: "أنا عارف أعمالك، لست حارا ولا باردا، ليتك كنت حارا أو باردا، هك-ا، لأنك فاتر، ولست حارا ولا باردا، أنا مزمع أن أتقيأك من فمي. لأنك تقول اني انا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي الى شيء، ولست تعلم أنك الشقي والبائس، فقير وأعمى وعريان!".
• باولو كويلهو مواليد البرازيل (1947م) قضى سنوات في دير رهبان قبل أن يهجره وينطلق للكتابة الروائية، أشهر أعماله (الخيميائي)/(1988م) التي ترجمت الى ثمانين لغة. روائي وكسب منها صيتا عالميا. أقام دور عناية بالاطفال المشردين في البرازيل من عمر عمر الحضانة حتى السادسة عشرة، يتلقون فيها الرعاية الكاملة والتأهيل المهني لتكفل حياتهم العملية الخاصة، ويتم تمويلها من ريع اصداراته.
• البكتاشية نسبة إلى حاج بكتاش ولي [1209- 1271م]/(ثمة رأي يررجح موته في 1337م) درس المولوية والنقشبندية وقام بمزج الحنفية بالافلاطونية المحدثة والتصوف الفلسفي الاوغسطيني الذي شكل منطلقا لتياري الفراشسكان والبندكت في القرن العاشر الميلادي في الاندلس الاسبانية وسادت في فرنسا وايطاليا ومنهم توما الاكويني. وصل تركيا في عهد السلطان العثماني الثاني اورخان بن عثمان بن ارطغرل [1281- 1362م] مؤسس الجيش العثماني والقوات الانكشارية. وكان لحاج بكتاش دور في رسم سياسة التعليم والتربية والتأهيل العقائدي لمنتسبي الجيش، وبشكل تحول إلى ثقافة اجتماعية عامة وفرقة صوفية. وقد ارتبطت الطريقة البكتاشية بالجيش العثماني أساسا، وانتشرت من خلاله.
• من قصيدة للشاعر مظفر النواب- مجموعة الريل وحمد.


(18)
بين وادي العوسج وإسمي أكثر من تشابه لفظ.. والعوسج الذي لا أعرف معناه هو لقبي المحذوف.. فاتخذت بدلا عنه لقبا لا أعرفه أيضا.. في وسط قيظ ظهيرة صيف في ساحة الميدان ترددا أكثر من مرّة.. حتى أخبرت والدي بصدور كتابي الأول.. حسبت أن تكون مفاجأة سارة له.. لم تكن مفاجأة ولا سارّة.. ولا أعرف كيف كان يعرف كلّ شيء.. سألني: لماذا تقول لي ذلك؟..
- ألا يهمّك أن أصدر كتابا.. أول كتاب في تاريخ العائلة والعشيرة..
- من يعرفك حتى يعرف كتابك؟..
- كيف من يعرفني....
- كيف أقدم كتابك للناس ومن أين يعرفون أنك أبني؟..
- لكني اخترت هذا الاسم.. ربما مصادفة..
- لا قيمة لاسم بغير اسم الأب والعائلة..
- ألا تأخذ نسخ من الكتاب..
- لا تلزمني....
خلال ذلك كلّه لم ينظر نحوي.. كان العرق الداكن يسيل على أصداغنا.. والباصات المتحركة ذات الطابقين كأنها صناديق جحيم متحركة.. أزيز محركاتها يبعث على التقيؤ..
ليس والدي فقط.. عيون الجميع تفرستني بقنوط يابس كأنني أتيت فريا.. الابتسامات نشفت.. العيون تصحرت.. الكلمات تخرج مثل الدبابيس.. كيف اتفق الجميع في هذا الأمر.. لماذا الشرّ يوحّد القلوب بسرعة البرق.. كتمت أمري في نفسي.. وأعددت كتابا ثانيا للنشر.. كتابا آخر لا يحظى بابتسامة أو تهنئة أو فرحة صغيرة.. اليتيم أنجب طفلا.. فخرج يتيما مثل أبيه.. بعد أربعين عاما يقول أحدهم أنه يتابع كتاباتي.. أحد من الجيل الثاني أو الثالث.. أما الجيل الأول فما زال يخزن دبابيسه تحت لسانه..
لا أعرف إذا كانت ساحة الميدان دائرية أو مربّعة.. لكن المؤكد أنها ليست مستطيلة.. لا أعرف إذا كانت كذلك أيضا في أيام الملك عندما قامت الحكومة بتأميم المباغي وأنشأت في الميدان دائرة المبغى العام.. يقف على بابها البوليس.. ويتفحصون هوية الزبون.. وشهادة السلامة الصحية.. أين كان مكانه بالضبط.. ولماذا لا أراه هنا بدل باصات الجحيم الحمراء هذه..
[لا تنظروا لي لكوني سوداء.. لأنّ الشمس لوّحتني.. بنو أمي غضبوا عليّ.. جعلوني ناطورة العوسج.. أنا سوداء لكني جميلة.. في الليل على فراشي طلبت من تحبّه نفسي.. طلبته فما وجدته.. وجدني الحرس الطائف في المدينة .. فقلت أرأيتم من تحبّه نفسي.. فما جاوزتهم إلا قليلا حتى وجدته.. وجدت من تحبّه نفسي فأمسكته.. أمسكته ولم أرخه.. حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي.. اسيقظي يا ريح الشمال.. وتعالي يا ريح الجنوب.. هبّي على جنّتي فتقطر أطيابها.. ليأت حبيبي إلى جنته.. ويأكل ثمره النفيس]-(*)..
لم أسأل والدي يومها.. والحرب مشتعلة على الحدود.. لماذا أعطاني هذا الاسم.. ولم يتركني على اسم أمي.. لم أقلْ له أن التأليف مهنة أكثر صعوبة من الغناء.. صيت المؤلف غير صيت المغني.. لم أفصح له ان الغناء هو الغناء.. في مصر كما في لبنان.. فلماذا يكون إسمي مشكلة سياسية أو قومية.. كنت أتمنى أن يقول لي أحد ذلك ويجيبني عن كل الأسئلة التي حملتها لوحدي.. وأضع لها أجوبة من نفسي بعد مضيعة السنين.. هل هذا عمر أم عربة يجرّها حصان أعور.. لماذا أنا العوسجة الوحيدة التي قذفتها أمواج العائلة وتنكر لها الجميع.. الجميع من كلّ الأطراف.. كأنني نزلت من سفح بعيد.. أنا الآن أيضا في بلاد بعيدة.. غريب عن كلّ شيء وعن نفسي.. ولكني أعود قريبا لأحتضن موتي.. موتي سيكون مناسبة سعيدة لعودة الاجتماع القديم.. هكذا نحن لا نجتمع إلا في مناسبات الموت.. ولا تظهر عواطفنا إلا في مسابقات العزاء.. لقد حاربت في كلّ حروبكم.. ودفعت فواتير كلّ هزائمكم.. وأنتظر لحظة الحكم الأخيرة لاعلان هزيمتي على الملأ..
ما من تحرير أقسى من تحرير اللفظ من المعنى.. وتحرير الشخص من ذاته.. التحرير الذي يحيل كلّ منتجات الحضارة إلى سوق خرده وسكراب على قارعة الزمن.. ليس ثمة عبودية أجمل من عبودية العائلة.. أفراد العائلة قطع غيار ملونة في فاترينة المنزل.. ها نحن عبيد وسعداء.. انظروا إلينا يا يتامى واغتاظوا.. لأنكم لا تعرفون ما نحن فيه من هناء..
أخرج من ردهة عقلي.. وأمدّ رأسي من شباك الطابق الأول منتظرا رشحة هواء بارد.. أو صوت محرك سيارة صغيرة.. تندفع مع ارتفاع مستوى الشارع.. أنا أعيش رهين أفكاري.. وأفكاري أسيرة النكد الذي لم يترك بلدا أو لغة.. أبحث عن تحرير ينتشلني من عقلي وذاتي.. إذا كانت الذات تصنع الحدود فالذوبان يلغيها..
قبل أن يموت أخي الذي لم أعرف بموته إلا متأخرا.. أفصح لي عن رغبة نفسه.. تلفوناته الأخيرة هي الوحيدة التي لم يتحدث فيها في الدين.. طلب مني أن أبحث له عن زوجة تقية تكون له سكنا ووطنا.. جاء ذلك بعد انقطاع طويل كالعادة.. كان الأمر مفاجئا لي.. كثرت اتصالاته وتكرر طلبه.. نفس الطلب..
تكرر الطلب .. تكررالاتصال.. أقلعت عن رفع التلفون.. لم أخدعه بكلمة جميلة أو أمل كاذب.. لم أستطع مراوغته .. بقي التلفون يرنّ.. يرنّ.. أنظر إلى الرقم.. أغادر الحجرة إلى الحديقة.. أترك البيت إلى الشارع.. أفكر في طريقة لمساعدته أو تحقيق حلمه من غير كلام كثير.. هل أفهم فعلا ما يقوله..
في تلك السنة.. ربما في الصيف أو الخريف.. كان قد مات.. هل كان ذلك حلم والدي أيضا.. الحلم الأخير والمتأخر بعد فوات الأوان.. حلم يتسلى به المرء وهو يتقدم من عتبة الانتقال من الوجود.. حلم يراودني أنا أيضا منذ زمن.. مجرد حلم مستحيل.. لكنه جميل..
مسكين هو الانسان.. يولد رغما عنه من امرأة.. وعندما يصل خط النهاية.. يريد أن يتسلح بامرأة تحمله إليه.. هل تعرف المرأة معنى هذا.. هل تدرك سرّ مأساة الرجل.. الطفل الذي لا يريد فقدان طفولته.. ولا الخروج من حضن أمه.. تأخذ المرأة رجلها إلى بيت أمها والحجرة التي حبلت أمها بها.. لكنها لا تمنح الرجل ما تراه من حقها.. وللنكاية في الموضوع.. جعل الغرب للمرأة حقوقا مضاعفة.. لتأكيد هزيمة الرجل.. رجل بلا امرأة لا يصنع ثورة.. والعولمة عالم بلا ثوار.. عالم أسواق ونساء.. بين ألف رجل وجدت واحدا.. وبين كلّ النساء لم أجد امرأة.. امرأة فاضلة من يجدها.. إذا كان سليمان ابن بتشبع الحورية ضحية هذا السؤال.. فعبث هو البحث من بعد سليمان.. أية امرأة تستحقك يا أخي بعد هذا العمر.. ثمة امرأة واحدة فقط تأتي مع الحلم.. لكنها لا تتجسد.. أنا وانت وأبي وسليمان وجدّي وكل الأنبياء واليتامى ضحايا من لون واحد.. أيوب أيضا كان ضحيّة.. ولكن وعي الجلاد أقوى من وعي الضحيّة.. لا قيمة لوعي بلا فعل.. وشكرا للموت.. لأنه فعل..
ـــــــــــــــــــ
* من سفر نشيد سليمان/(أكثر من موضع)..

(19)
ع م، بين نونين.. عين من العمى وميم من الماء.. خسفت بهما الأرض وارتفعت السماء.. عم وعمر.. يلتقيان.. في ساحة الأمين.. عم وعمر وأمين.. وزحمة البساتين.. تحملها أمّ النوى.. مدرسة تصدّرت مرابع السنين.. تخرج الجميع من صفوفها، ولم يعد يشدّهم منها سوى الرنين.. رنين هاتيك السنين.. يهرب من أمامها أبناؤها.. ويركض الرقاع في أعقابها.. أمّ النوى، أرملة جائعة.. حافية عارية.. وكلّ من ينظرها يشيح عنها وجهه..
قد أكل الزمن من إهابها.. وانتشر الأغراب في أحيائها.. وكلّ من يسألها.. عنها وعن أيامها.. تشدّ شعر رأسها في الأرض.. والكلام... يخونها.. جميع من يعرفها.. أوّلهم أبناؤها.. أمّ النوى.. تمدّ للكلاب ثديها وتعلف أبناءها الكلام والحجر(13 فبراير 2005م)
ركبت القطار.. محتشدا بمشاعر وآلام.. مثل شخص مطرود.. مخدوع.. مغرّر به.. وهذه الكلمة الأخيرة كانت تتردد كثيرا في وسائل الاعلام يومذاك.. نعم.. مغرّر به.. أتمنى أن تدبّ الحياة في سكك الحديد فترتفع للأعلى وتشق الفضاء وتخرج عن خطوطها الجامدة التي رسمها الأنجليز.. بعد نسفهم الخطوط التي رسمها الألمان من قبلهم، وذلك قبل ولادة جيلنا المنحوس.. أعني جيلنا المغرّر به..
يومها نسيت أختى تلك القصة.. وانشغلت بنفسها والعناية بشبابها، وملاحظة الشباب الذين يسيرون وراءها أو يلقون كلمات غير بريئة.. ما أن تدخل البيت وتلقي حقيبتها، حتى تعود تتلصص من شقوق الباب أو الستارة.. من كان يتبعها وأين ينتهي به المطاف.
أما أنا فكنت مستودع أسرارها، وذراعها اليمنى في كلّ شيء تخطط له.. حتى عندما تكذب، تستخدمني شاهد زور عند الحاجة.. وكنت أؤيدها دون معرفة بالأمر أحيانا، ما أن أدخل البيت، حتى تستنجد بي.. إذا لم تصدقوني اسألوه، فهو يعرفني ويعرف كلّ شيء عني.. وكنت أبصم مغمض العينين.. فعلا كنت أعمى.. أعمى ومغرّر به.. لماذا كنت منحازا لها لذلك الحدّ.. لا أدري.. لكنه ليس أمرا طبيعيا.. ولكم كنت مخطئا.. وضعت نفسي تحت وزر الكذب والذنب والاثم من أجلها.. ولأمور لا تستحق الذكر..
كانت هي شقيقتي الوحيدة.. لم يكن لها أخت.. وكانت تبكي وتقول ليس لي أخت.. ليس لي صديقة أتحدث إليها.. وهكذا، قررت أن أكون (أختا) لها.. أقاسمها همومها وانشغالاتها وأقرأ معها دروسها وأشاركها واجباتها المدرسية وامتحاناتها، أمسك لها الكتاب أو القصيدة لتتأكد من حفظها، أوجه لها الأسئلة لكي تتأكد وتستوثق من إجاباتها، وهي للعلم تقرأ بصوت.. فأسمعها رغما عني، ويومها لم تكن في بيتنا غير حجرتين، ونقضي طيلة النهار في الصالة..
عندما تحتاج كتابا من احدى صديقاتها أكون أنا السفير حامل الرسائل.. عندما تذهب لاستلام نتائج الامتحان، أنا الذي أرافقها، وعندما تقصد محلات البوتيك لشراء حاجات خاصة.. أكون انا المرافق لها فوق العادة..كلّ ذلك كان لا بدّ أن ينتهي وأغيب من أفق البيت العائلي.. والألم الذي يهتصر أحشائي..
بدأ أخي يشترك في مسرحيات وتمثيليات تلفزيونية، وانا أواصل دراستي.. أنا الابن المطيع.. لم يعترض أحد على تمرّد أخي ودراسته للفنون.. لم يستأذن أحدا في تمثيله أدوار الجنون أو العوق.. وإطالة شعر رأسه متشبها بالفنانين العالميين.. وفي كل ما أراد لم يستأذن أحدا.. ولم يعترض عليه أحد.. فعل كلّ ما أراده..
وأنا لم أفعل شيئا أردته ذات يوم. كنت أستأذن، فيصدر الفيتو، وبقيت طفل العائلة، ليس في الجامعة، ما بعد ذلك.. وما خفي كان أعظم..
قضيت الفصل الأول كلّه دون مراجعة البيت.. بدأت أحترف الوحدة والغربة.. في نهاية الاسبوع تتعطل الدراسة، والزملاء يسافرون.. وأنا أبدأ في قياس أبعاد الشوارع، وتحديد نقطة الحرارة القصوى خلال النهار، وانتقاء أرخص المطاعم وأقربها إلى طبخ أمي.. أقرأ كتب الدراسة من أول العام لقضاء للوقت.. أراقب الناس والطيور والساحات والشبابيك، بشكل شبه يومي، لأخلق علاقة شخصية نفسية مع المكان وأحرق بجاحة الغربة..
هناك أحببت الناس.. أحببت المطاعم الشعبية والباصات الخشبية والطبقات الشعبية، وبائعات الألبان والخبز الريفيّات أو البدويّات.. لكنه بقي حبا طفوليا.. وطيلة الجامعة بقيت طفلا ولم أكبر.. ولا أدري لماذا لم تغرّر بي واحدة من بائعات الخبز واللبن والسمك.. لماذا لم يحدث شيء يغير قدري، ويوقظني من براءة الطفولة التي بقيت موصولة بالأم والأخت.


(20)
عندما فتحت اللابتوب قابلني تاريخ التاسع عشر من مايس، رغم أن تاريخ اليوم يتجاوزه بيومين.. ماذا يهم.. كلاهما رقم فردي.. اليوم فردي والشهر فردي.. فردي على فردي تكون النتيجة زوجي.. وهذه هي بالضبط معادلة ميلادي.. أعني شهادة ميلادي التي بقيت بدون معادلة.. مثل شهادتي الاكاديمية التي لم تنفعني في شيء.. حتى لم تحظ بالتعليق على جدار في بيت أهلي.. وبقيت من غير صورة جامعية واحتفال خريجين، يباركنا فيه ممثل عن رئيس الجمهورية..
أعني الحكومة جعلت احتفال خريجينا على الساتر الامامي.. أعرف انك – ربما- لا تدرك معنى الساتر الأمامي.. لكن لا يهم.. اعتبره كلمة أجنبية أو لغة سومرية قديمة.. رغم أن السومريين لم يخوضوا حربا.. جمعوا حروبهم ودفعوها لقائد ضرورة دفعها لهم من اعمارنا.. هنيئا للموتى.. فقد سجّلوا أسماءهم في سجلات سومر.. اما (ولد الخايبه) أمثالي فقد عبروا البحار والتلال وأكملوا مشوارهم لدفع بقية فواتير العولمة..
أعني الرأسمالية التي انتصرت على الاشتراكية بنتيجة (10-0) في مباراة ودّية كان فيها الفريق الروسي مخمورا بقيادة المخمور الرقم (1)، وكان حامل الرقم (13) هو حامي الهدف غوربي. وكان غوربي يخاف على خريطة العراق المرسومة على جبينه الأيمن، فيزيحها كلما رأى الكرة.. فتدخل بسلام في المرمى الموسكوفي بسلام..
قمت بتسديد حصتي من فواتير أبي ناجي وأم ناجي وأولادهم فردا فردا حتى الذين لم يولدوا بعد، وعندما وجدت بقية دم في عروقي.. وأنا طبعا.. شخص صاحب دم وعلى خلق.. كما يقول عادل امام في المسرحية(*).. وأنا ايضا حياتي مسرحية ولكن من غير مستقبل..
سجّلت في جمعية (اس او اس) لأتبرع بالدم في كل فرصة وألبي كل نداء إغاثة وغير إغاثة.. حتى جمعيات الرفق بالحيوان تبرّعت لها بالدم.. وملأت استمارة في مصحة الأرملة فيكتوريا للتبرّع فيها بكلّ اعضائي الصالحة للتداول لمن لديه رغبة في اللحم العربي..
سجلت اسمي أيضا في مشروع الموت المنظم.. لكني لم أستلم ردّا للآن.. مع ذلك فأنا عضو في منظمة البيوهيلث ومرتين في السنة.. أملأ استمارة الكترونية لتقديم كلّ ما يرونه من معلومات عن شخصي، فأنا موثق بشكل جيد في منظمة الصحة الدولية، وهم يكرّرون انهم حافظو أسرار درجة أولى، ولا يطلع عليها غير شركائهم وجمعيات الصحة والأدوية المعنية بتطوير الأمراض والأبحاث البيولوجية.. وهذا أيضا لا يهم.. أنا يهمني أنا أبقى مطيع وخوش ولد حتى الموت.. لان اسمي له علاقة باسم المسيح.. وأنا واهو ولدنا في يوم فردي وشهر فردي.. الاختلاف بيننا فقط في العام.. ولو كان العام عندي فردي لذهبت مبكرا فوق السحاب.. ولم أتأخر لأرى كرنفال نيويورك ولا احتفالات المغول في بغداد.. المهم أن عندي هوية تبرع بالدم ووثائق عضويتي في وكالة الصحة القومية ومنظمة الصحة العالمية.. وهذه أفضل من جمعية سومر وأرض نهرين والمحاربين القدماء من ولد الخايبه..
التاسع عشر من الشهر الخامس الذي مرّ قبل يومين كان يوما مضطربا.. ويبدو أن ابولو الذي يدير بيده قرص الشمس كلّ يوم.. اضطرب هو نفسه او ربّما كان مخمورا جرّاء ليلة ماجنة أو أي شيء آخر.. ابتدأ من منتصف الليل بمطر وعواصف شديدة.. وأبولو ليس من اختصاصه المطر ولا العاصفة.. والفجر تأخر بشكل ملحوظ.. وأنا لم أنم تلك الليلة بسبب ألم ضايقني في صدري.. وكانت الكبسولة التي زرعها المستشفى الفيكتوري قرب ثديي الايسر بارزة بشكل مقزز فوق سطح الجلد.. والألم داخل الحنجرة.. الهواء لا يمرّ بسلام.. فاضطررت لمراقبة النافذة.. واعتقدت أن العاصفة هي مركبة ايليا التي ستحملني بين لحظة واخرى.. وكان مجرد هذا التفكير يمنحني سعادة لا توصف.. سعادة المركبة السماوية.. قد يكون هذا سبب تأخر ابولو في الذهاب إلى عمله.. لأن العربة التي يستقلها للصعود الى قرص الشمس تم استعارتها لغرض اخر.. ربما من غير أذنه.. الليلة التي سبقتها كنت أقود طائرة.. نعم طائرة واحدة.. كنت واقفا على شاطي بحر.. واقفا وأنظر كما يقف جميع الناس وينظرون سباق قوارب أو أي سباق.. المهم ينظرون.. وأنا أيضا كنت أنظر ولا أعرف أي شيء.. كانت روحي تخرج وأنا واقف وأنظر.. تخرج روحي وتأخذ هيئة طائر.. لا أرى الطائر.. أرى طائرة تغوص في البحر غير بعيد من الساحل الذي أنا واقف عليه.. تغور وتغور وتغور.. وأنا أنظر وأقول هذا سباق طائرات وليس سباق قوارب.. لكن الطائرة في الماء تصير طائرتين ولم أفكر في تلك اللحظة.. في عزازيل.. لكني أعتقد أن الطائرة الثانية كانت لايليا الذي يعلمني على الغوص العميق.. فكرة الغوص هذه لها علاقة بأمي وقد شغلتني قبل يومين منه.. المهم أن الطائرة غاصت وارتفعت.. ربما لم يكن ثقب في قاع البحر تعبر منه كطريق أقصر.. في المرة الثانية تكررنفس الشيء.. كنت أنظر وقلت أن الموضوع عادي.. ولكن في منتصف الطريق حدث شيء.. توقف قلب الطائرة التي فيها أنا.. أقصد روحي.. أصبحت الطائرة من غير وزن ولا اتجاه.. قلت في هذه الحالة سترتد الطائرة نحو الأعلى.. لكن الطائرة المترنحة في وسف المسافة داخل الماء سقطت نحو القاع.. بقيت تغور وتغور.. والطائرة الثانية اختفت.. ولا أعرف بعدها أي شيء..
المطر العنيف توقف أخيرا.. لكن العاصفة استمرت بشكل متقطع.. وأنا أعرف العاصفة من أصوات الصفائح التي تخرج عويلا مرعبا خلال الليل عند مرور الريخ خلالها.. ربما بسببه أيضا لم أجد هواء كافيا يمرّ داخل حنجرتي.. عندما ظهرت الشمس.. لم تظهر شمس.. أقصد النهار كان خجولا كما يقال في القصص.. نهار خجول.. وأنا اعتقدت أن النهار ما يزال لم يبدأ.. وبقيت في الفراش.. ولكن رقاص الساعة هذه المرّة كان يشير للتاسعة.. وهذا لا يناسب كمية الضوء التي تراها عيوني.. طيلة نهار التاسع عشر من مايس كان النهار خجولا مضطربا.. والنور منحسرا الا بقدر يجعل الناس يذهبون للعمل والطلبة للمدارس..
في مثل هذا النهار الخجول المضطرب كان وصولي إلى العالم.. ولنفس السبب لم تكن كمية كافية من الهواء في حنجرتي فازرقّ لون جلدي وصار قراري العودة من حيث أتيت.. ولكن لأسباب قاهرة لم تنجح الخطة فتوقفت عن التنفس واستمرت زرقة جلدي.. هذا ما قالته لي امي.. وهو ما نقلته للدكتور الصيني المطبق.. بقيت اسبوعا أحلق في العدم.. لا الأرض تمنح تأشيرة دخول.. ولا السماء تسمح بعودتي لبيتي السماوي.. هكذا هو الآن.. وهكذا عشت كل حياتي.. أي المدة التي أعيشها على الارض.. وأتنفس الهواء الذي لا أراه..
لا أعتقد ولم أشعر يوما.. أنني أنتمي للمكان الذي أنا فيه.. ولا الناس المحيطين بي.. حتى أهلي لم أشعر أنهم أهلي.. ولا أذكر مرة فيها عانقني أحد من أهلي.. العناق الوحيذ الذي عايشته عندما كنت أغادر البيت أيام الحرب.. ولم أستطع تفسير ذلك.. ولكنه مجرد طقس تقليدي.. حتى العدو يعانقك في تلك اللحظة.. مثل أي سفر قد لا تعقبه عودة.. لكني في كلّ مرة خذلت الجميع وعدت كما أنا.. المرّة الوحيدة استغربت العناق عندما فتحت عيني ووجدت نفسي في حضن أمي وأختي ولا اعرف كيف حصلا ذلك..
كان الاثنان يضعان ذراعيهما تحت راسي وكل يسحبني نحوي ويتأرجحان وهما يبكيان.. أنا كنت في مكان أبيض.. أبيض في كلّ شيء.. فوق وتحت وكلّ ما يحيطني أبيض وأنا أحلق بسعادة وأنظر حوالي رغم أنه لا شيء غير البياض.. عندما فتحت عيني بعد مرور زمن طويل.. كنت ملقيا على أرضية الحمام والباب مفتوحة.. والبخار الساخن يملأ خياشيمي.. منشفة ملقية على نصفي الأسفل ورأسي مرفوع بين أختي وأمي وهما تبكيان وتنوحان..
ربما كان والدي وأخي قد ذهبا لتحضير مراسيم الدفن أو الجنازة.. ونحن يومها في بلد غريب.. لا أدري أين يدفنوني.. وهذا أيضا كما الآن.. حيث أنا في بلد غريب.. ولن تخصص أي حكومة عولمية طائرة خاصة لنقل جثماني الى البلد الذي سقطت فيه..
عندما فتحت عيني ضحكت ساخرا منهما.. قالت لي أختي معاتبة: لماذا فعلت بنا هكذا.. ألا تعرف أننا نحبك وانهمكت في بكاء أشد.. أنا زعلت.. حقا زعلت.. ليس لأني عريان.. ولا بسبب البرد والباب المفتوح.. وهو في بيت باكوف الدائري ملاصق لباب الخارج..
زعلت لاني عدت للحياة وتنفست الهواء الذي لا أراه ولا أحبه.. وكانت تلك المرة الثالثة التي يتكرر فيها ذلك الشيء.. أنا أعرف.. أنني مرفوض من تاريخ الأرض.. وأنا لا مكان عندي هنا.. ولكني كلما أخرج من الأرض أجد الباب الثانية نحو العدم مغلقة.. فأبقى أحلق وأحلق وأنتظر وأنتظر وأعود مثل ابن خايبه للأرض..
وأنا يؤسفني إزعاج عالم الأرض.. ولكن أنا نفسي بلا إرادة.. لذلك أحاول ترك بعض المعلومات لمن يعاني حالتي ولا يجد علاجا.. لأنني مزمع ايجاد علاج قبل إنهاء روايتي هذه.. والمنفعة هي كلّ ما يسعني أن أفعله طالما فشلت في عمل الشرّ..
هذا تعلمته من زرادشت المحظوظ أكثر مني لمرتين.. أولا أنه مات مبكرا.. وثانيا لأنه وجد من يقتله من بين أعز أقاربه.. وهذه نعمة لا تقع بيد غير الأنبياء والصالحين.. فعندما يكون البرزخ مسدودا والطالع خائبا تحتاج لطالع مختلف يدخل على الخط ويد تدفعك في البرزخ حتى ينفتح وتعبر للجانب الثاني..
حالتي الوسطية البين-بينية هذه لها علاقة بكثرة الأحلام التي تدهمني في الليل.. وأحيانا حتى خلال النهار.. وأنا رأيت وأرى أشياء كثيرة لا يخطر لكثيرين رؤيتها أو تصورها.. ومن ذلك أني رأيت كلّ أهلي الموتى.. وعشت معهم وتحدثنا وحدثوني عن أشياء كثيرة كما لو كانوا ما زالوا في الارض.. وأحيانا نتحدث وأنا أدرك أننا موتى وأنا معهم..
وذات مرة أخذني والدي إلى المكان الذي هو قبري.. وأنا دخلت القبر وهو بقي خارجا مثل مرشد سياحي.. ولكنني عندما وضعت قدمي داخل القبر أعطاني نضدة قماش من نوع فاخر وجميل.. لم أمسكه بيدي.. فوضعه على التراب.. وكان لون التراب مثل هذا الذي في الارض.. تماما.. فقلت له.. لن أبقى هنا.. لابدّ من تعمير المكان وتحسينه..
في نفس اللحظة خطرت لي فكرة أن بناء مكان جديد أفضل من إعمار مكان خرب قديم.. وبسبب هذه الجملة أنا ما أزال هنا حتى ينتهي بناء مكاني الجديد.. فلا يعقل بعد كلّ هذه الحياة أن أنام في تراب بليد بارد.. وأترك الثلج.. أقصد الورد الأبيض الذي أراه دائما في أحلامي.. وأنا أحلق ولا أشعر بشي غير التحليق والنظر في البياض.... بطارية اللابتوب تتخافت بسرعة وأخشى أن ينطفئ فجأة قبل حفظ العبارة الاخيرة.. ومصدر الكهرباء غير قريب.. الأفضل أن أعود بعد قليل.. وبعد قليل لن تروني أيضا..
ــــــــــــــــــــــــــ
• عادل امام (مواليد 1940م- المنصوره/ مصر)، من مسرحيته الشهيرة (شاهد ما شفش حاجه/1976م)، وهي ابرز حدث ثقافي الى جانب (مدرسة المشاغبين/1973م) و(الزعيم/1993م)، قدمت قراءة عميقة للمرحلة التي مهدت لمشروع الالفية الامريكاني الساري.

(21)
أحسست بحرقة في الزاوية الخارجية للعين اليمنى، حرقة عمودية، مثل ينبوع يغلي ويبدأ يتدفق نحو الخارج.. خيط من ألم يسحّ.. لم أمد يدي لأمسحه أو أفركه.. بقيت أنظر باستقامة للأمام لأنسى الألم.. ومن غير شعور أغمضت عيني بسرعة.. مرة واحدة واختفى الألم.. لماذا العين اليمنى.. هل تختلف فسيولوجيا احداهما عن الأخرى.. هل هو مجرد عرض عصبي.. ما علاقته بالعوامل النفسية.. أية عوامل تؤثر في اليمنى.. وأية عوامل تنعكس في الجانب الأيسر.. هل كان القدماء على حق في طريقة تفسير انفعالات كل عين على حدة؟.. لماذا كانت معلومات أسلافنا التراثية أفضل من معلومات أطباء زمننا..
أستطيع أن أقول أنني حزين.. وبحاجة لبكاء عميق أو حضن حميم.. ولكني وحيد.. وحيد.. وأقرب الناس إليّ.. هم مجرد ذكريات أو أحلام تحضرني في النوم.. مايا حبيبة فعلا.. وأنا أحبها وأحنّ اليها كلّ يوم.. كلما أشعر بالوحدة.. لكنها نرجسية جدا.. ومزاجية جدا.. والحبّ عندما يكون درجة ثانية أو ثالثة.. يفقد مفعوله..
ان الطرف المستقبل يحتاج الحبّ أو الحنان بنفس القوة الأولية التي يحتاجها الطرف المعطي.. هي لديها أكثر من أحد.. وأنا بالنسبة لها –لاعب- احتياط، أو قطعة غيار عند الحاجة.. أنا ليس عندي أحد.. شخص وحيد.. وعندما تتعامل معي أو تحتاجني أعطيها كلّ الأوّلوية.. ولكنها لا تعاملني بالمثل.. أنها تعطيني من فضلة الحب..
عندما تتمشكل مع أحد تلجأ إليّ.. هذا يجرحني.. وصار يؤذيني.. حتى الأكل الذي تتذكرني به أحيانا.. من بقايا عشاء البارحة أو فطور الصباح.. عندما تغيب تمنح نفسها عشرين عذرا.. أما أنا فتعاتبني بشدّة.. لمجرّد أنني بلا مشغوليات..
لم أعد أهتم في التقرب من أحد.. فلا أحد يعطيني الأولوية.. كثيرون مصابون بالنرجسية.. سيما المرأة التي تهتم بشكلها ورشاقتها ولون بشرتها وتسريحتها أكثر من حياة انسان.. الحبّ الذي كنا نسمع ونقرأ عنه.. هو أدنى للخرافة اليوم.. تطور مفهوم الحبّ من حاجة إلى سلعة إلى وسيلة لاستغلال المحتاجين/(سديوز أند أبيوز).. مدخل سهل للدخول في حياة انسان وسرقته من الداخل..
تعجبت مؤخرا عندما قرأت كتابا عن الـ[siduce]، وأسفت أن تنتهي (العواطف الانسانية) بتلك السهولة ولأغراض تافهة.. ان الخجل عامل مهم ليكون المرء انسانا.. بدون الخجل لن يتورع عن شرعنة كلّ شيء، حتى لو كان لمجرد التسلية أو تمضية الوقت.. هذا ما لا يفعله الحيوان..
[الزمن صاير بغي.. واحنه نرجع قهقري.. تكيّف وسايس الدنيه.. لا تكَللي وطني.. شوف لك حد بالطريق.. وكَول أنك تعرفه.. ولو سأل أصلك وفصلك.. كَول سابق معرفة.. غير اسمك.. حرّفه.. كَول اسمك مصطفى.. بدل اصلك.. زيّفه.. كَول عيسى ابن هشام.. عاد يذرع أرصفه..!
ولا تكَول اصلك وفي.. هاي ما عادت صفه.. يرد منك يشتفي.. كَول اصلك فهلوي.. تضحك وتطعن كَوي.. ولو يلاويك الزمن.. ذراع غيرك يلتوي..
وانته من اهل المدارس.. وكَول اوكي.. مثقفه.. تمسكن بساعة الحيلة.. وكَلب غيرك عطفه.. هاي لندن موش دلهي.. تدري لندن معرفه.. اليقع محد يشيله.. ولو طلع صار اجنبي.. الفلس امك وابوك.. بغيره تصبح منشفه.. تكيف وسايس الوادم.. ولا تكَلي وطني!.. صير عيسى ابن هشام..]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد