الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انبوب الغاز الروسي -السيل الشمالي – 2- وصل الى بحر البلطيق

جورج حداد

2018 / 9 / 11
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*

من اهم القضايا الجيوستراتيجية التي يواجهها المجتمع الدولي هي حاجة اوروبا الى الطاقة. ففي مرحلة تاريخية معينة برزت اوروبا (ولا سيما اوروبا الغربية) بأنها "مصنع العالم" و"مركز العالم". وحتى اليوم لا تزال اوروبا هي المركز الاقتصادي العالمي الاول، قبل اميركا والصين وروسيا. ومع انتقال العالم من عصر الفحم الحجري الى عصر النفط، ثم الغاز الطبيعي، في الحرب العالمية الاولى، فإن اوروبا اصبحت بحاجة الى الحصول على الطاقة لاجل صناعاتها وزراعاتها وآلتها الحربية ولاجل الانارة والتدفئة للسكان لا سيما في الشتاءات الاوروبية الباردة. وبدون استيراد النفط والغاز فإن اوروبا تموت، بالمعنى الحرفي للكلمة.
وخلال مرحلة الاستعمار الكلاسيكي فإن اوروبا عاشت واغتنت على حساب نهب خيرات البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة في الشرق. وكان النفط احد اهم المنهوبات. وبعد انهيار الاستعمار القديم خلال الحرب العالمية الثانية وفي اعقابها، وضعت اميركا يدها على النفط في الخليج العربي ـ الفارسي وغيره من المناطق المنتجة للنفط. وصارت السيطرة على النفط احدى اهم وسائل فرض الوصاية الاميركية على اوروبا.
وعلى تعاقب المراحل التاريخية برزت روسيا كمحور حضاري، قومي وديني وثقافي وسياسي، مستقل عن اوروبا والعالم الغربي، مع ان القسم الاوروبي من روسيا يشكل 40% من اجمالي مساحة القارة الاوروبية.
وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت حاجات اوروبا الى الطاقة تزداد باضطراد. وبدأت روسيا تبرز بوصفها بلدا منتجا للنفط والغاز، قادرا على تلبية الحاجات الاوروبية. ولكن ذلك كان يتعارض طبعا مع مصلحة الولايات المتحدة الاميركية التي تسعى الى استمرار وصايتها على اوروبا، كما يتعارض مع الاتجاهات الاوروبية المعادية تاريخيا للشرق الروسي منذ عهد الامبراطورية الرومانية القديمة.
ولكن في نهاية المطاف فإن المصالح المادية الحيوية هي التي تقرر سلوكيات الدول وليس الاختلافات السياسية والايديولوجية. وهذا ما فسح المجال لروسيا، السوفياتية وما بعد السوفياتية، ان تدخل في سوق تزويد اوروبا بالغاز الطبيعي الروسي. وفي البدء مد انبوب الغاز القاري من روسيا الى اوكرانيا، ومنها كان الغاز يوزع الى الدول الاوروبية الاخرى. ومقابل استخدام اراضيها، كانت اوكرانيا تحصل على حصتها من الغاز باسعار مخفضة جدا، كما تحصل على رسوم الترانزيت عن الغاز المار في اراضيها. ولكن الطبقة الاوليغارخية الجديدة في اوكرانيا ما بعد السوفياتية سارت في ركاب الغرب وانتهجت خط اثارة الازمات مع روسيا فأخذت تماطل وتمتنع عن دفع اثمان كمية الغاز المخصصة لها وتسرق من الغاز المار الى اوروبا وتدعي ان الكمية لا تصلها كاملة. وهذا هو سبب "ازمة الغاز" بين روسيا واوكرانيا سنة 2008. وكي لا تتكرر هذه الازمة، وللتخلص من الابتزاز واللصوصية الدولية، قررت روسيا الاستغناء عن استخدام الاراضي الاوكرانية للترانزيت، وانشاء انبوب غاز جنوبي عبر البحر الاسود (كان من المفترض ان يصل الى بلغاريا ومنها يتم التوزيع الى البلدان الاوروبية الشرقية والوسطى، ولكن تقاعس بلغاريا في اعطاء جواب الموافقة النهائية، بسبب الضغوط الاميركية، دفع القيادة الروسية الى الاتفاق مع اردوغان على مد الانبوب عبر تركيا ومنها الى اليونان ومنها يتم التوزيع الى البلدان الاخرى. ولكن هذا الانبوب لم يتم انجازه بعد لاسباب سياسية وادارية وفنية) وكذلك الى انشاء انبوب شمالي تمت تسميته "السيل الشمالي" الذي يعبر من الاراضي الروسية عبر بحر البلطيق ويصل الى شمالي المانيا ومنها يتم التوزيع الى بلدان اوروبا الغربية والوسطى. وقد بدأ هذا الانبوب في العمل وعين مديرا للشركة الخاصة به المستشار الالماني السابق غيرهارد شرويدر. والان تقوم المانيا باستخدام وبتوزيع الغاز الروسي.
وبحجة حماية اوروبا من التبعية لروسيا قررت اميركا منذ بضع سنوات انشاء انبوب غاز سمي في حينه "نابوكو" (على اسم نبوخذنصر) يمتد من محيط بحر قزوين الى تركيا ومنها الى البلدان الاوروبية الاخرى، ويتزود بالغاز من ايران ومن بلدان اسيا الوسطى. ولكن هذا المشروع مات في مهده، اولا بسبب عدم ضمان ان يجد مصادر للغاز، وثانيا لتكلفته العالية مما كان سيجعله غير قادر على منافسة الغاز الروسي. وللغاية نفسها بحثت اميركا امكانية العمل لبناء صهاريج بحرية ضخمة لنقل الغاز الصخري الاميركي الى اوروبا، ولكن هذه الفكرة استبعدت ايضا لان الغاز الاميركي سيصل الى اوروبا عالي الكلفة جدا وغير قادر على مزاحمة الغاز الروسي الا على حساب زعزعة الاقتصادات الاوروبية ولا سيما البلدان المأزومة وغير الغنية. وهكذا شق الغاز الروسي طريقه الى الاسواق الاوروبية بالرغم من العقوبات الاقتصادية الاميركية ضد روسيا التي فشلت في الحؤول دون التعامل مع روسيا على صعيد تصدير الغاز. واضطرت اميركا لان تبلع لسانها حول هذا الجانب بسبب الحاجات الاوروبية ذاتها. ولكن الحاجة الاوروبية الى الغاز ازدادت اكثر من قدرة انبوب "السيل الشمالي" على الضخ. فقررت روسيا انشاء انبوب "السيل الشمالي ـ 2" بجانب "السيل الشمالي" الاول. وطبعا وجد المشروع الجديد معارضة شديدة من قبل اميركا التي مارست كل انواع الضغط لمنعه من ابصار النور. وهذا ما دفع روسيا الى التمهل. واخيرا اضطرت اميركا للرضوخ للامر الواقع. وقد اكتمل مد الوصلة على الاراضي الروسية من منابع التوريد حتى الشاطئ الروسي لبحر البلطيق، وبدأ الان العمل لمد الوصلة في اعماق بحر البلطيق من الشاطئ الروسي الى الشاطئ الالماني في الشمال. وسيكون الانبوب الجديد مزدوجا من اجل المزيد من قدرة الضخ. وقد تأسست لهذا الغرض شركة مستقلة باسم Nord Stream 2 AG، واكدت الشركة ان العمل قد بدأ في الخليج الفنلندي المحاذي لروسيا ومن المقرر ان يجري العمل بشكل متواصل دون أية عطل وليلا ونهارا. وقبل وبعد مد الانبوب ستقوم سفينة ابحاث خاصة بدراسة اوضاع قاع البحر بدراسة وضع الانبوب. وتم تنسيق جميع الاجراءات الامنية والايكولوجية بالتعاون مع مصلحة المواصلات الفنلندية ومديرية حرس السواحل، ويجري العمل باشراف السلطات الوطنية الفنلندية. وبالمقابل بدأ العمل لمد الانبوب في القسم البري الالماني في نهاية شهر تموز الماضي، حسبما صرح في نهاية الشهر الماضي كريستوفر ديلبروك، المدير المالي لشركة Uniper (احدى الشركات الغربية المساهمة في المشروع الى جانب شركة "غازبروم" الروسية) كما نقلت وكالة ريا نوفوستي. وتبلغ طاقة هذا الخط المزدوج 55 مليار متر مكعب من الغاز المسال، سنويا. ويبلغ طول الخط البحري 175 كلم. وقد اعطت موافقتها على مد الانبوب في المياه الاقليمية الخاصة بها كل من المانيا، فنلندا والسويد. وتخلفت عن الموافقة الدانمارك. ولهذا فإن الشركة المنفذة ستعمل على حرف الخط كي يلتف حول المياه الاقليمية الدانماركية بدون اية زيادة في النفقات. وحسب تصريح مانفريد لايتنر، عضو مجلس ادارة شركة النفط والغاز النمساوية OMV، المشاركة في المشروع فإن الكلفة الاجمالية للوصلة البحرية ستبقى ضمن مبلغ 9.5 مليار يورو.
وابدت معارضتها الشديدة للمشروع كل من اميركا، ليتوانيا، لاتفيا وبولونيا، بحجة ان المشروع هو سياسي، ويزيد من تبعية اوروبا للغاز الروسي. الا ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤكد ان الدوافع الرئيسية لهذا المشروع هي اقتصادية كليا.
وحنى الان فإن المساهم الرئيسي في مشروع الخط البحري هي شركة "غازبروم" الروسية التي تمتلك 50% من الاسهم. وتتقاسم بقية الاسهم الشركتان الالمانيتان Wintershall و Uniper، والشركة النمساوية OMV، والشركة الفرنسية Engi، والشركة الهولندية Shell.
هذا وقد صادق مجلس السيناتورات الاميركي مؤخرا على قانون جديد لفرض العقوبات على الشركات التي تساهم في تنفيذ او تمويل هذا المشروع. الا ان الرئيس دونالد ترامب لم يوقع القانون بعد. والمشروع يتابع العمل بدون توقف.
ويقول بعض الخبراء انه بعد ان يبدأ "السيل الشمالي ـ2" في العمل سيكون غير ما قبله. حيث ان المناخ السياسي في اوروبا والعالم كله سيتبدل كثيرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا