الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطبقة الرثة والإستبداد الشرقي في العراق/الجزء الثاني

مظهر محمد صالح

2018 / 9 / 5
الادارة و الاقتصاد


الطبقة الرثة والإستبداد الشرقي في العراق/الجزء الثاني

مظهر محمد صالح

تفكك الطبقة الرثة وإعادة تشكيلها
اتسم العقد الاجتماعي المنشيء للنمو الاقتصادي بترابطٍ أدت فيه حركة المدن دورها الناشط، بعد أن تزايدت موارد الحكومة المركزية وبدأت عوائد النفط تؤسس لأنموذج إقتصادي جعل من قوة العمل الريفية مصدر جذب نحو اقتصاد المدينة/السوق.
فمقابل التكامل الذي جرى بين الدولة والسوق، ومنذُ انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهدت أرياف العراق ظاهرة تفكك في هيراركية (هرمية) السلطة الريفية المسيطرة قانونياً وإقتصادياً على طبقة الفلاحين. فعنفوان وزخم الدولة أمام الحركة السياسية المبلورة للطبقة العاملة الناشئة والتي آزرتها القوى السياسية المثقفة في المدن العراقية، دفع النظام الملكي أن يربط سياساته بتحقيق أهداف ومصالح حقيقية وراسخة لمجتمع المدن العراقية والسوق الوطنية المنتجة التي قوامها الطبقة الوسطى العراقية ومقوماتها السياسية الفاعلة.
فالإنتاج ولا سيما التصنيع الذي شهدته المدن قد جسّر العلاقة بين حركة الدولة وحركة السوق ما عظّم من قدرة الإنتاج الصناعي والخدمي على الاستمرار والتواصل. فالأسواق هي الرابط في حركة التنمية، وبسبب مصالحها وتطلعاتها إلى النمو والتوسع فإنها ترعى الإبداع والابتكار وتدعم منظومة العدل والثقة ويتعزز التكامل بينها وبين الدولة المركزية.
وإزاء حالة الضعف المؤسسي والتنظيمي لقوى شبه الإقطاع وعدم القدرة على اشباع الندرة لدى الفلاحين، والتحولات العسكرية الخطيرة التي سببتها الحرب العالمية الثانية على ساحة الصراع السياسي في العراق (كحركة رشيد عالي الكيلاني 1941م ومن قبله انقلاب بكر صدقي 1936م)، تحول الإقطاعيون من طبقة قائدة "بذاتها" تهيمن على رأس الهرم الإجتماعي إلى طبقة منعزلة منغمسة "لذاتها". وبهذا شهد العراق واحدة من أكبر الهجرات الداخلية نحو هوامش المدن وترك الريف، والتطلع إلى الإنصهار بالطبقة العاملة كقوة تاريخية مدنية، وولوج الحياة السياسية الوطنية في مراكز المدن كقوى اجتماعية ديناميكية متطلعة إلى المدنية، والتخلص من كونهم طبقة رثة في مجتمع قمعي ريفي استغلالي ستاتيكي ينعدم فيه اليقين والوفرة والتطلع إلى المستقبل المزدهر المتفائل.
ونتيجة لما تقدم، برز أنموذج لاقتصاد السوق في المدينة العراقية كان من القوة بمكان في تفكيك منظومة العمل الريفي شبه الإقطاعية. وما أقصده هو الميل إلى تطبيق أنموذج الخبير الإقتصادي "سير آرثر لويس" Sir Arthur Lewis (1915 – 1991)م: "التنمية الاقتصادية في ظل عرض غير محدود من قوة العمل". فبناء التصورات عن مستقبل التنمية الإقتصادية والرفاهية في العراق كان مشترطاً بولادة قطاعات الحداثة الرأسمالية المنتجة من خارج القطاع النفطي، والتي يمكن لتلك القطاعات الحديثة أن تتعامل بديناميكية وتفاعلية عالية مع القوى البشرية التي تدفع بها أرياف العراق أو حتى الإستخدام المنتج للقوى السكانية العشوائية التي تركت الارياف وشكلت حواضن بشرية حول المدن وهي تتطلع نحو الإنصهار بالقوة العاملة.
ففي نظريته التي نشرها في الحولية الاقتصادية لمدرسة مانشستر والمذكورة آنفاً، يرى لويس أن القطاع "الرأسمالي" يتطور ويزدهر عن طريق العمل المتدفق إليه من "القطاع اللا رأسمالي" المتخلف الذي يعيش أفراده على حافات الكفاف. ففي مراحل التنمية المبكرة، فإن حالة العرض "غير المحدود" من العمل المتدفق من اقتصاد الكفاف، يعني في جوهره أن القطاع الرأسمالي (الحداثة) بمقدوره أن يتوسع لمدة من الزمن دون الحاجة إلى تزايد مستويات الأجور، وإن هذا يؤدي إلى تحقيق عوائد ومردودات مرتفعة لرأس المال المستثمر مما يُمكَن من إعادة استثمار الأرباح وتعظيم التراكم المادي الرأسمالي مرة أخرى.
وبهذا فإن تزايد خزين رأس المال سيقود القوى الرأسمالية إلى توسيع استخدامهم للعمل المتدفق من اقتصاد حد الكفاف بعد تحقق شيء من المهارة. وبعبارة أخرى، إن التراكم الرأسمالي يمثل إحلالاً للعمل الماهر في الإنتاج، وإن عملية التراكم الرأسمالي ستصبح ذات استدامة ذاتية الدفع وتقود إلى اتساع التحديث التكنولوجي والتنمية الاقتصادية وتصاعد معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وبهذا فعند النقطة التي يُمتص فيها العمل الفائض كله في قطاع الكفاف، ويُزج في عجلة القطاع الحديث، ويبلغ التراكم الرأسمالي مستوى من السعة تدفع إلى تزايد الأج، فإن هذا الأمر يطلق عليه بـ"نقطة لويس في الانتقال او التحول"
إنتهى العقد الاجتماعي الثنائي الملكي من الناحية التاريخية، واندمجت البلاد بعقد اجتماعي موحد، حيث أزالت الجمهورية الاولى في 14 تموز 1958 الظروف المنشئة للطبقة الاجتماعية الرثة في أرياف العراق الشاسعة، وذلك بإلغاء النظام شبه الإقطاعي وإحلال قوانين الإصلاح الزراعي محله؛ فضلاً عن إلغاء قانون العشائر وإخضاع البلاد إلى نظام قانوني واحد يتطلبه "العقد الاجتماعي الموحد". وهذا كان يعني أن ثمة تلاحماً بات قريباً بين الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة صاحبة المشروع الوطني المتجانس والموحد للعراق.
أسس الحصار الإقتصادي الدولي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق في نهايات سنة 1990، بسبب غزو النظام السياسي السابق لدولة الكويت، نظاماً ريعياً مركزياً لم يعد فيه الريع النفطي مصدر وجوده وديمومته في ممارسة الإستبداد الشرقي المستحدث (عبر ما تنتجه الأرض من نفط كمورد طبيعي)، ما دفع بمنظومة الإستبداد الشرقية المستحدثة بالعودة إلى الأنماط القديمة في الإستبداد، وإحياء أنموذج مقارب من حيث إعادة إنتاج ثنائية العقد الاجتماعي لمصلحة القوى النافذة في أرياف العراق، والعودة إلى الخوف من ندرة الطعام، وإشاعة حالة اللايقين بين الناس، وتحول المدينة العراقية وطبقتها الوسطى إلى قوى اجتماعية رثة تعتمد الريف وتسايره في التصرف.
كما ارتفع العوز في المدينة إلى نسبة بلغت قرابة 80%من سكانه ممن هم تحت مستويات خطوط الفقر. فتمويل الموازنة العامة بالتضخم بنسبة 85% من مواردها خلال العقد التسعيني عن طريق الإصدار النقدي، بات مصدرَ نهب واستلاب للفوائض الاقتصادية للطبقة الوسطى وسحق تراكماتها وتعطيل السوق المنتجة في مدن البلاد وجعلها أسواق مضاربة سعرية ملحقة بالقرار الإقتصادي للريف؛ فضلاً عن تحول مجتمع المدينة إلى صفوف طبقته الفقيرة.
واللافت، إن العقد الإجتماعي الثنائي تطلب العمل على توفير الغذاء الميسر لإدامة عمل المنظومة المركزية ومفاصل استمرار استبدادها، اذ لوحظ أن اكثر من 50% من تمويل عجز الموازنة يستغرقه الدعم وبشكل خاص دعم أسعار المحاصيل الزراعية. وإن معامل توزيع الدخل (معامل جيني Gini) أخذ يعمل لمصلحة الُملاك في الريف وقواهم النافذة وتركز ثرواتهم التي ساعد الريع التضخمي على تعاظمها، إذ هبط معامل جني لتوزيع الدخل من 40% إلى 30% لدى سكان الريف الذين يشكلون ثلث سكان العراق، وارتفع بالنسبة نفسها لدى سكان المدن الذين أخذوا يتعرضون إلى حالات الفقر بسبب تدهور الدخل وسوء توزيعه وتآكله وفق آليات التضخم الجامح الذي ارتفع -مع اشتداد البطالة- إلى مرتبتين عشريتين.
لقد أدى هذا الأمر إلى أن تحصل المؤسسة الإجتماعية الريفية على قدر عال من الاستقلال والديناميكية في صنع القرار السياسي المركزي، وذلك لتوافر عاملين أساسيين: أولهما التطور السريع في ملكية الأراضي الزراعية وحيازتها وظهور قوى مُلكية جديدة من المزارعين المتنفذين؛ والثاني التمتع بإرث قديم كان يعد نوعاً من أنواع الريع التعويضي للإستبداد الشرقي المركزي وهو عسكرة الأرياف.
وبهذا فقد أنتج عقد الحصار طبقة اجتماعية رثة على مستوى المدن والأرياف. فالخوف من الندرة والجوع والمجهول هي عوامل بشرية ستاتيكية لا تولّد مشروعاً وطنياً، بل تنتج رثاثة تقودها مدن "جائعة" في ظل الولادة الجديدة للعقد الإجتماعي الثنائي.
فسلطان الحكومة المركزية تقاسَمه مُلاك الارض ومنتجو الغلال في أرياف العراق إبان ذلك العقد الذي انعزل فيه العراق عن العالم. وبدأت القرارات الإقتصادية والسياسية تصدر تحت تأثير الأرياف ونفوذها الإقتصادي والإجتماعي من خلال التكوينات العشائرية وأعرافها، والعودة ضمناً إلى قانون العشائر، إذ أسس النظام السياسي السابق دائرة كبرى في ديوان الرئاسة لإدارة شؤون العشائر في تسعينيات القرن الماضي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 19-4-2024 بالصاغة


.. تطور كبير فى أسعار الذهب بالسوق المصرية




.. صندوق النقد يحذر... أزمة الشرق الأوسط تربك الاقتصاد في المنط


.. صندوق النقد الدولي: تحرير سعر الصرف عزز تدفق رؤوس الأموال لل




.. عقوبات أميركية على شخصيات بارزة وشركات إنتاج الطائرات المسيّ