الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزمان المضيء و عتمة الحاضر

هيثم بن محمد شطورو

2018 / 9 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"ـ ما أحلى كل زمان إلا الآن يا دكتور."
و الماضي دوما جميل، و لا نستحضر منه إلا ما هو جميل، و هو بؤرة الحنين الذي يتماوج في النـفـس متهاديا مطلقا شذاه البحري العطر بالخلود الخلاب في النـفـس. و هي الطفولة دوما تُحدث دبـيـبها الساحر الجميل في القلب، و تبدو الاحلام المنبعـثة منها أو من بعض ذكرياتها المنسية كأكبر متعة يمكن ان تـثـقب مجرى الزمن الحاضر البئيس، خاصة و انها تـتلون بأقصى التطلعات الإغتباطية الساحرة الاواقعية لتلك الذكريات الطفولية..
و بقدر بؤس الحاضر، بقدر فردوسية الماضي. فالماضي أنت و ما لست أنت في الوقت نفسه. أنت كحضور و لكنه حضور شبه مطلق بما أنه منتهي الآن في الحاضر و موجود في النفس بل فاعل في الكينونة الذاتية كأمر لا ينتهي، فهو مطلق الوجود و العدم في نفس الوقت، و بالتالي فمكمن السحر في الماضي هو الحرية، لأن استحضاره لا يمكن ان يكون اعادة عيشه بقـلـقه و قيوده الواقعية و انما كلحظات منجزة و منـتـفية واقعيا، و لكنها في الوقت نفسه شبه خالدة في وجدانك و تكوينك و عـقـلك بما انها استحالت الى منجز موجز عصارته أو نواته التي هي فعلك كذاتية حرة و اسقاطه على الوجود برمته فتجده يشع جميعه بالحرية..
"ما أحلى ايام زمان".. ذاك انه وجود أنجز و انتهى، و في الإنتهى تحررت أنت و خرجت، و تصبح عملية دخولك اليه في عـقـلك فقط، فتـدخله خفيفا مرحا شـفافا متسارعا و يخرج منك أو تخرج منه بنفس تلك الأوصاف للمشعور، و كل ما هو عقلي فهو حر و لذته ذاك الاغتباط. و الاغتباط هو اللذة و الالم في نفس الوقت. انه لذة الانهائي و ألم النهائي متمازجان و متخالطان. الاغتباط في القلب هو شعور التماس مع الملكوت الاعلى...
ـ ما أحلى كل زمان إلا الآن يا دكتور.
قال هذه الجملة "عمر الحمزاوي" بطل رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ الى طبيـبه النفسي. هناك مسافة يجب ذكرها الآن، او بالأحرى ذكر نقطة الانطلاق التي منها وجد نفسه في عيادة طبيب نفسي لم يجد له عـلة نفسية وفق علم النفس طبعا.
"عمر الحمزاوي" محامي ناجح و متخم بالمال و بزوجة جميلة تحبه. و ذات حريف في نزاع عقاري حول ملكية أرض قال المحامي، و هو كبورجوازي يعبر عن موقـفه المبطن من النظام الناصري الاشتراكي:
ـ ما فائدة ان تربح الارض اليوم و تأخذها الحكومة غدا؟
قال الحريف:
ـ نحن نعيش حياتـنا و نعرف ان الله سيأخذها.
انها الجملة المحورية في "الشحاذ"، و كل محور تدور حوله الدوائر. نطق بها الفلاح بكل اعتيادية و أريحية، و ذاك بمعنى تـقبله التام و استسلامه لمنطق الحياة الكلي و اشارة الى وصفته السياسية في الاشتراكية. الحياة التي نعيشها بشغف و نحن على علم بنهايتها، أو القول ان الله سيأخذها كالقول ان الله سيأخذ أمانـته او سيسترجع نفسه. نفسه التي هي نفس العائش الميت، و كأن الانسان هو الله الذي يعيش الفناء بوعي الفناء، و التي تعبر من خلال سياقها اللغوي فقط التي ترد فيه، انها نفس الله. فنفس الانسان هي نفس الله، و إنا للاه و إنا اليه راجعون..
و أمام هذه الكلية فالتملك و الملكية وهم. امام الله الذي سيسترجع نفسه فالحياة مجرد حضور وقتي و سفر، و الاستقرار و التملك وهم أساسه التسليم و الاعتياد و ليس منطق الوجود الكلي و بالتالي العقل الكلي..
كم تبدو الامور واضحة عند الفلاح المسلم و عند المسلم بشكل عام و ان كان يأخذها باستسلامية دون تـفكير، فما بالك أن نفكر في كلماته. انك ستجد نفسك في عمق العمق. انك تبحر في البحر الهيغلي، و لعله لم يجانب الصواب من قال ان الديالكتيك الهيغلي هو الاسلام او القرآن كبناء فلسفي...
"و الليل نسلخ منه النهار" لا تهم بدوي الصحراء في شيء و لا انتلجنسيا العالم آنذاك، و لكنه الله يعبر عن ديالكتيك العالم، و فعلا فـقد بدأت المسألة من الليل و النهار فهل الليل هو الحقيقة ام النهار؟
في الشمس أم في القمر إبراهيميا؟ كيف نتحدث عن حقيقة في الزائل او المتخفي او في الذاهب و الآتي او في المتجلي و المستـتر بتـقابله الثـنائي مع نقيضه؟
الحقيقة ليست فيما يظهر و انما في الحركة التي توحد التـناقضات الظاهرة. في الصيرورة الهيغلية، صيرورة الوجود و العدم. فالباب حقيقته ليست في كونه مغلقا او مفتوحا و انما في حركته بين الغلق و الفتح و إلا فما حاجتـنا الى الباب؟
إذن فالحقيقة لا تلمس و انما تناقضاتها كتجليات ثنائية متناقضة هي التي تلمس او تتجلى او ما يعبر عنه بالوجود المادي برغم الغموض الكبير الذي يكتسيه التوصيف بالمادي رغم شيوع هذا التوصيف.
ـ نحن نعيش حياتـنا و نعلم ان الله سيأخذها.
تبدو هي السر الكامن وراء التـفاؤلية الاسلامية الانهائية برغم الكارثية الواقعية. انها السر الكامن وراء انعدام الفناء لبصيص النور في الأعماق و هي السر الكامن وراء البقاء رغم كل شيء و خلق امكانات المقاومة و الحياة و الانبعاثات الانوجادية الجماعية و الفردية التي تبدو مفاجئة. انها السر الكامن وراء طاقـة الصبر الكبرى و وراء الاستعـصاء عن المسخ النهائي برغم الجحيم الواقعي، برغم السكن في المقابر و المزابل، برغم الدمار، برغم تمريغ الانوف في الاوحال بعد المجد و الامجاد....
لكن ماذا لو كانت صياغة الجملة على النحو التالي:
" نحن نعيش حياتـنا و نعرف اننا سنموت".
اننا هنا في سياق مختلف. اننا هنا في سياق أدبي اوربي معاصر ينمحي منه التجاوز او النفاذ فيما وراء الليل و النهار كتجليات للمطلق. اننا امام المجهول عند حافة نهاية الجملة، و نعود للبدء في القراءة من جديد، فإما ان نحدد وجهتـنا نحو الشطر الاول فتكون الحياة وحدها و بالتالي كيف نعيشها و نشتغل حول صناعة و خلق تـقـنيات عيشها و هو الحاصل تـقريبا الآن، و لكن الآن لحظة هاربة. و إما ان نحدد وجهتـنا نحو الشطر الثاني و هي اننا نعرف اننا سنموت فيكون العدم و العدمية و الاستـنجاد بالنرفانا و هذا ما يشهده الغرب من اقبال على البوذية التي يأخذ منها تجربة الانعدامية لحواس مثـقلة بتخمتها..
و برغم المحاولة الهايدغرية في بناء ميتافيزيقا ارضية إلا انها لم تكسر طوق الكآبة الوجودية. فالحياة او الكينونة الانسانية كخلق و تجاوز دائم للتكينن بواسطة الموت او فكرة الموت او الميتات المتواصلة، و هي حالة انسانية عامة، فالوالدان يوصيان الابناء بالحذر من كذا و كذا اي الحذر من الموت في النهاية و المتجسد في اي مصيـبة يمكن ان تحدث، و هي فكرة الموت الحاضرة في كل انجاز ما ان يتم او في الاقدام و الخوف من الفشل، و هلم جرا..
إلا ان الأفـق محدود، و كأن "هيدغر" في الغابة السوداء كان يشرعن لحظة الغروب فلسفيا للحضارة الأوربية و إلا كيف يمكننا تـفسير التحاق شباب اوربي من اصول اوربية بداعش، و كيف يمكننا تفسير سفر الفتاة الامريكية البيضاء جدا "راشال" الى غزة و استـشهادها و كأنها فلسطينية من جذور القهر و الاجتـثاث الصهيوني من الارض و الامان و الكرامة البشرية..
ألا يمكن قراءة عديد الوقائع كظواهر اوربية و غربية تؤشر للرغبة في الانعتاق و الخروج من محدودية الميتافيزيقا الارضية التي تـشكلت فيما يسمى بالفلسفة الوجودية ؟
أليست اذن قاصرة و محدودة و مقيدة للنفس الانسانية الحرة في ذاتها باطلاقية هي جملة " نعيش حياتنا و نعرف اننا سنموت"؟
أليس التعبير الأعمق الذي يتساوق مع الحرية المطلقة للنفس الانسانية في ذاتها هي التي صاغها "نجيب محفوظ" في "الشحاذ" و القائلة:
ـ إننا نعيش حياتـنا و نعرف ان الله سيأخذنها.
لكن ليس من أمر معلق في الهواء. الكاتب يوسع الدائرة و يشبكها. ليست هذه الجملة فقط.. هناك واقعة.. خروج رفيقه القديم بعدما قضى عشرين سنة في السجن. رفيقه المتـقد حياة. رفيقه الذي تركه و ترك النضال لأجل الاشتراكية و العدالة الاجتماعية و الحرية السياسية، ليبني صرح ثروته الشخصية و حريته الفردية، فإذ به يغرق في المتعة الحسية عله ينجي نفسه من جحيم حاضره. جحيم الرائي لحقارته و لانطفاء جذوة روحه. يبحث عن الله وحيدا بعدما ترك الله في ساحة النضال لأجل سعادة الكل و الثروة للجميع و العدالة و الحرية.. كأن الكاتب يقول انه هيهات ان تجد الله بمفردك فالله هو المطلق الكلي و انت كفرد مجرد ذرة تائهة في الكون.. و ما وهم الخلاص الفردي إلا جحيم الذات و نارها المستعرة و قد اضاعت ذاتها..ينتهي عمر الحمزاوي فقيرا مجنونا وحيدا و كأنه مطارد من نفسه..
"ما أحلى كل زمان إلا الآن يا دكتور"..
الماضي النضالي الساحر الذي كان فيه البوليس يطارده لأنه يناضل لأجل الكل.. يا له من ماضي يبعث على الغبطة، و يا له من حاضر بورجوازي تكونت امواله بالسرقة المشروعة هروبا من نفسه.. يا له من حاضر بائس تطارده فيه نفسه الزكية الطاهرة القديمة، و ان تمكن من الافلات من البوليس فانه لم يتمكن من الافلات من نفسه تلك حتى مات تعيسا وحيدا و مجنونا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن