الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقطة في مسار أو حينما تلتقي الموت والحياة !!

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2018 / 9 / 1
الادب والفن




سرت عبر طريق جبلية وعرة، ذات مسار شائك تلفه أشواك 《العصفر》إبرها حادة ولاسعة، بينما لونها الأصفر يحيل على الأفول/ الموت، وهذه الأشواك تنتشر انتشارا مرعبا وسط الصخور البركانية السوداء المترامية، كنت أحمل قنينة ماء، كنت أعبها بين حين آخر تحت شمس صيفية قائظة، كانت تحرق وجنتاي، بينما الأشواك كانت تلسع رجلاي المنحشرتين بين صندل بلاستيكي افتكه الزمن افتكاكا، صعدت ما يزيد عن مئتي متر فوق سطح البحر، اعترق جسدي وانقبض صدري بعد هذا العناء الطويل، إنه العياء، أو لأقل الحياة القاسية التي لن يعرف معناها غير القرويين، جلست تحت شجرة معترشة، وبدت في البعيد أشباح هوامية تمضي نحو المقبرة حيت يتراءى جيش من الأجداث المنبطح على الضفة اليمنى للوادي، إن هذه الأشباح تلخص المصير التراجيدي الذي ينتظر جميع البشر ككائنات فانية ومجبولة بالطقوس، إن طقس 《زيارة 》 الذي كان منذ 15 يوما ليس هو الطقس اليوم، كانت المقبرة المعترشة التي ابتلعت ميتا آهلة بالزوار الذين كانوا يحملون الخبز والحليب والتمر والماء، أما عددهم الآن فقد تناقص كليا، اللهم بضعة أفراد، البعض منهم يمشي والبعض الآخر يمتطي الحمير، أو يركب الدراجات والسيارات، إنهم من أعلى التلة يظهرون كالأشباح، ويشكلون لوحة تلخص استسلام الإنسان لحتمية الموت، بالضبط تلخص الإنسان في طريقه إلى الموت، لسنا في النهاية سوى مشاريع فانية تنتظر دورها، وبالتالي ليس الإنسان ذاتا مستقرة، بل يمكن تعريفه بالذات النومادية المترحلة في الكون .
لا يسعني سوى الوقوف مكتئبا و متأملا في هذه اللوحة التراجيدية، فلو كنت رساما، لرسمتها بلا تردد، إنها تطفو أمام مخيلتي بدون خجل وتفرض نفسها علي !! تبدو أمامي صورة الأم وهي ترتدي 《جلابية》خضراء وقبعة نال منها الزمن كثيرا، تتقدم الأم اللوحة وتسير خلفها ثلة من العجائز وبعض الأطفال الدامعين، وجملة من النساء الباكيات المتحسرات، أما في السماء، فيلوح نبات السدر المعترش ويطفو من حين لآخر علم إيطاليا تعتليه سيدة عجوز ذات أنياب حادة، إنه الاستسلام والهزيمة أمام جبروت عنيد اسمه الموت . لم أستطع أن أفهم لماذا في نومي الخفيف ذاك تراءى لي علم إيطاليا والسيدة العجوز ؟ ولماذا لم أعرف العلاقة بين الإثنين والرابط الذي يجمعهما بالمهدي الذي رحل ؟؟
استيقظت من غفوتي، وارتديت نعالي، ثم ذهبت عبر طريق تعمها الأشواك والأحجار المترامية، كان من حولي السدر، في البعيد لاحت صخور بركانية جرداء، نزلت من أعلى التلة ماشيا بين التواءات مغبرة، كان قلبي يطن طنينا مفجعا، لقد تذكرت كل شيء، فهذا الملعب الذي مررت منه يختزل لحظة حميمية، فذات يوم كنت وحيدا في المدرسة يهدني الجوع على مشارف المقبرة، فجاء صديقي المهدي المنطمر الآن على الأرض حاملا شايا وخبزا وزبدة أنقذتني من متاهة الضياع والموت بين جدران القسم، وها أنا اليوم أزوره وهو تائه بين مسامات الأرض أصب عليه الماء لعله ينبت كتجربة في الحياة، ما يميز البشر باعتبارهم كائنات ميتافزيقية طقوسية هو السفر نحو بعضهم البعض، إن الموت لا تغيب البشر، فإذا مات الإنسان يبقى أثره، وبالتالي يكون الأثر هو الوجه الثاني للحياة. نعم ينتفي الإنسان ويعدم ويتبدد ويتحلل، لكن يبقى الأثر باعتباره الشاهد على استمرارية النوع البشري. تتقدم الأم اللوحة، لأنها تحمل ابنها في ذاتها وتشهد على حضوره الدائم، وها أنا أقترب من المقبرة المعترشة، ها هي الأم تجلس على قارعة القبر، تذرف الدموع بغزارة، توزع النساء التمر والحليب وتهرق المياه على أتربة اللحد إيذانا بالحياة .
تحيط بالمقبرة حشائش جافة وميتة، بينما الأشجار المعترشة التي توجد وسط المقبرة نال منها الزمن كثيرا، هناك أجداث اختفت في عمق الأرض وغرقت بلا أمل في النجاة والانبثاق، في حين تنتظر أخرى مصيرها المأساوي، كانت المجموعة محتشدة، ومن حولها مجموعة من الكلاب المتربة والتي تشعر باليأس وسط صيف آفل، تعيد المجموعة حكايتها وتتحدث عن ذلك الصباح التراجيدي الذي ذكر الجميع بعدمية الحياة وسيادة الموت، فهذا الأخير لا يخص الشخص المعني به، لأنه مات وانتهى موته، ولكن يخص الذوات الحية التي تعيش فاجعة الموت، لأنهم عاشوا موت الآخرين وليس موت ذواتهم، فموت الذات، يكون من خلاله الموت وقد فقد معناه . ما أصعب أن يعيش المرء موت الآخرين، لأن صورة الموت أصعب من تجربة الموت .
في لحظة العودة ترتسم لوحة أخرى متبلة بالأسى والحزن، فالأم التي كانت تتقدم اللوحة في مرحلة الذهاب، كانت آخر المغادرين، كانت تبدو شاحبة وحزينة الوجه ، وكانت تظهر دامعة العينين، كما كانت معالم الحياة مفقودة كليا، حتى الحمار الذي كانت تمتطيه كان تائها يطلق نهيقا معدوما بلا رعشة ولا رغبة . مضت ساعة من الزمن . لم يبق في اللوحة سوى قبر جديد وسط كومة من الأجداث ويظهر مفصولا عن عالم الأحياء. والميت بقي قولا وكلاما متلاشيا، عبارة عن ركام من الكلام حيث ما فتئ يتبدد كل يوم كأنه لم يكن .

عبد الله عنتار/ بنسليمان- 31 اوت 2018/ المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عزاء الفنانة شيرين سيف النصر تجهيزات واستعدادات استقبال نجوم


.. تفاعلكم : الفنان محمد عبده يطمئن جمهوره على صحته ويتألق مع س




.. المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق يكشف عن أسباب اعتماده على ق


.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202




.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024