الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهجرة لأمريكا ( 1 )

أحمد صبحى منصور

2018 / 9 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الهجرة لأمريكا ( 1 )
قال : جئت لأمريكا مع زوجتى ، وأريد أن أستقر فيها .
قلت : لماذا ؟ إسمح لى لأنه لا تبدو عليك الحاجة للإستقرار فى أمريكا ، فأعرف أنك ميسور ومن أسرة ثرية .
قال : كان هذا عندما كنت تعرفنا ونحن فى مصر. كنا ننتمى للشريحة العليا من الطبقة الوسطى. نسكن فى المقطم ، ووالدى كما تعرفه كان محاميا مرموقا صاحب مكتب فى وسط البلد . وتخرجت طبيبا . وعملت فى أحد المستشفيات الاستثمارية ، وزوجتى طبيبة أيضا . ولكن الأحوال تدهورت . مات أبى قبل أن يشهد تدهور مصر . الطبقة المتوسطة تتآكل ، والشريحة الدنيا منها هبطت الى مستنقع الفقر. ونحن نشهد سوء أحوالنا يزداد يوما بعض يوم. الدخل ثابت ، والأسعار تقفز يوميا فوق طاقة الدخل ، ولو تحملنا فما ذنب أولادنا. نحن نؤخر الإنجاب لأننا لا نثق فى المستقبل. ولهذا جئنا فى رحلة إستكشاف لنرى هل يمكن أن نستقر فى أمريكا .
قلت : وماذا فعلتم منذ جئتم لأمريكا ؟
قال : ماذا تعنى ؟
قلت : طالما تسألنى المشورة فلا بد أن نتكلم بصدق ودون حرج . أنت تريد البقاء هنا . فماذا فعلت منذ جئت ؟ هل أنفقت كل ما معك من دولارات ؟ واين تعيش ؟
قال : أنا فى ضيافة أحد الأقارب ، وهو يسكن فى بيت رائع . ونحن نقتصد فى الانفاق حتى لا تتبخر الدولارات من أيدينا.
قلت: يعنى انك تتصرف كسائح ، تنفق أموالك ولكن مقتصدا .
قال : نعم.
قلت : ومتى جئتم الى هنا ؟
قال : من ثلاثة اشهر ، وبقى لنا ثلاثة اشهر طبقا للفيزا .
قلت : نتكلم بصراحة : ألم تقم بأى عمل هنا يدر دخلا ولو قليلا ؟
قال : بصراحة : لا . طبيب مثلى ماذا يفعل ؟!
قلت : شهادتك فى الطب لا تنفع هنا ، يعنى لا بد أن تحصل على معادلة ، وهى صعب الحصول عليها. ألا تعرف ذلك ؟
قال : أعرف.
قلت : هذا يعنى لو قررت البقاء هنا فعليك أن ترضى بأى عمل . هناك أطباء مثلك بل هناك من معه دكتوراة فى الطب ويضطر للعمل فيما لا يمكن أن تتصوره . وهذا كى يبقى حيا.
قال : أعرف هذا ، ولهذا أنا محتار .
قلت : ليست هذه هى المشكلة الوحيدة . المشكلة الكبرى هى كيف تكون إقامتك شرعية لتعيش فى أمان . فأمريكا اليوم فى الادارة الحالية لا ترحب بالمهاجرين ، وتقوم بتعقيد الاجراءات . أى تحتاج الى محامى هجرة بارع يجد لك مخرجا. وهناك الكثير من المخارج .
قال : إعطنى فكرة.
قلت : قبل هذا لا بد أن تحل مشكلة التردد
قال: لا أفهم.!
قلت : أنت متردد هل تبقى فى أمريكا أو ترجع الى مصر .
قال : نعم ولهذا اسألك .
قلت : انت عشت وزوجتك ثلاثة اشهر ، وهى تكفى لأن تقرر البقاء أم الرجوع لمصر . ولتحدد هذا الآن ؟
قال : لماذا ؟
قلت : لأنك لو قررت البقاء فلا بد أن توطّن نفسك من الآن على الصبر والتحمل ، وأن ترضى بأى عمل مؤقت فى أى متجر عربى يرضى أن يعطى عملا لمن ليست معه إقامة ، وأن تبحث من الآن عن سكن مستقل لك ولزوجتك ، وأن تعثر على محامى يرشدك الى أفضل طريق تحصل به على إقامة شرعية. والمهم أن تبدأ كل هذا الآن وقبل أن تنتهى مدة الفيزا الممنوحة لك حتى ( لا تكسر الفيزا ) كما يقولون وتكون لها عواقب وخيمة. أما إذا رأيت فى نفسك عدم الاستعداد للتضحية والصبر فإرجع لمصر ، و كما يقول المصريون ( خدها من قصيرها). أنت الآن فى ضيافة قريبك ، ونفقاتك قليلة لأنك لا تدفع الايجار، والايجارات غالية ، وتعيش الآن فى المستوى الذى يعيش فيه قريبك الذى تسكن عنده . سيختلف الوضع حين تستقل بنفسك ، لن تجد بيتا رائعا مثل بيت قريبك ، ولن تعيش فى نفس مستواه. هو ناضل وتعب وشقى لكى يصل الى الحال الذى تراه فيه الآن. أنت عليك أن تبدأ من الصفر ، وامامك سنوات طوال لكى تحقق بعض ما حققه قريبك ، مع ملاحظة أنك فى منتصف العمر .
قال : ولكن الأمر ليس بهذه الصعوبة ، واسمح لى أن أشرح لك ؟
قلت : تفضل .
قال : قابلت زميلا من أيام الدراسة . هو مسيحى ، وجاء أمريكا من سنتين فقط ، وإستضافنى فى شقته الرائعة ، ولديه عمل محترم ، ويأخذ راتبا معقولا .
قلت : كيف حدث هذا ؟
قال : هو حكى لى القصة. هناك تنسيق بين الكنيسة فى مصر والكنيسة هنا . الكنيسة فى مصر تجهز حالات موثقة بالاضطهاد للأفراد ، ويتقدمون للسفارة ويحصلون على تأشيرة ، ويأتون الى أمريكا فتستضيفهم الكنيسة هنا وتتولى أمرهم ، بدءا من التقديم للحصول على اللجوء الى الإقامة والعمل . والذى يعمل عليه أن يقدم جزءا من دخله ليساعد شخصا آخر مسيحيا مضطهدا ليأتى . وهى عملية مستمرة . وبالتالى لا يجد القبطى المهاجر تلك الصعوبات التى تتكلم أنت عنها .
قلت : معظم الأقباط مظلومون فعلا ، ويتعرضون لإضطهاد يشهده العالم كله ، ومن حقهم الهجرة بأنفسهم تلافيا لهذا الاضطهاد . وأمريكا تتفهم هذا ، وهى على حق . هذا لا ينطبق عليك لأنك مسلم ولست قبطيا .
قال : ماذا إذا قلت إننى أتعرض لإضطهاد بسبب السياسة أو الدين مثلك أنت ؟
قلت : لا بد من إثباتات قوية وهى ليست معك . أى إن وضعك صعب .
قال : أنا متفهم لكلامك ، ولكن إسمح لى .. لا زلت مترددا . وحتى لا أعرف لماذا أنا متردد .
قلت : أنا أعرف لماذا أنت متردد ؟
قال مندهشا : معقول ؟ هل تعرفنى أكثر مما أعرف نفسى ؟
قلت : الذى يقرر البقاء هنا ويتحمل هو الفقير المصرى المسلم الذى يعيش فى مصر على حافة الجوع ، ولم يعد حتى قادرا على أن يحلم بالمستقبل، أو هو المناضل السياسى الذى يعيش فى خوف ولا يجد ملجأ آخر غير هنا. هذا الجائع وذاك الخائف إذا حصل على تأشيرة وجاء أمريكا فهو يفعل المستحيل ليبقى ، وهو مدجج بكل أسلحة الصبر والصمود ، وينهض للعمل لا يضيع وقتا . هذا لأنه ليس له أى مجال للعيش فى مصر. أما الذى لم يصل الى هذه المرحلة مثلك فهو يقارن بين حاله فى مصر ( بعض المعاناة ) وحاله هنا لو إستقر فى أمريكا ( بعض المعاناة ) وهو يقارن بين مدى المعاناة هنا والمعاناة هناك. وطالما هو يقارن وطالما هو متردد فالأفضل له أن يرجع الى مصر.
قال : فماذا إذا قررت الآن أن أبقى ؟
قلت : لا بد أن توافقك زوجتك لأنها ستعانى مثلك .
قال : لنفرض أنها وافقت وصممت على البقاء مثلى ؟
قلت : الكلام الشفهى سهل جدا . ولكن الواقع صعب ، ويستلزم منك ومن زوجتك تغيير ثقافتكما .
قال : لا أفهم.
قلت : أضرب لك مثلا بسيطا. نحن الآن فى هذه القهوة العربية . لو قررت البقاء فسيكون منتهى أملك أن يوافق صاحبها على أن تعمل جرسونا فيها .
بدا الإمتعاض على وجهه .
قلت : ما يبدو على وجهك هو الإجابة . ماذا إذا عملت زوجتك جرسونة فى هذه القهوة مثل تلك السيدة التى تقدم لنا القهوة ؟
قال : نحن نرفض مجرد التفكير فى هذا .!
قلت : هذا ما أقصده بتغيير الثقافة . ثقافتنا نحن المصريين والعرب متخلفة. نحن نحتقر العمل الذى لا يناسبنا . هنا يحترمون العمل الشريف مهما كان . لا شك إنك رأيت فتيات شقراوات أمريكيات يعملن فى الكافتيريات والمطاعم وفى بوابات العمارت، وقد تكون إحداهن ملكة جمال ، وقد يكون أبوها صاحب المبنى ، وقد تكون حاصلة على الماجيستير ولم تعثر على عمل مناسب ، بل قد تعثر على العمل المناسب ولكن يشترطون عليها أن تعمل متطوعة بأجر رمزى قبل تعيينها. وحتى عند تعيينها فى شركة أو مؤسسة بما يناسب مؤهلاتها فلا بد أن يكون التعيين مؤقتا ، لكى يستوثقوا من كفاءتها . هذه هى ثقافة العمل فى أمريكا والغرب ، وبدون العمل يتحول الأمريكى المولود من أجداد أمريكيين الى متشرد فى الشارع بلا مأوى . لا شك أنك رأيت جموع المتشردين والمتسولين .
قال : نعم .. وتعجبت .!
قلت : لأنهم فقدوا العمل فلم يعد لديهم مورد رزق ، وعليهم أقساط السيارة والسكن وغير ذلك ، وقد يقعون فى الإدمان ، وتتدمر حياتهم بين التشرد أو السجن .
قال : هل من الممكن أن اجد وظيفة قريبة من تخصصى ؟
قلت : ممكن طبعا . ولكن ليس الآن . هناك طبيب حاصل على دكتوراة ، وعجز عن الحصول على المعادلة ، وأنقذ نفسه بأن عمل فى محطة بنزين ، وصبر حتى تأقلم مع الحياة الأمريكية ، ودخل فى منافسة هائلة بعد عدة سنوات فى سبيل الحصول على وظيفة مترجم من الانجليزية للعربية فى أحد المستشفيات . وتحسّن حاله ولكن بعد حوالى خمس سنوات حصل خلالها على الإقامة ، لأنه بدونها لا يمكن أن تعمل فى وظيفة مثل هذه . الذى ليست لديه إقامة شرعية يتعين عليه أن ينافس الأسبان وغيرهم من المهاجرين غير الشرعيين فى أمريكا ، وهم يقبلون أى أجر ، وأى عمل ، ويعملون بكل همّة وإخلاص . وهناك أماكن يتجمعون فيها ، حيث يأتى صاحب العمل بسيارت البيك أب فيتزاحمون عليه يتوسلون له ، ويختار منهم ألقوى والذى يرضى بأقل أجر .
قال : وماذا عن العرب والمصريين ؟
قلت :هناك مصريون وعرب ناجحون منهم مسلمون وأكثريتهم أقباط . أغلب العرب والمصريين يتمتعون بسُمعة سيئة فى أمريكا ، سواء صاحب العمل ومن يعمل . صاحب العمل يستغل من ليست معه إقامة أبشع إستغلال . والعامل العربى والمصرى لا يؤدى عمله بإخلاص . وطبعا هناك إستثناءات . ولكن نتحدث عن الأغلبية التى ستتعامل معها لو قررت البقاء هنا .
قال : أعطيتنى صورة قاتمة .
قلت : ولكنها صادقة . وعليك أن تقرر بعد أن عرفت الوضع.
وقف وهتف : جاى لك يا سيسى .!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah


.. #shorts -75- Al-baqarah




.. #shorts -81- Al-baqarah