الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : مرزانة

محمد عبد المنعم الراوى

2018 / 9 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


مرزانة

(مرزانة)قرية بعيدة نائية تقع فى أحضان الجبل..أهل القرية عاشوا قروناً فى عزلة..وما زالوا..لم يفكر أحدهم فى أن يخرج يوماً من تلك القرية..اعتقاداً منهم أن هذا هو العالم كله..لا شئ عن يمينه ولا عن يساره..لا يوجد فى الكون أناس غيرهم!..ولا حيوانات غير حيواناتهم!..ولا معتقد غير معتقداتهم!..لذلك صارت كل أسرة لا تقدس غير ما تهابه أو يجلب لها الرزق وأسباب الحياة.
فتلك الأسرة التى تعيش على الرعى تقدس النعجة..
وتلك الأسرة التى تقوم على تربية المواشى تقدس البقرة..
وتلك التى تفلح الأرض تقدس الشجرة..
وتلك تقدس الشمس وأخرى تقدس النار..وهكذا.
الكل يعتقد..ويقدس ما يعتقد..لكنه لا يتعصب..ولا يكفر أحداً فيما يعتقد..لذلك عاش الجميع فى سلام رغم كل هذا الاختلاف.
أما الجبل فهو بالنسبة لهم نهاية الأرض التى يعيشون عليها..ومنْ يحاول تسلقه واكتشاف ما خلفه تكون نهايته.
هذا ما اعتقدوه حين فاجأت الفتاة (مرزانة) الجميع وقررت أن تصعد الجبل..حينئذٍ انتفض كل أهل القرية رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً..وانطلقوا فى ذهول ليشاهدوا (مرزانة) وهى تصعد نحو قمة الجبل..منتظرين ما سيحدث لها من نهاية محتومة..أو ربما ما ستخبرهم به حال تسلقها واكتشاف ما خلفه من مجهول!
بدأت (مرزانة) تصعد..وكلما صعدت خطوة كلما علت دقات قلوبهم..واتسعت حدقاتهم..واحتبست أنفاسهم..
هكذا أيضاً كان حال (مرزانة)..لكنها أصرت على مواصلة طريقها دون أن تلتفت لأيّة نداءات أو صرخات..أخيراً نجحت بالفعل فى الصعود..ووقفت ثابتة فوق القمة لتلتقط شيئاً من أنفاسها الهاربة..ظلت تنظر وتتأمل ما خلف الجبل..
مرت دقائق على هذا الحال..والجميع فى الأسفل يسوده الصمت والوجوم..والبعض يضم كفيه متضرعاً ويتمتم إشفاقاً عليها:
ـ مرزانة!..مرزانة!
دارت (مرزانة) بجسدها لتطل عليهم..رأتهم فى حجم الحصى الذى كانت تلهو به..أخذت تضحك..وترقص..لاحظوا حركاتها وخروجها عن ثباتها..بدأوا يبتسمون..وينظر كل منهم للآخر فى عجب مما تفعله..علت ضحكاتهم..ظلوا يصفقون ويهتفون:
ـ مرزانة!..مرزانة!..مرزانة!
وصلت لأسماع (مرزانة) هتفاتهم..شعرت بالمزيد من الفرحة..ظلت ترقص وتدور حول نفسها حتى أصابها دوار..سقطت ..نهضت..حاولت أن تحافظ على اتزانها..عادت فسقطت..انزلقت إحدى قدميها..حاولت أن تتشبث بذلك النتوء..لم تكن تعلم أنها مجرد صخرة هشّة بارزة..لم تستطع أناملها الدقيقة التشبث بها..تفتت حواف الصخرة..هوت (مرزانة) خلف الجبل..ولم تظهر من جديد!
الجميع فى الأسفل كان يحاول بصعوبة أن يتبين سر ما يحدث فى الأعلى من صراع؟!..ما الذى أسقط (مرزانة) ؟!..ما الذى جذبها؟!..أين اختفت؟!
مرت أيام..شهور..سنوات.. لم يعد أحد يعلم عن (مرزانة) شيئاً..لكن الذى استقر فى يقين أهل القرية أن خلف ذلك الجبل شئ عجيب..يستحق أن يهابونه..دون التجرؤ على محاولة معرفة سره الغامض..وإلا سيكون المصير كمصير (مرزانة) !
تلك المسكينة التى ضحت بنفسها لتريح أهل قريتها وتخبرهم عمّا رأته خلف الجبل!..فلا هى نجت!..ولا هم اطمأنوا بعد لذلك المجهول!
لكن ستظل (مرزانة) فى وجدان كلٍّ منهم رمزاً للتضحية..ستظل ذكراها عالقةً فى الضمير..ليكن يوم صعودها الجبل عيداً..حيث يذهب الجميع عند سفح الجبل وهم يرتدون أفخر الثياب ويهتفون باسمها..ويقدمون ما جلبوه معهم من عطايا..مَنْ يقدم وعاءً من لبن البقر!..ومَنْ يقدم شيئاً من لحم النعاج!..ومَنْ يقدم أنواعاً من الفاكهة!
ثم ينصرف الجميع فى نشوة بعد كل ما قدموه وتركوه عند السفح من قرابين على روح (القدّيسةمرزانة) آملين فى أن يتقبّل ويرضى عنهم ذلك المجهول!
هكذا استقر اعتقادهم سنواتٍ وسنوات..وعهدهم بها المزيد من التقديس وتقديم العطايا والقرابين !
لكن الواقع أن أهل القرية لم يدركوا أن مرزانة حينما ازلقت قدمها..ظلت تنحدر على الجانب الآخر من الجبل حتى استقرت على السفح بعدما اصطدم رأسها بحجر..فغابت عن الوعى..ثم فاقت وهى لا تدرى هل مرّ عليها يوم أم يومان أم ثلاثة؟!
هى لم تعد تتذكر شيئاً..الجبل خلفها يحجب عنها عالمها القديم..وكل ما أمامها عالم فسيح مجهول..ظلت تسير دون هدف..هى فقط تريد أن تعثر على أى إنسان أو مأوى!
اشتد عليها الجوع..كلت قدماها..ارتمت على ساحل بحر فسيح..غابت عن الوعى من جديد.
حينئذ رسى على الشاطئ قريباً منها مركب صغير..عليه رجل يدعى (عجلان)..رجل أشقر..ذو صدرٍ فسيح وعينان زرقاوان مخيفتان..بيده عصاً غليظة بطول قامته..وكلبٌ ضخمٌ كالبقرة..عيناه كعين الذئاب.
(عجلان) اعتاد الصيد فى عرض البحر..لكن تلك المرة كانت الريح عاصفة والبحر هائج..ظل يحمل مركبه ويحطها..ويدفعها حيث لا يريد ولا يدرى (عجلان)..ظل هكذا فى عرض البحر أياماً وأسابيع..كأن القدر أراد أن يسوقه حيث ترقد (مرزانة)
نزل (عجلان) عن مركبه..سار باحثاً عن طعام له ولكلبه الجائع..
انطلق الكلب بعيداً..ثم عاد مسرعاً نحو صاحبه ينبح نباحاً متواصلاً..أدرك (عجلان) أن هناك شيئاً..فسار خلف كلبه حتى وصل لموضع (مرزانة).
مال بجسده..وضع أذنه على صدرها..تيقن من أنها ما زالت على قيد الحياة..ظل يفيقها..أتى لها بشربة ماء..وما تبقى معه من سمك!
شربت..وطعمت..بدأت تسترد شيئاً من وعيها المفقود..لكنها ما زالت لا تتذكر شيئاً عن عالمها القديم..
لم يكن لعجلان ولا مرزانة أى اختيار..بعدما ساقهما القدر ليلتقيا فى عالمٍ فسيح مجهول!
مرت عليهما سنوات يجمع بينهما الحب والخوف من أن يفقد أحدهما الآخر..
حاول عجلان مراراً أن يعرف سر تواجدها فى ذلك المكان الموحش..وما الذى ساقها إليه؟!
هو يعلم من أين أتى..وكيف ضل طريقه فى البحر!..لكن لا يعلم من أين أتت؟!..وكيف ضلت طريقها فى البر؟!
هى أيضاً لا تعلم..لأنها لم تعد تتذكر شيئاً عن ماضيها القريب ولا البعيد؟!
ترك عجلان مرزانة فى ذلك الكوخ الذى شيده عند سفح الجبل..أشار إليها بأنه قرر أن يصعد لأعلى..جذبته من ثيابه خوف أن يتركها بمفردها..أو ألا يعود إليها من جديد..لكنه طمأنها..فقبعت فى مكانها ترقبه بوجل..ارتدى عباءته..قبض على عصاته..بدأ يصعد الجبل..والكلب يتبعه حيناً ويسبقه حيناً آخر..
أخيراً وصل عجلان لقمة الجبل..بدأ ينزل فى المنحدر..أسرع الكلب حين شم رائحة الطعام..تبعه عجلان فوجد كل ما قدمه أهل القرية من عطايا وقرابين..لحماً ولبناً وفواكه متنوعة كثيرة..ظل عجلان يأكل بنهم ويطعم كلبه..ثم حمل ما تبقى ليعود به لمرزانة..عاد ليصعد القمة من جديد..ليعود حيث تمكث مرزانة..حينئذ لمحه من بعيد أحد رجال القرية..انطلق ليخبر الجميع بما شاهده من أمر الرجل الغريب.
كان عجلان قد قدم لمرزانة كل ما جلبه لها من طعام..لم تصدق..ظلت تأكل بنهمٍ وسعادة..جذبها من يدها ليصعدا معاً من جديد..وقفا على قمته..نظرا لبعيد..فوجدا كل أهل القرية مجتمعين فى الأسفل..ارتابت مرزانة..ارتمت فى أحضان عجلان..متشبثةً بثيابه..
اقترب الجميع من السفح..واقترب بعضهم أكثر..فأدرك أنه وجه القديسة مرزانة..لم يصدقوا عودتها إلى الحياة من جديد..ظلوا يشيرون نحوها ويهللون:
ـ مرزانة!..مرزانة!
تمنوا أن يصعدوا إليها..لكن كلما اقترب أحدهم عاد فزعاً من ذلك الكلب الضخم..ومن ذلك الرجل ذى الملامح الغريبة والعيون الزرقاء!
بدأوا يحملقون فى وجهه ويتهامسون:
ـ إنه المجهول الذى يقبع خلف الجبل!
ـ إنه هو الذى أخذ منّا مرزانة!
ـ إنه الذى تقبل مشكوراً ما قدمناه من عطايا وقرابين!
ـ إنه الإله الذى أعادها إلى الحياة من جديد!
حينئذٍ أدرك عجلان من أين أتت مرزانة؟!
ولماذا يقدم هؤلاء الذين يقبعون دائماً فى الأسفل تلك القرابين؟!
ولماذل يركعون ويسجدون له حامدين شاكرين؟!
وقف عجلان متحيراً وهو يحتضن مرزانة..
هل يعود بحبيبته ليعيشا معاً بعيداً خلف الجبل ويظل بالنسبة لهم ذلك العالم المجهول؟!
أم يظل فوق الجبل مع القديسة مرزانة ليعيشا على خيرات ما يقدمه هؤلاء الجهلاء من عطايا وقرابين؟!

تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة