الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : -الغربة مرّة-

محمد عبد المنعم الراوى

2018 / 9 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


فعلاً .."الغربة مرّة"..منذ اليوم الأول الذى سافرت فيه وأنا أحسب الدقائق..الساعات..الأيام..الأسابيع..الشهور التى انقضت والتى لم تنقض بعد. كنت أتمنى أن أصطحب زوجتى وأولادى..من المؤكد أنى لم أكن سأشعر بما أشعر به الآن من وحدةٍ ومرارة!
طالما أتذكر شارعنا الضيق فى الحى الشعبى الذى لا يخلو من المارة..المحلات..المطاعم..المقاهى..البشر الذين يتخبطهم الزحام.. فقراء لكنهم لا يكفون عن الحركة والسعى!..تشعر وأنت بينهم بحياة لا تنقطع ليل نهار!
كم أشتاق لفول عم جمعة..كشرى أبو ربيع..الشيشة..القهوة وأنا أشارك بعض الأصدقاء لعب الدومينو على المقهى..مشاهدة مباريات كرة القدم فى الإستاد بين المشجين..الأطفال الذين يصدّعون رأسى بشجارهم أمام المنزل..حكايات جارتنا أم رامى المتواصلة مع زوجتى وهما يقومان بنشر الغسيل.!
لعنة الله على ذلك المال الذى قذف بى بعيداً فى تلك البلاد الغريبة..حيث لا أنيس فيها ولا جليس!
رغم ذلك أحاول أن أقطع الوقت بأن أسير على قدمىّ فى شوارع طويلة عريضة..أتأمل فلّاتٍ..قصوراً..أسواراً عالية..أحاول أرقب حياةً أو حركةً خلف تلك الكتل الخرسانية الحديدية..لكن لا أحد غيرى!..كأن الأثرياء قد تحولوا لأشباحٍ حتى لا يلمحهم الفقراء من أمثالى!
جذبنى أحد المراكز التجارية بأنواره المتلألئة..دخلت لأتجول فيه..أشاهد البضائع الكثيرة المغرية فى الدور الأرضى والعلوى..الناس هنا كثيرون من جنسيات مختلفة..أخذت أقلب مثلهم فى المعروض من الملابس..توجهت أول ما توجهت نحو قسم الحريم..قررت أن أشترى لزوجتى أولاً..أخذت أفتش وأقلب..أعجبتنى كثيراً..سحبت عجلة جرارة..بدأت أضع فيها كل ما أتخيل أنه سيعجبها..لفت نظرى رجل فى مواجهتى يبدو أنه تجاوز الخامسة والستين..يمسك بإحدى يديه موبايل (محمولاً) وبيده الأخرى فستاناً أنيقاً..أعجبنى كثيراً وهو يتحاور مع زوجته بلطف شديد ليأخذ رأيها فيما يريد شراءه:
ـ أيوه يا حبيبتى إكس لارج..ولونه أزرق..مش أزرق قوى..قريب من السماوى..نفس اللون اللى انتى بتحبيه.
ابتسمت إعجاباً بمدى حبه ووفائه لها..كما شعرت بغيرةٍ شديدة..لذلك قررت أن أخصص راتب الشهر القادم لشراء محمول مثله..حتى يتسنى لى التحدث مع زوجتى وأبنائى!
توجهت نحو قسم ملابس الأطفال..أخذت أقلب وأنا فى حيرة ما بين القصير والطويل..وما بين الأحمر والأصفر والأسود والرمادى..ألوان كثيرة وجذابة..أخشى أن أشترى شيئاً لا يعجبهم كالعادة..لكن لابد أن أشترى!
فجأة وجدت أمامى نفس الرجل الذى كان يحدث زوجته منذ قليل..وهو ما زال يمسك بالمحمول فى يده..يبدو أنه بعدما فرغ من الشراء لزوجته..حان دور أبنائه أيضاً..كم أنا معجبٌ بهذا الرجل..إنه خبير فى الشراء..سرعان ما تناول بنطالاً أخذ يصفه لها..ثم طلب منها أن يتحدث لابنه:
ـ أيوه يا تامر..هو نفس البنطلون الجينز اللى انت كنت عاوزه..أيوه أنا متأكد إنه حييجى على مقاسك..وكمان ليه جيبين من ورا
ثم تناول فستاناً صغيراً..كأنه عثر على كنز!
ـ ادينى مامتك بسرعة!..يا سعاد..أخيراً لقيت فستان لمها..أه والله..ولونه أبيض وبكرانيش..ها ايه رأيك بقى!
انصرفت وأنا أشعر بالخجل من نفسى لعدم قدرتى على التواصل مع زوجتى وأبنائى وعدم قدرتى على الشراء مثل ذلك الرجل الحكيم..حينئذ أصررت على أن أحوز محمولاً قبل أن أقدم على شراء أى شئ!
غادرت المكان..لكنى حتماً سأعود إليه بعد شرائى للمحمول..توجهت نحو السكن الجديد الذى خصصته الشركة لى..هو نفس العنوان الذى فى الورقة..وقفت وسط رواق الدور العلوى..بين عدة شقق صغيرة عن اليمين واليسار..كلها مغلقة..شقتى تقبع آخر الرواق ناحية اليسار..فتحتها..دخلت..وجدت حجرتين صغيرتين..إحداهما خالية..والأخرى لا يوجد بها غير دولاب صغير وسرير وكرسى..هذا بخلاف المطبخ والحمام الملحقين بالشقة..فتشت عن أية وسيلة للترفيه فلم أعثر على شئ!
فردت جسدى على السرير..ظللت أتقلب محاولاً النوم..فشلت كل محاولاتى فى التغلب على ذلك الصمت الذى أحاطنى ودفعنى دفعاً للنهوض!
لم أتخيل أنى سأعيش فى هذا البيت هكذا بمفردى مع أشباحٍ لا تسمعنى غير الصمت..خرجت..وقفت وسط الرواق..محاولاً التنصت..ربما أسمع صوتاً من هنا أو هناك..أخيراً وصلت إلى سمعى تمتمات تصدر من إحدى الشقق..أخذت أتتبع مصدرها..إنها تلك الشقة الأولى عن اليمين.. أسرعت..وقفت أمام بابها..ضممت يدى..خبطت على الباب بحرارة..حينئذٍ غابت الأصوات وحل الصمت من جديد..ترددت فى أن أخبط مرةً ثانية..لكن إحساسى بأن خلف الباب مغتربين أمثالى دفعنى للمحاولة من جديد..إننى فى أشد الحاجة للتعرف عليهم ..مجالستهم..التحدث إليهم..لكن ماذا لو كانوا هنوداً أو من الفلبين؟! أو أيّة جنسية أخرى لا أجيد لغتها؟!
لا يهم.. خبطت على الباب مرةً أخرى..وإذ بى أجد أمامى نفس الرجل الذى أثار إعجابى فى المركز التجارى..لم تسعنى الفرحة عند رؤيته..فابتسمت ابتسامة عريضة ملقياً عليه السلام:
ـ سلام عليكم.
لم تبدُ على وجه الرجل أية علامات تنبؤنى بفرحةٍ أو استياء..لكنه رد السلام: وعليكم السلام..أى خدمة!
ـ أنا..أنا ساكن جديد مع حضرتك..فى الشقة الأخيرة اللى على الشمال..واسمى عبد الله من مصر.
ـ أهلا وسهلاً..اتفضل.
دخلت وأنا ما زلت أجهل ما خلف ملامح الرجل..رغم ذلك لم تفارق الابتسامة وجهى لفرحتى الشديدة بالعثور على بشر يسكن معى فى نفس الرواق..خاصة مع تيقنى من لهجته أنه مصرى مثلى!
جلست..فتح ثلاجة صغيرة تقبع فى الزاوية..أخرج منها علبة من صفيح باردة..قدمها لى على سبيل واجب الضيافة..تناولتها شاكراً..جلس على مسافة منّى..انتظرت أن يأتى أحد آخر ممن سمعت صوتهم وأنا بالخارج..لكن لم يأت أحد..انتابنى شعورٌ بالخجل لربما تقيم معه أسرته..وأكون قد اقتحمت عليهم جلستهم الأسرية..لذلك كان علىّ أن أبادره بالسؤال:
ـ هوّ فى حد مقيم مع حضرتك هنا؟!
ـ لا أبداً أنا هنا لوحدى.
زال الشعور بالخجل..لكن انتابنى شعور آخر جعلنى أكثر حيرة حين تذكرت تلك الأصوات المتداخلة وأنا بالخارج..قلت لنفسى ربما كان يستمع للراديو أو يشاهد التلفزيون.
أخذ الرجل يحيينى باقتضاب من حينٍ لآخر..وأنا أتلفت حولى..فلم أشاهد أى شئ يدعو للتسلية..أو الترفيه..أو يمكن أن يصدر صوتاً آخر غير صوته الخفيض!
دفعنى الفضول أن ألقى عليه بعض الأسئلة لأفتح بيننا باباً للحوار والمزيد من التعارف:
ـ هو حضرتك بتشتغل ايه؟!
ـ أنا مدرس.
ـ وبقالك هنا كتير؟!
ـ 28 سنة.
انتفضت معتدلاً فى جلستى..وأنا لم أصدق:
ـ كام؟!
ـ 28 سنة.
ـ وآخر مرّة حضرتك نزلت فيها مصر كان امتى؟!
ـ مش فاكر..يمكن من عشرين سنة تقريباً.
أصابتنى حالة من الذهول وعدم التصديق..حتى أنى كدت أصرخ فيه وجهه وأنا أسأله مستنكراً
ـ بتقول كام؟!..عشرين سنة؟!..طب ومراتك وأولادك؟!
قهقه الرجل..وظل يضحك عدّة ضحكاتٍ هيستيرية قبل أن يجيب عن سؤالى:
ـ أنا يا أستاذ مش متجوز..ومش ناوى أتجوز!
وضعت المشروب البارد على الطاولة دون أن أتناول منه شئ..وقفت وأنا أنظر فى عينه حيناً وأتأمل شقته الخاوية حيناً..الشئ الوحيد الذى استطعت أن أفعله أن ألجم لسانى حتّى لا ينطلق بسؤالى الساذج حول حديثه لزوجته عبر المحمول وما قام بشرائه من ملابس..خاصةً بعد أن تبينت واقع الرجل..وطبيعة حاله بعد ثمانٍ وعشرين سنة قضاها فى الغربة..أسرعت مهرولاً نحو شقتى..لملمت أشيائى..حيث قررت العودة دون أن أشترى المحمول أو أية ملابس!

تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل