الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاموك- رواية- (29- 35)

وديع العبيدي

2018 / 9 / 3
الادب والفن


وديع العبيدي
كاموك
(رواية)

الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!

(29)
(نماز أرمني)*..
"انتظارا انتظرت الربّ، فمال إليّ وسمع صراخي.. وأصعدني من جبّ الهلاك.. من طين الحمأة.. وأقام على صخرة رجليّ.. ثبّت خطواتي.. جعل في فمي ترينيمة جديدة تسبيحة إلهنا.. كثيرون يرون ويخافون ويتوكلون على الربّ..
طوبى للرجل الذي جعل الربّ متكلّه.. ولم يلتفت إلى الغطاريس.. والمنحرفين إلى الكذب.. كثيرا ما جعلت أيّها الربّ إلهي.. عجائبك وأفكارك من جهتنا.. لا تقوّم لديك.. لأخبرنّ وأتكلمنّ بها.. زادت عن أن تعدّ.. بذبيحة وتقدمة لم تسرّ.. أذنيّ فتحت.. حينئذ قلت ها أنا ذا جئت..
بدرج الكتاب مكتوب عني.. أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت.. وشريعتك في وسط أحشائي.. بشرت ببرّ في وسط جماعة عظيمة.. هوذا شفتاي لم أمنعهما.. أنت يا ربّ علمت.. لم أكتم عدلك في وسط قلبي.. تكلمت بأمانتك وخلاصك.. لم أخف رحمتك.. وحقّك عن الجماعة العظيمة..
يا ربّ لا تمنع رأفتك عني.. تنصرني رحمتك وحقك دائما.. لأنّ شرورا لا تحصى قد اكتنفتني.. حاقت بي آثامي ولا أستطيع أن أبصر.. كثرت أكثر من شعر رأسي.. وقلبي قد تركني.. ارتض يا ربّ بأن تنجّيني.. يا ربّ إلى معونتي أسرع..
ليخزَ وليخجلْ معا الذين يطلبون هلاك نفسي.. ليرتدّ إلى الوراء.. وليخزَ المسرورون بأذيتي.. ليستوحش من أجل خزيهم القائلون لي هه هه..
ليبتهج ويفرح بك جميع طالبيك.. ليقل محبّو خلاصك يتعظم الربّ.. أما أنا فمسكين وبائس.. الربّ يهتمّ بي.. عوني ومنقذي أنت.. يا إلهي لا تبطيء.."
ــــــــــــــــــــــ
* صلاة أرمنية- مز 40.


(30)
فجأة وجدت الناس غير الناس.. والحياة مقلوبة فوق بعضها.. عندما خلعت ثيابي العسكرية لآخر مرة في نهاية فبراير واحد وتسعين.. ليس في نهايته تماما.. ما يزال أمامه يومان، أو يوم ونصف، لكي يختفي.. بدا كأنني أخلع كلّ وجودي وأتركه ورائي.. أبي هو الوحيد الذي لم يتغير معي.. رغم أنه لم يقدّم لي شيئا غير صمته.. حتى العواطف وكلمات اللياقة غابت من التداول..
كان عقلي عاجزا عن التفكير.. غير قادر على تقبل الصدمة ولا تجاوزها.. لم أتوقع أن تتركنا الحكومة في العراء .. بعد بذخ الوعود الاشتراكية والامتيازات العسكرية.. تحمّلت لوحدي آثار الهزيمة والعودة من الحرب بلا غنائم ..
الغنائم التي ينتظرها الذين لم يذهبوا للحرب.. الجندي الذي كان أبو خليل وأبو التحرير.. صار شخصا مرذولا.. صعلوكا وخائنا.. تضيق بي جدران المنزل فأخرج للشارع.. أشعر بالهواء جامدا والفضاء مختنق بروائح مؤكسدة نتنة.. لا تطيق رؤية وجه إنسان أو حيوان.. ولا يطيق أحد رؤيتك إلا لغرض السخرية..
غيابي عن البيت مدة أثني عشرة عاما.. لم يعنِ شيئا لأهلي.. كانوا يفكرون بأفكار الناس.. وليس بحياة العائلة التي كانت قبل الحرب.. وأنا تركت البيت قبل الحرب وأنا في الثامنة عشرة.. فإذا بأولئك الذين لم تلفحهم نار الحرب ولا رمال البصرة.. يصادرون مكانك في العائلة.. كان ذلك طبعا في قمة الكارثة والحصار والتوحش الذي تخذه الناس ضالة للتعبير عن أطماعهم وكلّ ما اختزن من عنف جوّاهم..
منذ فبراير واحد وتسعين صار أفراد الجيش المعدمون ضحية المرحلة حتى اليوم.. مضطهدين بين لا مبالاة الحكومة وقساوة تعامل العائلة التي انتهت في تلك النقطة.. انتهى مفهومها واستبدلت تقاليدها وديانتها بالمال والطمع..
تلك اللحظة.. لحظة وقف اطلاق النار.. نهاية حرب العشر سنوات.. كانت نهاية كلّ شيء.. نهاية العائلة والوطن والدولة والحياة الطبيعية.. نهاية العاطفة والأخوة والانسانية والعلاقات.. لا تستطيع أن تطرق باب أحد ولا تتصل بأحد.. متهم قبل أن تنطق.. أين هم الأصدقاء.. أين هم الأهل.. أين هو الوطن وال...
في كل مكان أخبار الهجرة والسفر.. بيع البيوت وبيع الأثاث وبيع المكتبات.. أخبار التهريب وتزوير تاشيرات السفر.. من كان وراء تلك الإشاعات والأخبار السوداء والقنوط الذي شمل كلّ شيء.. كيف أصدّق كلّ ذلك..
لماذا لم تضع الحكومة برامج لاستيعاب الجنود العاطلين بعد الحرب.. في تلك اللحظة فقط.. اتفق الناس مع الحكومة.. والداخل مع الخارج.. الصديق مع العدو.. ضدّ شيء اسمه الجندي العراقي.
ينظر لي زملاء والدي في المقهى ويسألونه: هل وجد عملا؟.. أصحابه يهاجرون للخارج.. أفضل له أن يسافر..
أتمعن في وجوههم الطافحة باللاأبالية والانتهازية.. وأترك المقهى مشيعا بنظرات الشماتة.. في رواية (الدكتور ابراهيم) تحدث ذنون ايوب عن (الشعليّه) العراقية.. قبل أن يولد جيلنا بكثير..
وأنا وحدي أحتمل ثمن وجودي الغلط في المكان الغلط والزمان الغلط.. أنا وحدي والوحيد الذي ينتظر الجميع موته واندثاره، ليندثر معه أي أثر للحرب.. والكلّ يتظاهر بالبراءة، بما فيهم كلاب النظام وتجار الحرب!..
ابتسم لي والدي عبر زجاج باص العكَيلي.. وعندما ارتفعت ذراعه للتلويح آخر مرة.. سقطت دمعة من عينه!.. انطلاق الباص هو ما كان يريده الجميع.. الباص هو صورة للتابوت، التابوت زمن مجهول يندفع فيه.. هو حفرة القبر التي تخترق أعماق الأرض بلا قرار..
تلك العائلة التقليدية، بدل أن تتماسك وتجتمع وتعيد تنظيم أمورها وحياتها بعد الحرب.. صار كلّ همها التخلص من بعضها الذي كان غائبا على نفقة الحرب، كلّ تلك السنين، يزورون البيت برواتبهم الدسمة..
بخروج الجندي العائد من الحرب.. بخروجه من عتبة البيت كان البيت يتنفس الصعداء.. وكأنهم يتخلّصون من شيطان رجيم.. ولذلك أيضا.. لا تصلني رسائل منذ المغادرة وحتى اليوم.. رسائلهم الوحيدة ارتبطت بالطلبات، وعندما انتهت انقطعوا عن السؤال.. وا أسفي عليك يا بلدي.. وا أسفي على مساكينك وضحايا قسوتك..!..
عندما تحرّك الباص.. لم أنظر من النافذة.. شعرت بمياه ثقيلة تحيط بالباص وهو يخوض خلالها بصعوبة.. صوت اندفاع الباص خلال المياه مثل سفينة وسط محيط هائج.. لم يختفِ ذلك الشعور والصوت.. الا عندما خرجنا إلى صحراء طريبيل.. الصحراء وطننا الأول.. وفجأة بدأنا نتنفس هواء طلقا..
ـــــــــــــــــــــــــ
• ذنون ايوب [1908- 1996م] أديب وسياسي عراقي، ولد في الموصل ومات في فيننا. غادر العراق في بداية الخمسينيات الى بلاد الغرب. بعد (1958م) عين قنصلا ثقافيا في السفارة العراقية في فيننا. بعد تقاعده بقي في النمسا حنى موته. له أعمال أدبية وروائية لم تجمع. روايته (الدكتور ابراهيم) من الاعمال الرائدة في السرد والفكر الاجتماعي العراقي، ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وفيها يؤرخ الكاتب لمصطلح (الشعليّه) العراقي.

(31)
الرسالة التي وصلتني ليس عليها اسم أو عنوان.. وجدتها هكذا في صندوق بريدي.. عندما حدثت جاري عن الرسالة، قال: لا يوجد في النزل صندوق رسائل.. ثم دار ومضى واضعا احدى يديه في جيب بنطاله كالعادة..
ماذا يهمّني أنا من النزل وصندوق الرسائل.. ما يهمّني هو الرسالة.. وهي موجهة لي شخصيا.. ربما انتزع الظرف الأصلي، ووضعته خدمة البريد في مظروف جديد.. ونسيت كتابة العنوان مجددا.. وهذا ما لم اخبر به الجار.. هذا يحدث عادة.. لقد حدث من قبل..
قسمت البريد الى أقسام، الطرود والرسائل العادية، ثم الظروف الكبيرة والصغيرة.. وبدأت في قراءة الرسالة المفتوحة.. والمرسلة من غير عنوان..
لم أعتد من أخي.. أن يخاطبني كشخص غريب، ويعاملني بصفة المتطفل والمتجاوز عليه.. هل يمكن ان يكون هذا أخي؟.. أم أنه تغيّر الى هذا الحدّ؟.. إذا كانت هذه حالة أخي الذي يحبّني.. فماذا عن الاخرين؟.. لابد أن ما حدث هناك يفوق العقل!...
ولكن.. لماذا الاستغراب.. يبدو أنني أنا الذي تغيرت.. أعيش في أوربا وأتظاهر بالثقافة والتحضر.. وأفترض أن يتعامل أخي معي بطرق بروتوكولية.. أنا لا أذكر أنه كانت عندنا في البيت بروتوكولات أيام الوالدين.. لماذا تظهر البروتوكولات اليوم في عصر الأبناء..
ثم.. إذا لم يكلمني أخي بهذه الطريقة، فمع من يسري عن أفكاره ومشاعره.. أليس من حقه أن ينفعل.. وأين يذهب بالانفعال.. ألست أنا اقرب الناس إليه.. وهل لديه سواي "حبيبي"؟.. لابد أنه يمرّ بظروف صعبة.. ولا يجد تفهما من أحد هناك..
قال أنه يريد أن يكمل دراسته في الكومبيوتر سوفت وير.. أرسل لي كلّ شهاداته الجامعية موقعة ومصادقة من وزارة الخارجية.. أنا الذي كنت أشجعه على التخصص وإكمال الدراسة.. كان من المتفوقين والمتميزين في أرشفة السي دي روم.. ماذا حدث الآن..
لا شكّ أن رسالتي الجوابية له كانت سخيفة.. سألته عن معدل أسعار السيارات، لأرسل له مبلغا من المال لشراء واحدة والعمل سائق تاكسي.. والتاكسي يكسبه خبرة وعلاقات وفلوس!..
من حقّه أن ينفعل.. يثور.. يتمرد.. يشتمني.. يمسحني بالأرض.. ليكن.. لولا أنه يحبني لا يفعل ذلك.. ألست أقرب الناس إليه.. لا بأس..
لسنا إخوة.. بل أصدقاء أيضا.. بل أنا في موضع الوالد بالنسبة له.. أنا أكبر منه.. وضعي مستقر.. وعلي أن أرعاه .. بالمال والمشاعر وكلّ شيء.. ولكنه منفعل أكثر من اللازم.. ولا أعرف كيف أتعامل معه؟..
القاعد بالفيْ، غير القاعد بالشمس!
هذا ما يقال.. ولا يغيره أي جدال مهما طال!.. ففي الجعبة أحكام وصياغات جاهزة.. مثل ذهب العروس تصلح لكلّ المناسبات.. ولا يهمّ أن تكون مستعارة، أو مملوكة.. المهم أن تؤدي الغرض منها في لحظتها.. كيفما يكن، وحيثما كنت.. هذه هي نظرتهم..
وأنا الان لست في أفضل حالاتي.. أحتاج وقت للتفكير.. ربما يهدأ قليلا.. ربما ينسى.. أنا أيضا أنسى!..
دفعت الرسالة تحت رزمة الرسائل وقررت الخروج..


(32)
بدت روزا مستنفرة.. لم يكن ذلك غريبا عليها.. تلك طريقتها كلما صورت حلقة جديدة من البرنامج.. وكالعادة.. اعتبرت الامر عاديا.. ولم أسألها عن شيء.. كانت تقف هناك في وسط ساحة كبيرة.. وراءها بيت ضخم.. ثمة حركة أرجل غير عادية.. توقفت عجلة كبيرة.. وخلال دقائق تحرّكت ثانية..
الآن عرفت أن روزا تنقل سكنها من هنا.. سوف أفتقد جوارها بغير سابق انذار.. تستيقظ صباحا لاستنشاق الهواء.. فتجد جارك ينتقل.. أو قد انتقل.. من غير كلمة ولا إشارة.. لن نتبادل التحية إذن.. لن نتناول القهوة سوية.. لن أدخل مطبخها ولن تسعفني بآخر الأخبار.. روزا جارتي الاعلامية.. جميلة ومثقفة وفي غاية التهذيب.. ولكنا عشنا هنا مثل عائلة.. أكثر من أصدقاء.. تحدّثني في كلّ شيء.. وأقول رأيي بعفوية.. لم تعاتبني مرة ولا زعلت.. ولا نقلت لي خبرا سيئا.. رغم أن العالم يفيض بالأخبار السيئة.. عالم الاعلام طبعا.. بغتة.. تريد أن تختفي.. على غير العادة ومن غير كلمة.. لا.. شيء غير معقول..
هممت بالتقدم والتطفل.. نحن جيران.. بل عائلة واحدة.. لن أبقى أتفرج.. ربما أستطيع المساعدة.. هذا ما انتهى إليه قراري.. بعد تفكير.. ومن غير عفوية هاته المرة.. وجدت نفسي أتحدث مع شخص آخر... ربما أراه للمرّة الأولى.. هذا لا يهمّ.. لكني أعرفه.. أعني نعرف بعضنا.. سألته كيف جرى الامر.. قال أن الوضع طبيعي.. وكلّ شيء سيكون على ما يرام.. سألته عن حاله وهل من جديد.. لم يكن مكترثا لشيء.. ينتظر لحظات محدودة للعودة لعمله..
رغم أن فادي هو زوج روزا لكننا لم نلتقي من قبل.. لأول وهلة تعتقد أنهما مختلفان.. لكن كلّ شيء طبيعي في كلّ شيء.. ورغم أنه يعمل في قطاع النقل، فهو ليس كثير الكلام.. وليس عبوسا بالمرة.. ولا متكبرا.. ولكنه العمل.. يعني الوقت.. المواعيد.. يكاد يعمل طيلة الوقت.. كلّ الوقت وهو في الخارج.. وهي في العمل..
عندما تحضر للبيت.. تزورني وتقول ما يشغلها.. عندما يكون عليها أخذ شيء من البيت تدعوني عندها.. هي تجوس خلال البيت وتتحدّث بصوت عال.. وأنا أتواصل معها وأخمن من أي حجرة تتكلم.. أو أنها ذهبت للطابق الأعلى..
كلّ هذا ينتهي مثل حلم.. روزا مثل ابنتي.. هي تقول صديقتي.. لا يهمّ.. لكننا كنا عائلة.. الآن ستختفي روزا ويقوم جدار من هنا.. هذا القصر والساحة الحيوية تتحول الى صحراء قاحلة تبعث الفحيح.. ما هو الفحيح.. اه يا روزا.. ليت الأمر يكون مجرّد تصوير مشهد..
كان الأطفال في البيت.. قمت بنقل أحدهما عندي.. كانت سيارة الاسعاف واقفة.. والحركة بلا توقف.. كان في العاشرة من عمره لكنه لا يبدو كذلك.. متقوقع على نفسه كأنه في الخامسة.. لا يهمّ.. لم يستطع النهوض ويمد ذراعيه نحوي.. فأخذته مثل الطفل بين ذراعي ونقلته للسيارة.. سارع أحدهم دون أن أنظر إليه.. وأزاح ذراعي من تحت إسته.. لم أجد الطفل الثاني.. ولا أعرف عنه شيئا في الواقع.. كلّ ما أعرفه هو معلومات.. كلام فقط.. سمعتها غير مرة تتحدّث عن طفل.. عن طفلين.. طفل في العاشرة.. قال لها وقالت له.. يحب كذا ويقترح هكذا.. ولكني لم أسأل مرّة ولا رأيته.. أفترض أنه هو طفلها.. ولكنها لم تقل أنه ذو احتياجات خاصة.. والطفل الآخر ليس هنا.. كيف أخفت عني كلّ ذلك.. اعتقدت أنها تقول لي كلّ شيء.. هذا كلّ ما في الأمر.. أعني الجيران والعائلة والصداقة وشاي الحديقة وروزا..
روزا اختفت.. فادي مضى.. الاسغاف نقلت الطفل.. سيارة الحمل.. لا أدري.. حركة الأرجل تخف.. تختفي.. لو سألتها فقط إن كانت ما زالت تعمل في التلفزيون..
في البيت الآخر اجتمع آخرون.. عندما دخلت كان الطعام جاهزا.. الوليمة جاهزة.. لم يتقدم أحد حتى الان.. كنت أنا مع امرأتين.. احداهما أمامي والأخرى خلفي.. والسلّم كان ضيقا.. كان عموديا نوعا ما.. وكان عليّ أن أمسك الحاجز الجانبي وأنظر للأعلى تماما.. كما لو أنظر نحو السماء.. وكان ذلك يوجه ناظري الى عجيزة المرأة المتسلقة أمامي..
انتهينا إلى الباحة.. على الأرض كانت رزمة رسائل.. يبدو أنها كانت متروكة من فتحة البريد في الباب.. قالت إحداهنّ.. هاته رسائل جدّك.. فيها رسالة سيئة.. كان جدّي يتصدّر الحجرة منذ زمن لا أعرفه.. ولكن الظرف ليس كما هو.. كانوا بانتظار خالي الأصغر.. خالي الأصغر هو صاحب الرسالة.. أو هو الذي يفتح الرسائل.. أعرف.. أن جدي متقدّم في السن جدا.. ولن يكترث لهاته الامور..
الطعام على الطاولة منذ زمن.. كأنهم ينتظرون أحدا ما.. ولكن لا يوجد أي جوّ لتناول الطعام.. الجميع في انتظار شيء لا يحدث.. أعتقد أن خالي جاء.. بل كان حاضرا.. ولم يفعل أي شيء.. لا أدري ما عليه أن يفعل.. وربما هو مثلي.. لا يرى أن عليه عمل شيء.. هذا ليس كلّ الأمر.. سوف نتكلم لاحقا..
عندما كنا في سيارة الجيب كان يهجس لي بما لديه.. كان ذاهبا في طريقه.. كنت معه بالصدفة.. هكذا بغير اتفاق.. ولكنه كالعادة كان سعيدا.. وكلّ شيء.. كلّ شيء.. كالعادة..!..
الإذاعة مستمرة في بث أغانيها بلا توقف.. أغاني وتعليقات ونكات وأمثال وحكم.. أغاني الأيام الخوالي والزمن السعيد.. الذي لم يكن سعيدا بالمرّة.. إلا من منظور ما حدث مؤخرا..


(33)
داتشو.. معلمة اليوغا الهندية التي تجلس قريبة منّي جدّا.. وأفكر في الارتباط بها.. قالت لي: هل عندك غسالة.. ضع ثيابك في الغسالة مرّة في الاسبوع واغسلها.. بدّل جواربك كلّ يوم.. لا ترتدي الجورب مرتين.. إشترِ قمصانا جديدة.. هل تغتسل مرّتين يوميا.. في الصباح وقبل النوم..
استمعت إلى قائمة نصائحها كتلميذ.. ونظراتي تتنقل بين صفحة وجهها اللامعة بالدهون.. ولحمها المكشوف من خلال الساري.. داتشو.. لمعت أمامي فجأة.. وأنا أخرج من محطة مترو هارو.. تردّدت لحظات في التقاط ميدالية إسمها الموضوعة على جانب العارضة.. التفت.. كان شاب آخر يلتقطها ويضعها في جيبه.. ومن يومها.. انتهت داتشو.. في جيب شخص آخر..
أنا الآن شخص آخر..
لم يتعب كيركجورد تعب ايغور كاموك في محاولة فك ألغاز حياته المتداخلة.. لعبة النرد أو الشطرنج.. سواء.. حركة واحدة خاطئة يمكن أن تترتب عليها جملة كوارث.. والحياة في لعبة الكارما هي فلسفة نرد.. أعني.. أن الحياة في فلسفة الكارما هي مجرّد كونسكونز.. خطأ يجرّ خطأ.. لعبة شطرنج أو نرد أو ربّما كرة قدم أو قرعة يانصيب.. من لا يعمل يخطئ أيضا..
يحاول ايغور الحفر في تفاصيل طفولته ويفاعته وكهولته وشيخوخته مستذكرا ومترصدا ومقتنصا.. أين يمكن أن تكون تلك الغلطة القاتلة.. الغلطة الجهنّمية الشاملة.. أو الغلطة التدميرية باصطلاح اريك فروم.. التي ما زال يكابد انعكاساتها ونتائجها..
ألا يوجد (أوت وي) من لعبة الكونسكونز.. يوجد!.. تدمير اللعبة الأصلية.. بداية لعبة جديدة وفق شروط مختلفة، تخالف شروط الأولى وتعالج الأخطاء السابقة..
الإطار العام لتلك الغلطة هو التنازل.. التنازل عن الإرادة الفردية والقرار.. التسليم الذاتي لقرارات الآخرين..
لا أنكر أني كنت سلبيا.. بمعنى (سالب)/ باسف.. ولم أهتم لإدارة حياتي بنفسي.. معتقدا أن عناية الآخرين بي نوع من الدلال.. بل أن الحباة نفسها من التفاهة بحيث لا تستحق الجهد الذاتي..
لقد ولدت بلا رغبات ولا أهداف ولا إرادة.. ربّما لم يكن لي وجود حقيقي باستثناء هذا الجسد الذي لا يعني شيئا على الإطلاق..
قال لي خالي: الزواج الناجح يجعل الرجل سعيدا، والزواج الفاشل يجعل الرجل فيلسوفا..!
أعجبني المنطق في فكرته.. لكني لم أسأله عن تجربته في الزواج.. هل هو سعيد أم فيلسوف.. ما زالت صورته مع عائلته أمامي.. أعرف أنه ليس سعيدا تماما.. ولا فيلسوفا.. ربّما بين بين..


(34)
دخلت الحرب وعمري عشرون عاما، وخرجت منها وأنا في الواحدة والثلاثين. خرجت منها ومن البلد والعالم، حالما بالهدوء والصفاء والخير.. أجدادنا كرهوا العثمانيين بسبب الحروب ونحن كرهنا الدولة بسبب التجنيد.. حروب العثمانيين نقلت الناس للقفقاس والبوسنة.. ونحن قادتنا الحروب إلى ماكنة الرأسمالية.. أهلونا اتهمونا بالموت وغسلوا ضمائرهم من ذكرنا.. ونحن بقينا منسيين ما بين بين.. لا في الغرب ولا في الشرق.. لا في الجنة ولا في النار.. نحجل ولا نسير.. مكروهين ومرفوضين من كلّ الأطراف.. نعيش بالقناع والمجاملات.. فإذا ذكرنا أنفسنا افرنقعوا عنا..
لم تكن بلدان العالم غير ذئاب جائعة، لا قيمة مقدسة عندها لغير البزنس اس يوج ول، الانسان مجرد سلعة رخيصة للمتاجرة والمقايضة.. في بورصة دولية تحت عناوين اللجوء والهجرة والاقامة وحقوق الانسان وحماية الطفل والمرأة..
الحياة التي كانت في بلدي قبل الحرب، لم أجد مثيلا لها في أي بلد في العالم.
لكن الكوارث كانت تترادف على بلدي، وتدفعه للأسفل على الخط السريع في أكثر من اتجاه.. خرجت ولم أعد.. صرت أنتقل من بلد إلى بلد، ومن ثقافة إلى ثقافة. كلما انتقل بلدي من جرح إلى جرح، ومن مأساة إلى كارثة.. ليس الانسان سوى اللحظة التي هو فيها، أما الماضي والمستقبل، فلا اعتبار لها.
منساقا بقدر أعمى، أحمق الخطى تبعت بوصلة الزمن، وفي داخلي يقين أن ساعة سنيني ستتوقف في الأربعين.. وفي بقية السنوات التسع تنقلت في خمسة بلدان. لم أحتفل بعيد ميلادي قطّ، ولم أرد على تهنئة لمناسبة حياة كانت مجرد عبء لم أتكيف معه.. عامي الأخير كان احتفالا بالموبقات.. حاولت أن أسرق من الزمن ما حرمنيه في الواقع، وما انتظرته وحلمت بتحققه، سعيت إليه بأظافري وألتهمته بنواجذي، مثل أسير حرب يساق إلى منصة الإعدام.. لكن اتباع الهوى والانحراف عن سيرورة القدر ما كان يعني التوفيق تماما.. لم تفلح، حتى الموبقات والآثام والخطايا، في عتقي من عبودية القدر الذي ركبني قبل أن أعي نفسي. أنا مسيّر، غير مخيّر. محكوم ولست حرا، عاجز حتى عن اختيار الموت أو ممارسة الخطأ..
لا أصدق أن قطرات الدم اللزجة واندفاعها الموجي مثل جلد الأفعى، هو ما يبقيني حيا.. تركت الطعام والشراب أياما، ولو أمكنني التوقف عن التنفس لفعلت، فلم يحدث شيء.. لم تتناقص طاقتي الحركية، والأهم منه، لم يتوقف تفكيري وهواجسي لحظة.. فمتى وكيف تتوقف دقات القلب والنبض والفكر والاحساس بالوجود.. وما الضامن، أن يتوقف الفكر أو يموت الدماغ.. أو تتوقف الرؤى والأحلام عند الموت.. حتى الآن، أيقن الأطباء أن الدماغ لا يموت مع الجسد، وأنه يستمر ساعات أو أياما، وفي حالتي ربما سنوات أو للأبد.. فأنا موجود لأفكر، لا لأعيش.. وأنا لا أفكر في الحياة والوجود والبشر، وانما بأشياء خارج الوجود، ليست من اختياري أنا.. التفكير ليس عملية إرادية، حتى التفكير ليس بإرادتي!..
ليست الحياة غير وهم، والانسان دودة.. مجرد اخطبوط من الدود والبكتريا والكائنات المجهرية التي يسمونها انزيمات وهورمونات.. هل رأيت هورمون بشكل دودة، خيط له رأس مثلث كالأفعى.. لماذا لا يصارح علماء التشريح الناس بحقيقتهم.. لماذا لا يفترضون خلع كيس الجلد الناعم الغشاش.. ليروا أنفسهم على حقيقتها الدودية.. عندما أمر كسرى بسلخ جلد قائده شاهين المكسور أمام جيش هرقل، أما عينيه، شك شهود العيان أن ما يظهر أمامهم بشر، وأن كسرى يمتلك قواه العقلية..
في رواية إسم الوردة، يكتشف المعلم أن أحد رهبان المطبخ مغرم بساحرة تأتيه في الليل من القرية المجاورة، تغويه بسحرها فيعطيها وجبات لحوم وأطعمة.. ويعترف الراهب بقوة سحر الفتاة عليه وضعف مشاعره أمامها.. فيخبره الراعي أن لا يهدر طاقته في الجمال الزائل الذي لا يتجاوز طبقة الجلد الخفيفة.. وما يتركه من تكورات وانحناءات بين فراغات الهيكل العظمي..
أما طريقة تحرير نفسه من كبوة المشاعر فهي بالنظر لما يختفي تحت الجلد من حبيبات دموية ولزوجة لمف تشمئز منه النفس ولا تطيق العين تصوره.. أليس هذا هو الانسان الذي دوده لا يموت وناره لا تطفأ.
إن لم يكن الانسان دودة غبية، فكيف يمكن تفسير الضياع والفوضى والخراب الذي يستغرق البشرية.. حياة غير مأسوف عليها، وعالم غير مأسوف عليه.. ومستقبل بلا ملامح او جدارة، لا في هاته الحياة ولا بعدها.. إذا كان الناس يفترسون بعضهم بعضا، فلماذا يستكثرون على الهواء أن يسخن، وعلى الماء أن يغلي، وباطن الأرض أن تقذف حممها ولافاتها، والسماء تتهاوى شهبا ونيازك، والشمس كسفا..
إذا كان دخول الشعاع في المادة غلطة.. كما يقول اسحق لوريا، فأن الانسان على رأس مخلوقات الطبيعة يدفع فاتورة غلط لم يكن له فيه يد.. بدل النزيف واللهاث العبثي.. فبداية العقل هي نهاية العبث.


(35)
في داخلي صوت يلازمني.. جزيرة أو جزائر.. جزيرة أو جزائر.. الجزيرة في الشرق والجزائر في الغرب.. في الشرق رمل وفي الغرب ماء.. لكن الاختيار ليس لي.. وليس لك.. الاختيار له وحده.. وأنا انتظرت.. انتظرت أن يحدث أو يأتي.. أو يقول لي شيئا..
في قرار مفاجئ حجزت على الطائرة النمساوية الى الجنوب التونسي في خطة لاعودة.. لكن حرس الحدود المرابطين كانوا على درجة من البياخة.. وكان المدعو ابن علي ما يزال في الحكم يومها.. تابعت ملفاته في حقوق الانسان وعناية الهيئات الغربية بوسامته وعنايته بمظهره الخارجي.. لكنني صدمت من أخلاق المرابطين..
تفقدت دارة المجاهد التونسي الحبيب بورقيبة(*) في المنستير.. أمر يوميّا في شارع الكورنيش من أمام البيت الذي ولد فيه.. وأنا أنزل في فندق الكورنيش القريب منه.. رغم أنه لا كورنيش هناك ولا هم يحزنون..
ليس سوى البحر المتوسط الذي أراقبه بشعور غامض.. متوقعا ظهور القراصنة من جهة ما.. لا أدري لماذا وجدت القراصنة لا يشبهون البشر ويختلفون عن الناس..
في شاطئ مارينا راقبت بعض الوافدين في قوارب شراعية.. مارينز.. نصف عراة وهم يصلحون أشرعتهم.. ابتعدت مسافة كافية.. لأتفادى مجرد التحية مع هؤلاء الشذاذ.. الشمس هناك ساطعة.. تقهر قشرة الرأس.. بعد ساعات غادرت.. وكأني أخرج من نفق زمن ميت..
كورنيش البصرة قبل الحرب أرقى من كورنيش مارينا على المتوسط بكثير.. تذكّرت ذلك عندما أردت أن أسكر ذات مرّة.. فذهبت الى فندق خاص بالغرابوه في خليج مارينا.. كان ذلك فظيعا..
وعندما حصلت تياترو الانتفاضة بقيادة برنار لويس اعتقدت ان التوانسة سئموا الرياء الأخلاقي وقرّروا أن يقولوا للغلط غلط.. فإذا الرياء يصبح منهج حكم ومجتمع..
لحسن الحظّ مررت مرّتين على قصر بورقيبه الجديد.. وفيه رفاته ورفات عائلته باعتبارهم آخر رموز عهد مضى وانقضى من فراعنة قرطاجنه!..
هكذا ودّع بورقيبة تونسه أيام الخير والاستقرار باهي، والأغاني والثقافة المحترمة.. قبل دخول الألفية الجديدة وانقلاب الخير والأغاني والثقافة والبشر، إلى اميركان روبوتس يتحركون بأجهزة التخابر الفضائي الخلوي -بلاك بيري- الذي يسجل مناطق حركتهم وكلّ أحاديثهم ونشاطاتهم...
ومرة اخرى لا أدري ما صلة ذلك بوصولي إلى لندره.. التي كنت أرفض زيارتها.. لانها احتلت بلادي وجعلتها في نفق الخراب..
لا أعرف كيف تناسيت ذلك.. واستجبت لدعوة شاعر من زبانية الجنرال السابقين.. جاء هو الآخر من بلد سكندنافي الى لندره.. قال أن كلّ عراقيي المهجر والمثقفين سنجتمع هناك.. من أجل غاية في نفس ابن اسحق..
ثمة أمور لا يمكن التحادث بها في التلفون..
زرت لندره ثلاث مرات وفي كلّ مرة ينتظرني في محطة فيكتوريا.. ومن هناك نفترق.. ولم نتحادث ابدا في امور لا يمكن التحادث بها في التلفون.. في المرّة الثالثة تركز الحديث على كيفية ترتيب الإقامة وتسوية الأمر بمبلغ من المال..
هكذا تمت الأمور وانتهت للاستقرار في لندره.. من غير تخطيط أو تفكير حقيقي.. ولم أسمع شيئا عن اجتماع المهجر.. واقع لندره لا يسمح بالتفكير في شيء جادّ.. أنها أفضل مكان لقتل الوقت وعدم التفكير وتوزيع السآمة..
منظر العرب والأفارقة والهنود والصينين.. البشرية من كل صنف ولون وكثرة المقاهي والمطاعم والمتاجر الشرقية والعربية.. أمر يجعلك تنسى نفسك وتعود نوستالجيا لتلك السنين التي أكلها الجراد..
الفكرة أن بعض القرارات الكبيرة تتنفذ بسهولة غريبة.. وكأن كلّ الظروف تتعاون في العمل باتجاهها.. بينما قرارات أسهل منها تستعصي التطبيق.. ولا تتحقق..
ـــــــــــــــــــــــ
• الحبيب بورقيبة [1903/ 1957- 1987/ 2000م] محامي وسياسي تونسي، من مواليد مدينة المنستير الجنوبية على ساحل المتوسط، وفيها بنى مقبرة عائلية داخل قصر فخم بعد خلعه من الحكم، جمع فيه كل قبور العائلة. قاد حركة الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، مؤسس الجمهورية التونسية وأول رئيس لها. شخصية لبرالية تنويرية رائدة، حاول ترويج مشروع ثورة ثقافية عربية، في زمن كارزما عبد الناصر والحركة القومية. تعرض لانقلاب قصر من قبل حرسه الشخصي زين العابدين بن علي [1936/ 1987م 2011م/ ؟] من مواليد مدينة سوسة الساحلية جنوبي تونس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا