الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سمير أمين: وحدة النضال الإيديولوجي والالتزام السياسي والانتاج العلمي في سيرة شيوعي أممي(4)

عبد المجيد السخيري

2018 / 8 / 31
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


الاتجاه الراهن للفكر البرجوازي الوحيد

يتخذ الفكر الوحيد في الزمن الراهن شكل "ليبرالية جديدة معولمة" مزهوة بانتصاراتها وثقتها العمياء المفرطة بنشاط السوق الخالص وقدراته على تنظيم ذاته بذاته، بالرغم من أنه، كما رأينا، يترك لتدبير الرأسماليين لأزمات النظام حرية التصرف واللجوء عن الضرورة إلى خدمات الدولة والمؤسسات العمومية لإنقاذه من الفوضى والانهيارات، كما حدث في أكثر من "أزمة مالية" في أشد الرأسماليات تطرفا. وبالطبع لا يجد الفكر الوحيد حرجا في تبرير انتهازية الرأسمال بما يقع تحت تصرفه من أفكار مستعارة و"وصفات أزمة"، بينما يدرك منظروه جيدا أن ما يروجونه من مقولات بشأن السير التلقائي للسوق الخالص(إطلاق حرية الأسواق وتركها تعمل من تلقاء نفسها) وقدرته على ضبط "الحياة الاجتماعية المعاصرة بصورة مقبولة"، يناقض واقع الممارسات الاقتصادية التي تعتمد فعليا على تدخل قوى خارجية تضبط فعل الأسواق تحت ضغط الصراع، تماما كما تفضح الممارسات الاحتكارية لقوى المركز، والمؤسسات الدولية الخاضعة لحمايتها، المديح الزائد لمزايا المنافسة. إلا أن الفكر الوحيد يتعامى عن هذه الحقائق ويمعن في ترسيخ مقولاته باعتبارها "النواة الصلبة لللإيديولوجيا المهيمنة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة"، يقول سمير. وغالبا ما تعبر هذه الإيديولوجيا عن نفسها بذلك الشكل المتطرف في ظروف استثنائية حين يختل ميزان القوى لصالح الرأسمال (بالداخل)، وللقوى الكبرى في مركز النظام على الصعيد العالمي(بالخارج). وهذ الشكل من الإيديولوجيا المهيمنة، الذي وصفه سمير ب"إيديولوجيا الاقتصاد السياسي"، لا يستقر دائما على نمط الليبرالية الطوباوية، بل يضطر للتكيف مع التحولات حتى يؤمن لنفسه الفعالية اللازمة لأداء وظيفته في إعادة انتاج المجتمع. وفي هذا السياق يميز سمير بين ثلاث مراحل انتقالية مرت منها الايديولوجيا المذكورة، أخذت في الأولى شكل الليبرالية الوطنية، وفي الثانية شكل الاجتماعية الوطنية، ثم في الثالثة شكل الليبرالية المعولمة(نقد، 91).
وإلى جانب "ما بعد الحداثة" أنتج العالم المعاصر ما وصفه سمير بشعوذة الاقتصاد "الصرف" أو "الخالص" الذي يحرص على تقديم نفسه في ثوب علم موضوعي، بينما هو في حقيقته أشد أشكال الإيديولوجيا البرجوازية ابتذالا تجهد في "إثبات أن السوق تفرض نفسها كقانون طبيعي ينتج "التوازن العام" الأفضل ويؤمن الصيغة الأمثل اجتماعيا"(نقد، 127). وعن هذه الشعوذة المعاصرة يتولد تصور يرى في المجتمع غابة لمنافسة شرسة بين الأفراد المتروكين لحريتهم، وهي على غرار شعوذة الماضي تؤدي وظائف مماثلة في المجتمع "المستلب اقتصاديا"، وتستخدم "وسائط مشابهة أهمها اللغة الباطنية لتي لا يفهمها إلا الخاصة"(نقد، 126)، ومن ثم فالاقتصاد الصرف المزعوم يؤدي وظيفته الإيديولوجية بفعالية حين يعمل على شرعنة النظام الرأسمالي ك"مرداف للعقلانية"، يؤكد سمير.

"الأمريكانية"، إيديولوجيا الامبريالية الفائقة والجامحة

تدفع شيخوخة النظام الرأسمالي إلى مفاقمة المزيد من العنف في مواجهة معارضيه في المركز والأطراف. فالتوسع العالمي للنظام يفرض على سلطاته المسيطرة في المركز التدخل الدائم في بلدان الأطراف، ليس فقط بقوة قوانين الاقتصاد، وإنما أيضا بخوض حروب دائمة وتصعيد النزعة العدوانية وتمجيد العسكراتية. وهذا التوسع بطبيعته لا يختلف عن مراحله السابقة بتوسله التدخل العسكري، كما حدث مع العراق، والمكمل لدور المؤسسات المالية المكلفة بإدارة النظام الامبريالي العالمي، ليس لأجل ضمان "حرية الأسواق" فحسب، وإنما لتكريس هيمنة مراكز النظام الرأسمالي وضمان احتكاراته في كل القطاعات والمجالات.
ومن جهتها تعمل الاقتصادوية، كخطاب إيديولوجي مسيطر في الفكر الاجتماعي البرجوازي، على إشاعة فكرة تداخل الديمقراطية والسوق بما يجعل الاختيارات السياسية تتوافق مع الاختيارات التي يتيحها السوق، والمتوافقة مع مصالح الرأسماليين. فالديمقراطية تصبح حقا مقصورا على الذين يملكون، ولتفادي خطر الانفجار الذي يتهدد الرأسمالية نتيجة التوسع في مطالب الديمقراطية، تعمد الطبقات المسيطرة على إفراغ الديمقراطية من كل مضمون ضار ومهدد للسوق، وتحويل ممارستها إلى "ديمقراطية منخفضة الدرجة"( الفيروس، 53)، تبقي على منطق خضوع الديمقراطية للسوق في شكل "تداول للسلطة" حيث التصويت الانتخابي عديم التأثير في السياسات، وحيث تغيير الأشخاص على مستوى الحكومة (وليس في السلطة) لا يغير من جوهر السياسات الخاضعة للسوق.
وعلى المستوى الخارجي تبرز الأمركة، أو "الأمريكانية" كنزعة استحواذية واستفرادية بقيادة الامبريالية العالمية، بوصفها عملة رمزية للتفوق الرأسمالي توازي، أو بالأحرى تترجم وتكثف قوة وجبروت الدولار في الاقتصاد، والطغيان العسكري في مجال العلاقات الدولية. وهي تمديد لما يتميز به المجتمع الأمريكي من اشباع جماعي بقيم القوة والتفرد والعظمة الجنونية، وهو المجتمع الذي يمجد الحرية الفردية ويحتقر المساواة بين الطبقات إلى درجة أنه يعتبر اللامساواة "رمزا للنجاح الذي تحققه الحرية". وبمثل ما يؤدي نفي المساواة إلى أقصى أشكال الوحشية والعنف، كنتيجة منطقية لتمجيد الحرية الفردية على حساب مصالح المجتمع الكلية، كذلك يقود الشعور بالتفرد والعظمة إلى رفض المساواة مع باقي الأمم وتبرير الهيمنة والعدوان على الشعوب ونهب خيراتها بالقوة أو التهديد باستخدامها عند الضرورة، والتغطية على كل ذلك بمفاهيم وشعارات غريبة مثل "الأمن القومي" و"السلام الدولي" وغيرها.
وتواكب الإيديولوجيا الأمريكانية منطق تراكم الرأسمال وتختلق كل الذرائع لحمايته، بقدر ما تعمل على إبطال نمو الوعي الطبقي والسياسي لدى الطبقات الشعبية بتعزيز إيديولوجيا النجاح الفردي والهوية "الطائفية"، ما يقوي حظوط سيطرة اليمين دائما، ذلك لأن اللامركزية على سبيل المثال، بما يرتبط بها من تعدد المرجعيات تساعد على تقوية سلطة الأعيان المحليين وتعزز روح "الطائفية". وليس من قبيل الصدفة أن نجد في فرنسا أيضا أن سلطات المناطق الجديدة اتجهت في أغلب الأحيان نحو اليمين مقارنة مع ما يتم التعبير عنه على المستوى القومي( الفيروس، 81).

وبعد

ليس ما أدرجناه ضمن هذه الورقة بقراءة نسقية في منجز الراحل سمير أمين الأساسي. هذا ليس لا المكان الملائم بالنسبة إلينا لعرض هكذا قراءة، ولا الوقت الذي يتطلبه إنجازها بمناسب ويسمح بذلك. فمادة القراءة وحدها تستغرق العشرات من المؤلفات والمداخلات قدمها سمير على امتداد ستة عقود من العطاء الفكري والنشاط النضالي والانشغاله الأكاديمي. وما حرصنا على تمريره في هذه الورقة، على هامش حدث رحيل المفكر والمناضل العالمي الكبير، لا يعدو تذكيرا بأهم القضايا التي شغلت تفكيره في السنوات الأخيرة من عمره، انطلاقا من كتابين سجاليين في الأساس، هما "نقد روح العصر" و"الفيروس الليبرالي"، لعل قارئا غير مواكب أو على غير اطلاع جيد بأعمال الراحل، يجد فيها ما يحفزه على الرجوع إلى المتن لاكتشاف جدة الفكر ،عمق النظر ،خبرة السنين وصدق الرؤية، وقبل كل شيئ نزاهة وإخلاص رجل عاش ومات شيوعيا أمميا حالما بغد أفضل للبشرية، وبعالم خال من الاستغلال الطبقي والعنف والحروب والأمراض...

هامش
- سمير أمين، نقد روح العصر، ترجمة فهمية شرف الدين، الطبعة الأولى، 2003، بيروت، ANEP دارا الفارابي، ص: 26 . ( في النص باختصار: نقد، ورقم الصفحة).
-سمير أمين، الفيروس الليبرالي، الحرب الدائمة وأمركة العالم، ترجمة سعد الطويل، الطبعة الأولى، 2004، بيروت، ANEP دارا الفارابي( في النص باختصار: الفيروس، ورقم الصفحة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا