الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مظفر النواب في موشح -يا أيها الساقي العزيز- : وصف و ترجمة / 2-2

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2018 / 9 / 2
الادب والفن




لعل من المناسب في ختام وصف أول دورين من هذا الموشح أن أتطرق إلى دوزانهما البنيوي الفريد موسيقياً . من الناحية النحوية ، هناك أولاً تكرار متتالي مشهود للأفعال في الدورين ( عشرة أفعال في أثني عشر سطراً : يُزهر ، أغمضَ ، تَنَمْ ، تَرَك ، غَدَى ، غادَر ، يبقَ ، مَرّ ، يُحرّك ، يَجْمَع) . هذا الترصيع المكثف بالأفعال منتظم في كل الموشح ، مثلما سأبين . كما أن هناك ما اسميه بتصريع الأقفال في الدورين , و المقصود به مناظرة القوافي للسطرين الأخيرين فيهما :
قفل الدور الأول :
تَرَكَتكَ أيامُ الهوى ،
فَغَدَوْتَ أيّامَ الألمْ .

قفل الدور الثاني :
مرّ بينَ الطاولاتِ يُحرّك المَوتى ،
ويجمعُ آخرَ الكاساتِ من بَين الرِمَمْ .
و هناك ايضاً التكرار الآتي عفو الكلام لجموع المؤنث السالم : (الجهاتِ ، الحاناتِ ، الذكرياتْ ، الطاولاتِ ، الكاساتِ) . و أخيرا ، و ليس آخراً ، هناك التكرار المنتظم و المحسوب لأصوات (صويتات = فونيمات) بعينها في الدورين : التاء (ثنتا عشرة مرة) ، الكاف (تسع مرات) ، الراء (تسع مرات) ، ناهيك عن تكرار صوت الميم (16 مرة) . كل هذا ، و غيره (مثل تكرار كلمة "الفراغ" وتفريعاتها عبر تضاعيف كل الموشح) مما لا يتسع المقام للتفصيل فيه هنا ، يوضح كيف أن الشاعر المجدّد مظفر النواب يطبق أسلوب نسج الحصير لبحر الرمل على أصعدة المعاني و المباني و الموسيقى في آن واحد . و هذا التوازي (parallelism) الصوتي و الصرفي و النحوي يُكسب بنية نص أدوار الموشح تلاحماً (cohesion) دلالياً و نحوياً و صوتياً في آن واحد .
يُلاحظ أن الشاعر في الدورين الأولين يناجي نفسه بضمير الشخص المخاطَب الثاني "أنتَ". و لكنه في الدور الثالث يستهل المقطع بنفس الضمير في عبارة "عِشْقِك" ، ليتحول فجأة إلى ضمير الشخص الثالث "هو" مع الفعل "جَمَعَ" و العبارتين الاسميتين : "جبينه" و "اصبعيه". هنا تتحد ذوات "أنت" مع "هو" بشخص الشاعر نفسه : "أنا" ، رغم أنه يحرص كل الحرص على عدم استخدام الضمير "أنا" للشخص الأول في الموشح . و لكن لماذا يحوّل الشاعر دوره في مقام القصيدة من الشخص الثاني إلى الثالث ؟ بالطبع : لكي يفسح المجال لدخول "الساقي العزيز" مسرح القصيدة و بثه لواعجه في قفل هذا الدور .
آه
قليلُ حظٍ مثلُ عِشْقِكَ نائمٌ .
جَمَعَ الزوايا للبكاءِ جبينُهُ ،
وسجارةٌ قَصُرتْ وطالَ رمادُها ،
ما بين ثلجيّ إصبعيه .
آه
كلّما ارتعشتْ جوانِحُه بحلمٍ عن بلادٍ ضيّعته بحُلمِها ،
سقط الرَّمادُ على رَمادِ وُجودهِ .
يا أيّها الساقي ،
فَدَيتُك ،
دعْ كؤوسَ الميتينَ فإنهم دَخَلوا العدمْ .

و لكن من هو "الساقي العزيز" ؟ مثل "الثورة" التي يكنّيها مظفر النواب بـ "العشق" في المقطع الثالث ، يمكن الجزم بأن المقصود بـ "الساقي" في كل تضاعيف هذه القصيدة ليس هو معناه الحرفي "مقدم المشروب" في الحانة قطعاً ، إنما هو المسؤول الحزبي ، بل هو الحزب الشيوعي المعني ممثلاً بقيادته السياسية – الفكرية المسؤولة عن تحريض جماهيره بزقها بالجرع الثورية ، و هو – أي التحريض الثوري – النشاط الذي يرمز إليه بسقاية الخمر . سأعود لهذا الموضوع .
يصف النواب عشقه ، أي الثورة في العراق ، بكونها قليلة الحظ دوماً و نائمة في نهاية . و "قلة الحظ" هي القدر الرهيب الذي وسم الحركة الثورية في العراق منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى الآن ، على العكس من حظ أعداء الثورة ؛ و إلا كيف يمكن وصف استطاعة حفنة من الشقاوات الفاشية اغتصاب السلطة عام 1963 ، و وأدهم ثورة 14 تموز المجيدة و الشارع كله ضدهم ، و معه غالبية الجيش ؟ نفس سوء الطالع ذر بقرنه على الانتفاضات الشعبية المتتالية العراقية طوال الأعوام : 1963 ، 1965-8 ، 1979 ، 1991 ، 1996، 2005-2018 .. هذا المصير المأساوي الرهيب دمر و يدمر حاضر العراق و مستقبله ، و أباد و شرّد الملايين ، و ولّد من الآلام أعمقها في وجدان الثوريين الأحرار بحيث ما عاد بإمكانهم رؤية سوى الآلام المخيمة في كل الأركان . هذا هو المقصود بجملة " جَمَعَ الزوايا للبكاءِ جبينُهُ " . و خَبَت نيران الثورة لتضارع جمرة عقب سيجارة طويل الرماد ، أي الدمار ، آيل للإنطفاء بين أصبعين متجمدين غير قادرين على الضغط على زناد الثورة و تأجيج نيرانها مجدداً على نحو ناجز . و لقد أسفر عدم القدرة على مواصلة التثوير الناجع للشارع عن تراجع مأساوي للمد الثوري الضروري لتحقيق الأحلام و الذي هو السبب في تواصل الدمار الحاصل للشعب العراقي المنكود الحظ ! أي بلاغة في رسم الصورة الرهيبة هذه ! و هذه الإستعارة ممتدة : كلما ضاعت انتفاضة بعد انتفاضة بأحلامها ، كلما تراكم الدمار و الضياع و الضحايا فوق الركام الرهيب الحاصل قبله بحيث أن وجود الشعب العراقي نفسه قد بات مهدداً . ما العمل إزاء هذه الجوائح المهلكة المهددة للوجود ؟
يا أيّها الساقي ،
فَدَيتُك ،
دعْ كؤوسَ الميتينَ فإنهم دَخَلوا العَدَمْ .

و تفسير هذه الجملة - الضربة ، بالنسبة لي ، هو :

أيها المتصدي للتحريض الثوري ،
فديتك ،
كف عن تحريض من ماتت روحهم الثورية ، لاستحالة تثويرهم .

و لكن أذا كان هذا المحرض الثوري لا ينفعه النفخ بأرواح الموتى ، فما هو دور الشاعر ؟ في الدور الرابع ، يصف الشاعر هذا المتصدي للتحريض الثوري بجملة : "أرى غفوت" . لقد نام عن أداء واجبه التحريضي ، فكفّ عن رؤية واقعه المظلم و عن العمل الحثيث على تغييره . أمّا الشاعر ، فهو لن يكف عن تحريض إخوته العراقيين للثورة رغم القمع "التهم" حتى ينقشع الليل الطويل من المآسي التي طالتهم و تطالهم لربح كفاية مستقبل الشعب ، و لأن حب تراب الوطن واجب مقدس . هنا يصبح الشاعر نفسه هو الشعب العراقي كله :
وبعدُ لم أسقِ الجراحَ كفايةَ الليلِ الطويلْ ،
وحزنَ يومٍ ضاع منّي ,
لم أحرّض إخوتي أن يحضنوا كاللهِ رائحةَ الترابْ ،
ويعشقوا رغمَ التُهمْ .

في الدور الخامس من الموشح ، يحاول الشاعر ايقاظ الساقي لكي يؤدي واجبه ، على الأقل بتقديم الأغاني الثورية الجميلة لسيدة العرب فيروز عن القدس و فلسطين ، ثم يتدارك بمخاطبة الساقي: "لا بد أنك قد غيرت قناعاتك مثل أولئك المنادين بالشرق الأوسط الجديد المنبطح لإسرائيل ، و الذي يغطي على استسلامه للصهيونية بالعنتريات اللفظية الصارخة بدل سماع صوت الثورة ضدها" . بعدها يعرّج الشاعر على وصف التسلّكات الفاشية للأجهزة الأمنية في التسقيط السياسي للثوار ، لاعباً بسخرية لاذعة على تلاوين المعاني المشتركة للألفاظ : "الجهاز" و "الأسطوانة" و "يدخل" و "الفراغ" و "المرارة" ، و "المحترم" و "التقرير" و "اعترف" و "ابتسم" .. و لكن الشاعر يؤكد مواصلة مسيرته الثورية ، و اعتزازه بنضاله رغم الإخفاقات و المصائب و الأحزان . حتى نصل إلى ختام الموشح ، و زبدته ، و التي تشبه المعزوفة الختامية للأغنية (فينالي = finale) التي يلجأ إليها الموسيقار عندما يقترب حلول الأجل و لا مجال بعد لارتكاب المزيد من الأخطاء :
يا سيِّدي الساقي :
دعِ الأمواتَ موتى ،
لا تُحرّكْ ساكنَ الأوجاعِ ،
واتركني أدَندنُ أيَّ شيءٍ ،
ريثما يأتي الصباحُ ،
و نوقِظُ الموتى يُحَيّونَ العَلَمْ .
و التي تعني ، بتلاحم أفعالها ، عندي :
يا سيِّدي المتصدي للتحريض الثوري :
دعِ من ماتت روحه الثورية ميتاً ،
لا تُجرجر على ثورة الشعب مآسي جديدة ،
واتركني أغني للثورة أيَّ شيءٍ ،
ريثما تنجلي ظلمة الليل بالصباح ،
كي نوقِظُ من ماتت روحه ليُحَيّ العَلَمْ .

ملاحظات موجزة عن ترجمتي للموشح
لم أواجه أي صعوبة في ترجمة هذا الموشح للإنجليزية بفضل فكر الشاعر الكوزموبوليتي و شفافيته . و لقد ترجمتها شعراً ، مع التوجه نحو تعويض الخسارات التي لا بد منها في كل ترجمة شعرية عبر إعادة إخراج الصياغات النحوية الموزونة و المقفاة ، ما استطعت إلى ذلك ، خصوصاً أعادة إخراج تكرارات صوت الميم العربي بصوت (m) الإنجليزي ، سواء في تضاعيف الترجمة ، أم في القافية . فعلى العكس من الشعر العربي ، فإن الصعوبة في الشعر الإنجليزي تكمن في القوافي و ليس في الأوزان (أكثرها استعمالاً أربعة فقط ، يمكن الجمع بينها في القصيدة الواحدة) لأن نظام الصرف و القاموس الإنجليزي أقل غنى من نظيره العربي . و لقد أبقيت على الشكل المقطعي العربي في الترجمة ، و لم ألجأ للتفسير أو تغيير معاني الأصل قط ، عدا كلمة "العنترية" الغريبة عن الإنجليزية ، و التي استعرت لها رمز الصراخ عند الرومان ، الشياطين : (Striges) الذين كانوا – وفقاً للأسطورة – يعلنون عن وجودهم بواسطة الصراخ .

ترجمة الموشح للإنجليزية

Lo, Dear Barman

By: Madhaffar al-Nawwab

Nothing blossoms like the void.
All the worries closed their eyes
In your behold,
Yet, you didn t fall asleep:
Alert as the thistles of the black wasteland
Against the noon wind,
Standing watchful of all the ways.
Love days you ve been abandoned,
So you became the pain s days.

The companions of your passion have gone,
Nothing remains in the barrooms but remembrances,
And a fraction of a leg, toilsome for a thousand years.
It passed among the tables, stirring the dead,
Collecting the last of the goblets from among the ruins.

Ooh !
A luckless is asleep, as your passion is,
All the weeping corners are his forehead,
And a cigarette, growing short, its ashes lengthened,
Between the snows of your two fingers .

Ooh !
Whenever his ribs quivered in a dream
For a country that lost him for her dream,
Ashes piled upon the ash of his existence.

Lo, barman,
May I be your sacrifice,
Leave the goblets of the dead
For they have entered nothingness.
That is why - my beloved barman of esteem -
My goblet overflows with the void,
Though I have filled it a moment ago to the brim!
A toast to the void !
A toast to the nights, a dreary;
A toast to the hotels;
A toast to the pavements of the country;
And a room on the roof where I reside.
In it, I spend the night in frost in approach to God.
A toast to justice in the world;
And my toast, my dear barman:
To a life I never regretted,
Though all that is in it is but regret.

It has stashed,
And am still a stirrer of the streets death,
And those whose souls that have disintegrated.
To whet from the waste a rose for the morning,
Wounding;
To whet from their pain a vision;
From a disease, fragmenting their gall, a melody.

Lo, my dear barman:
I see that you ve dozed off,
And I haven t watered the wounds enough
For the long night,
Nor the grief of a day that I have lost.
I haven t aroused yet
My brothers to lap like God the scent of dust,
To love despite the imputations.
Bring, may I be your sacrifice,
A liter of heavy oblivion,
Just like your voice, Lo barman.

Play for us Fairuz in Ancient Al-Quds
Or on the Bridge of Echo;
Or did you change into a Middle Eastern fling like them ?
Then, search for one of the modern prosaism;
Paly it at the system s highest volume,
Perhaps higher,
For in this country, the people are quaffed with the system.
They are quaffed with Striges drumming scream,
Or with drum gases, with citizen s esteem.
Where else is there such an esteem ?
The citizen is entered in the system,
Or the system enters him.
And after a day,
A night,
Or two nights,
The single citizen goes out very safe and sound;
Vert respectful.
In the report, it is said:
"And the citizen erupted in respects",
The guts were empty,
And some, from hunger years, were without guts.
Then a gall in his head,
And a gall in his heart,
And two galls in his bowels.
"Gall son of Gall" was the citizen s name, perhaps
And the report is concluded:
"And the citizen confessed and smiled".

Lo barman, sir:
Let the dead be dead;
Stir not sleeping pains;
Let me hum with anything;
Till the coming of morning.
So that we awaken the dead to salute the flag.

انتهت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصحيح و اعتذار
حسين علوان حسين ( 2018 / 9 / 3 - 08:48 )
القارئات و القراء الأعزاء
تحية حارة
حصل خطآن واضحان في نص الترجمة .
أولهما في السطر 65 من بداية أول سطر منها ، كلمة
Paly
في بداية السطر تصبح
Play
و كذلك في بداية السطر 77 ، كلمة :
Vert
تصبح :
Very
مع الاعتذار .

اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة