الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا .. لمشروع الدستور الجديد / 1

محمد بن زكري

2018 / 8 / 30
حقوق الانسان


بالنظر إلى ما يسود البلد ، و يعصف بوجوده دولةً و شعباً ، من أحداث واقعٍ شديد التأزم و التعقيد ، صار واقعا مفتقدا تماما ، لأبسط شروط التوازن السياسي أو الانتعاش الاقتصادي أو الترابط الاجتماعي أو الاستقرار الأمني أو السلام الأهلي ؛ جرّاء الانهيار التام للدولة بكل مؤسساتها ، و بخاصة تفكك المؤسستين العسكرية و الأمنية ، و فوضى الصراع الهمجي على السلطة ، من أجل وضع اليد على المال العام ؛ و ما صاحب ذلك من استعانة أطراف الصراع بالميليشيات المسلحة ، و من ثم خروج تلك الميليشيات عن السيطرة ، و تحولها إلى جيوش قبلية و تشكيلات جهادية - سلفية - شبه عسكرية و مجموعات من المرتزقة بالزي العسكري ، تتبادل الاحتماء و الحماية مع الأجسام السلطوية (ساقطة الشرعية ، و فاقدة الأهلية ، و المنتحلة للصفة) ، التي قفز أعضاؤها إلى مواقع اتخاذ القرار ، قادمين إليها من المجهول ، مدفوعين بقوة العصبية القبلية أو بقوة المال أو بالمحاصصة ، فرفضوا مغادرة الكراسي ، تمسكا بما يوفره الموقع (القيادي) من امتيازات خيالية .. قرروها لأنفسهم ، لا وجود لها إلا في المجتمعات المتخلفة المقهورة ، فارضين أنفسهم - خارج القانون - كسلطات أمر واقع ، تتنازع شرعية زائفة و باطلة بالمطلق .
و مع الانبعاث القوي لتيارات السلفية الإسلامية الوهابية و المدخلية المستوردة من مملكة آل سعود ، و المتقاطعة أيديولوجيا مع جماعة الإخوان المسلمين ، المتغلغلة - حزبيا - في كل مؤسسات الدولة ، و بخاصة في منظومة التعليم .. إدارةً حكوميةً و مناهجَ دراسية ، و منظومة شؤون الأوقاف .. إدارةً رسميّةً و منابرَ جوامع ؛ و من ثم تَمكُّن تيار ما يسمى اصطلاحا بالإسلام السياسي ، من إحكام السيطرة الفكرية و الثقافية (أيديولوجياً) على الشارع ، قبيل و أثناء و غداة انتفاضة فبراير الشعبوية العشوائية ، و ما نشأ تاليا من تحالف بين الإسلاميين و الكومبرادور و الليبراليين الجدد ، على قاعدة تقاطع المصالح فيما بينهم اقتصاديا وسياسيا ، لملء الفراغ الذي أحدثه تصدع هيكل النظام السابق ، دون تصدع النظام في حد ذاته ، كبنيات و علاقات اقتصادية و اجتماعية و سياسية و ثقافية ، هي في جوهرها بنيات محافظة رجعية ، لمجتمع متخلف ، و نظام حكم استبدادي تابع و مرتهن بالكامل لقوى و آليات اقتصاد السوق ، شروعا في تطبيق مشروع ليبيا الغد النيوليبرالي ، تكفيرا عن دعاوى الاشتراكية و الثورية ، التي ما كانت أصلا إلا مغامرة قفز بهلوانيّ في الفراغ ، و دخانا بلا نار .
لم يكن متوقعا إذن ، و الحال العامة هي كما سلف التوصيف ، أن تنتهي صياغة مشروع الدستور الجديد للدولة الليبية ، إلى غير ما انتهت إليه فعلا من نتيجة معيبة ، في مسودة أبريل 2017 ، كما نوهت إليه في مقال سابق http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=608996 ؛ حيث غلب على مشروع الدستور الجديد ، طابعٌ من الماضوية و الأدلجة و المغالبة ، و جاء انعكاسا للواقع (الظرفي) المعاش على الأرض ، و تعبيرا عن علاقات القوى ، مختلة التوازن - آنيا - لصالح تحالف قوى الاستغلال و الشد إلى الوراء و التبعية للخارج ، و ترسيما قانونيا ، لواقع هيمنة ثالوث الكومبرادور (الوكلاء التجاريون) و الكهنوت (شيوخ السلفية الإخوانية و الوهابية و المدخلية التكفيريون) و النيوليبرالية (التكنوقراط المعاد برمجتهم راسماليا في مختبرات غسيل الأدمغة بالغرب) ، على السلطة و الثروة و مواقع اتخاذ القرار ، حاضرا و مستقبلا ، مرة واحدة و إلى الأبد . كما سنبين ذلك ، من خلال تناول بعض مواد مشروع الدستور المقترح ، بالكشف عن بعض نقاط التفخيخ و الدس في صياغاتها . و أزعم أني أطرح وجهة نظر ، تتقاطع في نقاط مفصلية - هنا أو هناك - مع طيف واسع من الرأي العام ، على النحو التالي :
المادة (2) الهوية و اللغة
في النص : " ... وتعتبر ليبيا جزء من (الوطن العربي) و أفريقيا و (العالم الإسلامي) و منطقة حوض البحر الأبي مكاني ض المتوسط " .
في ما يؤخذ على النص : ليس ثمةَ مِن وجودٍ لكيانٍ أو إقليم جيوسياسي ، في الجغرافيا السياسية للعالم ، اسمه (الوطن العربي) . و ليس ثمة في الجغرافيا الطبيعية لكوكب الأرض ، حيّزٌ مكاني أو كيان محدد في القانون الدولي ، اسمه (العالم الإسلاميّ) ، تمييزاً له عن (عالَم مسيحي أو عالَم بوذي أو عالَم وثني) ، حتى يصح أو حتى يجوز استعماله في التعريف - دستوريا - بالدولة الليبية . فما يسمى بالوطن العربي ، أو ما يسمى بالعالم الإسلامي ، لا أساس (قانونيا) له في الواقع الإقليمي و لا في العلاقات الدولية ، و هو ليس أكثر من تركيبٍ اصطلاحي لفظيّ ، قد يصلح للاستخدام في الأدبيات الأيديولوجية ، للعروبيين أو للإسلاميين ، الذين لا زالوا على مشارف العشرية الثالثة من القرن الواحد و العشرين ، (يؤمنون) بأوهام الأمة العربية ، و الأمة الإسلامية ، و لا زالوا (يعتقدون) بإمكانية استعادة الإمبراطورية العربية (الأمويّة) من ذمة التاريخ ، أو إمكانية قيام الخلافة الإسلامية السادسة ، في عصر العولمة ! لكن أيّاً من المصطلحين (الوطن العربي ، و العالم الإسلامي) ، لا يصلح أبدا لحشره في وثيقة دستورية ، تؤسس لبناء دولة وطنية ديمقراطية عصرية ، و لو بالحد الأدنى .
و تجدر الإشارة هنا ، إلى أن دستور المملكة الليبية المتحدة (دستور 1951) ، لم يتضمن في فصله الأول ، الخاص بتعريف شكل الدولة و نظام الحكم فيها ، أيَّ ذِكرٍ لمصطلح (الوطن العربي) ، و لم يظهر هذا المصطلح إلا في المادة (3) من دستور المملكة المعدل (دستور 1963) ، بصيغة " المملكة الليبية جزء من الوطن العربي و قسم من القارة الأفريقية " ، وذلك تأثرا بالمد العاطفي العروبي للموجة الناصرية ، في مستهل النصف الثاني من القرن الفائت .
كما نصت نفس المادة على أن " اللغة العربية لغة الدولة " ، و هو ما يتنافى مع حق كتلة وازنة من اللييين / الأمازيغ في دسترة لغتهم الأم (اللغة الليبية) الناطقين بها . و هي اللغة الأصلية الأصيلة لملايين الليبيين / الأمازيغ المُعرّبين لسانيّاً (الناطقين بالعربية) ، بخلاف اللغة العربية التي تعتبر لغة وافدة . ثم إن النص بصيغة قطعية على أن " اللغة العربية لغة الدولة " ، يصادر تَعسُّفا حق الليبيين / الأمازيغ الناطقين بالعربية ، في أن يكون لمن يشاء منهم خيار استعادة لغته القومية الأصلية (تمازيغت) مع احتفاظه بلغته العربية المكتسبة ، خاصة و أنهم يشكلون الأغلبية الساحقة من السكان (و بالذات أغلب الغرب الليبي) ، و هي لغة مكتوبة منذ آلاف السنين ، أما التارقية (تماجغت) فإنها لهجة من لهجات اللغة الليبية (تمازيغت) ، و هي مرجعية أساسية لِمَعيَرة اللغة الليبية (أي : الأمازيغية) . هذا فضلا ركاكة الأسلوب الإنشائي في صياغة النص ، و ضعف التعبير السقيم " اللغة العربية لغة الدولة " ، و الأدق تعبيرا هو أنها " لغة رسمية للدولة " ، و الفرق شاسع بين التعبيرين . كما يؤخذ على نص المادة أنها لم تستخدم مصطلح " الأمة الليبية " .
و يلاحظ أن دستور المملكة بنسختيه (الأصلية و المعدلة) ، تجنب أولوية النص على لغة الدولة ، تحت الفصل - أو الباب - الأول ، الخاص بتعريف (شكل الدولة و نظام الحكم) ، خلافا لما حرص عليه مشروع الدستور المقترح ، في نصه على لغة الدولة ، تحت الباب الأول ، الخاص بتحديد (شكل الدولة و مقوماتها الأساسية) ؛ حيث نقل دستور 1951 النص على لغة الدولة ، ليضعه تحت الفصل العاشر ، الخاص بالولايات ، و نقله دستور 1963 إلى الفصل الحادي عشر ، الخاص بالأحكام العامة ، لتنص المادة 186 من كلا الدستورين على أنّ " اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة " ؛ حيث يظل الأمر مرهونا بظروفه ، و بالتالي يكون دستور المملكة أخف وطأة من مشروع الدستور المقترح في مسودة أبريل 2017 .
و فيما يتعلق بدسترة اللغة ، تجدر الإشارة إلى أن الدستور السويسري ، نص في المادة (4) منه ، على أنّ " اللغات القومية هي الألمانية ، والفرنسية ، والإيطالية ، والرومانشية " . و ذلك بالرغم من أن اللغة الرومانشية - بلهجاتها المتعددة - لا ينطق بها في كل سويسرا ، سوى أقل من 0,8 % من إجمالي نحو 8 ملايين مواطن سويسري ، و يتركز معظم الناطقين بالرومانشية في كانتون غراوبوندن . و نصت المادة (18) على أن " يكفل الدستور حرية استخدام أية لغة " ، من اللغات القومية الأربع ، ثم عاد الدستور السويسري ليؤكد بالنص في المادة (70) فقرة 1 ، على أن " اللغات الرسمية في سويسرا ، هي الألمانية و الفرنسية و الإيطالية . اللغة الرومانش هي أيضا لغة رسمية للاتحاد عند التخاطب مع المتحدثين بهذه اللغة " ، و نصت الفقرة 5 على أن " يدعم الاتحاد الإجراءات التي تتخذها مقاطعتا جراوبوندن وتسينو للحفاظ على اللغتين الرومانش " .
فأين هي إلغائية و أُحادية و ديماغوجية مشروع الدستور الليبي الجديد ، المقترح في مسودة أبريل 2017 ، من ديمقراطية و توافقية و عقلانية الدستور السويسري ؟!
على أن الأمر يصبح أشد خطرا على مصير حقوق الإنسان و المواطنة ، و أكثر مدعاة للريبة و القلق ، و أوجب للاعتراض و الرفض ، من قِبل الأمازيغ .. ناطقين و مستعربين ؛ مع نص المادة (193) من مشروع الدستور المقترح ، التي تحصن المادة (2) تلك ، المعيبة : ديمقراطيا و وطنيا و إنسانيا و حقوقيا - و مثلها المادة 6 - تحصينا مطلقا ، ضد أي تعديل ، و ذلك بالنص على أنه : " لا يجوز المساس بالمبدأ الذي تقوم عليه المادة الثانية من هذا الدستور ..... ، إلا بغرض تعزيزها " ! ما يعني أن القصد هو إلغاء الهوية و الإبادة الثقافية ، حيث يكتسب النص هنا (في المادة 2) صفة القداسة و النهائية ؛ الأمر الذي يتنافى بالمطلق مع أبسط حقوق الإنسان الأساسية و حقوق المواطَنة ، و يتناقض مع مبادئ الديمقراطية .. حتى في صورتها البدائية .
و أود - ختاما - ألّا يفوتني التأكيد القاطع ، بأوضح العبارات ، و بما لا يدع مجالا لأي لبس أو سوء فهم ؛ أنّ التناقض الأساسي ، في صياغة مواد الدستور الجديد ، كما في كل مفردات الحياة العامة المشتركة ؛ ليس أبدا بين شرق ليبيا و غربها (أو إقليم برقة و إقليم طرابلس الغرب) ، كما يحاول أن يختبئ وراءه أصحاب المصالح الطبقية الخاصة ، من رافعي شعارات المظلومية الجهوية . و ليس أبدا بين الليبيين الناطقين بما تبقي من اللغة الليبية (الأمازيغية) و الليبيين الناطقين بالعربية ، كما يحاول التلطي وراءه الشوفينيون ، أصحاب الأجندات الانتفاعية و التطلعات الاستحواذية ، في الطرفين . و ليس أبدا بين المواطنين المسلمين البسطاء و المواطنين العلمانيين حاملي مطلب الحرية للجميع ، كما يحاول الإسلاميون المؤدلجون المتواطئون مع قوى الاستعمار الجديد ، التعتيم عليه بنقل الصراع من الأرض إلى السماء . بل إن التناقض الأساسي و الحقيقي و العميق ؛ هو بالتحديد ، بين ملايين الفقراء و المفقرين و محدودي الدخل ، ضحايا سياسات الإفقار و التجويع و انتهاك الكرامة ، في كل بقاع الجغرافيا الليبية .. و بين حِلف الكومبرادور و الإسلاميين و النيوليبراليين (من كل البقاع و الأصول الليبية) ، الذين يشكلون الطبقة الاستغلالية التربحيّة الحاكمة ، المرتبطة ارتباط تبعية ، على قاعدة تقاطع المصالح الخاصة ، بين الراسمالية الطفيلية المحلية ، و الراسمالية العولمية الاحتكارية في عواصم دول الاستعمار الجديد .
يُتبع .. الجزء 2








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط