الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : تعارف

محمد عبد المنعم الراوى

2018 / 9 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تعارف

انتقلت للعمل بمدرسة حكومية تابعة لبندر إحدى محافظات مصر الوسطى..المدرسة تقع فى منطقة ريفية تبعد عن مركز المحافظة ربع ساعة بالسيارة..قبل أن استقل الميكروباص لأتوجه للمدرسة..ملت على إحدى عربات الفول..لأتناول شيئاً من الفطور..منذ ليلة أمس وأنا أشعر بالجوع..طلبت من البائع إعداد طبق من الفول..فقدمه لى بشكلٍ مغرٍ..بالزيت الحار والليمون والكمون والطحين..ومعه رغيفين نصف محمصين منفوخين لأملأ بهما معدتى الخاوية..أمسكت بالرغيف..مزقته نصفين..ثم كل نصفٍ إلى نصفين..وشرعت بالتهام أول قطعةٍ ضربتها فى طبق الفول..حينئذٍ لمحت شحّاذاً على الجهة الأخرى جالساً فوق الرصيف تحت الكوبرى..يبدو أنه لم يتناول الإفطار بعد..فطلبت من البائع أن يعد صينية عليها مثل ما طلبته لنفسى.. تناولت الصينية ..توجهت بها نحو الشحّاذ..كان وجهه مغطى بشال ممزق ساقطاً على صدره..رفع رأسه ناظراً إلىّ من خلال ثقوبٍ صغيرة بالشال..وضعت الصينية بين رجليه قائلاً:
ـ كلّك لقمة..شكلك ما فطرتش زى حلاتى.
عدت إلى طبقى المغرى..ظللت أتناول اللقمة تلو اللقمة بنهم..نظرت نحو الجهة المقابلة وجدت الرجل يأكل باستحياء..كلما أراد أن يتناول لقمة رفع الشال عن فمه..ثم يضعه مرة أخرى وهو يتلفت يميناً ويساراً..ويرمقنى بنظراتٍ من خلف الشال الممزق لا أتبين سرها..ركزت فى طعامى حتى لا أشعره بالخجل..حتى قضيت على الرغيفين ومسحت الطبق..أخيراً ملأت معدتى ورأسى التى كانت تصفر..حاسبت البائع على الطلبين وانصرفت لأستقل الميكروباص.
أخبرت السائق باسم المدرسة الثانوية التى أقصدها..ثم قام مشكوراً بإنزالى أمامها..فوجئت بأنها مدرسة للبنات..لأول مرة أعمل بمدرسة بنات..لم أكن أحبذ التدريس للبنات..لا أعرف لماذا؟!
ربما لأنى أشعر بحرية أكثر مع البنين..ومن ثمَّ أجيد العمل معهم بصورة أفضل..على كل حال فرض الواقع نفسه..كان لابد أن أستلم العمل..وأقف أمام الطالبات لأبدأ شرح أول درس من دروس الأدب..عانيت الأمرين لما لاقيته من البنات وقلة الأدب..لم أكن أعلم أن حديثى عن الأدب وشرحه كفيلاً بأن يفرض عليهم التعامل بذوقٍ وأدب..خاصةً أنّى غريب عن تلك البلدة..فلا ينبغى أن يعطوا لى ذلك الانطباع غير المبشر..
أحاديث جانبية..همسات..غمز..لمز..كان علىّ أن أواصل الشرح دون توقف..لأنى أؤمن بأن ذلك من أهم وسائل السيطرة على الطلاب.
شجعنى على ذلك تلك الطالبة التى تجلس فى الزاوية آخر الصف..طالبة على قدر من الجمال..تبدو من ملبسها وجلستها ومتابعتها لى أنها مهذبة أو كما يقولون بنت ناس.
واصلت الشرح بحماس حين وجدتها على هذا الحال..وجهّت حديثى إليها..كأن لا يوجد فى الفصل غيرها..كانت هى أيضاً كذلك..معلقة عينيها بى..منصتة باهتمامٍ شديد..لا تلتفت لهؤلاء الفارغات من زميلاتها..تومأ برأسها من حين لآخر كأنها تريد أن تؤكد لى حسن متابعتها وفهمها الكامل لما أقول.
انتهت الحصة..توجهت لحجرة المعلمين..جلست أحتسى كوباً من الشاى أعده لى أحد الزملاء ترحيباً بى..سألنى:
ـ ها ايه الأخبار؟!
أخبرته عن عدم رضائى عمّا صدر من الفتيات..ضحك..فهمت منه أن هذا هو المعتاد..بل أقل من المعتاد..وأنهن كن مؤدبات معى لأنى ضيف جديد عليهن.. سرحت ـ وهو يحدثنى ـ فى تلك الفتاة التى كانت جالسة بأدب آخر الصف..وددت أن أسأله عنها..وجدته يبادرنى بالحديث عنها..أنها تختلف عن كل الفتيات..مؤدبة..متفوقة..جميلة..حاول أكثر من زميل التقدم لخطبتها..لكن أباها كان دائم الرفض..معللاً ذلك بصغر سنها..وأنه لا ينبغى شغلها بمثل هذا الأمر حتى تكمل تعليمها.
لا أعرف لماذا فضلت الاكتفاء..ولم أرد أن أبادله المزيد من الحديث حول تلك الفتاة...يكفى ما رأيته وسمعته..لكن فضولى دفعنى للسؤال عن أسرتها..فعرفت أن أباها قدم لتلك البلدة بصحبتها حين كانت فى بداية مرحلتها الابتدائية..كان يعمل موظفاً بسيطاً بوزارة الزراعة..يسكنان شقة صغيرة منحته إياها الوزارة ليقيم فيها هو وابنته لحين خروجه على المعاش..بالفعل خرج على المعاش منذ عدّة سنوات..واضطر لتسليم الشقة للوزارة..اعتقد الجميع حينئذٍ أن الرجل سيعود بابنته حيث جاء..خاصةً أنه لم يعد له مسكن ولا أهل لتستمرّ إقامته هنا..إلا أن الكل تفاجأ بتبدل أحواله..حين انتقل للعيش فى بيت كبير فخم..مثل منازل كبراء البلدة..بل إنه ساهم فى إعادة بناء المسجد والمستشفى والمدرسة..حتى صار واحداً من الكبراء المعدودين ذوى الشأن والمشورة.
وقفت الفتاة أمام باب الحجرة تستأذن فى الدخول..انتفض زميلى متوجها نحوها..فتح الباب الموارب على آخرة..رحب بها وهو يبتسم ابتسامة عريضة..معتقداً انها ستبادلة التحية أو شيئاً من تلك الابتسامة..لم أعر الأمر اهتماماً..لكن وجدتها تتوجه نحوى..فتحت كتاباً وضعت إبهامها بين صفحاته..استأذنت فى طرح سؤال أعتقد أنه لا يصعب فهمه على مَنْ فى مثل حضورها وذكائها..أجبتها باقتضاب حيث كنت أشعر بالحرج..خاصة أن زميلى جالس فى مواجهتنا يلحظنا وينصت باهتمام..خرجت وهى تشعر بنفس ما أشعر به من حرج.
لكن من المؤكد أن زميلى لن يترك الأمر هكذا دون أن يختمه بتعليق:
ـ يا بختك يا سيدى..دى عمرها ما دخلت حجرة المدرسين..فعلاً أرزاق.
مرت أيام وأسابيع..اكتشفت خلالها مدى إعجابى بتلك الفتاة..بل أعترف أنه صار أكثر من مجرد إعجاب..أحسب أنها تبادلنى نفس المشاعر..كل منّا بدأ يرتبط بالآخر عن بعد دون اتفاق..من مجرد نظرة نتبادلها بين زحام وسخف هؤلاء الفتيات..فتاة تسبق عمرها..وعمرها يسبق سلوك وتصرفات كل زميلاتها الطائشة..
تظل صورة الفتاة عالقة بذهنى حتى وأنا خارج الصف..فى حجرة المعلمين..فى الطريق نحو المنزل..داخل المنزل..فى منامى..إلى أن أراها من جديد فى اليوم التالى داخل الصف..أصبحت أنتظر حصتها بفارغ الصبر..وأتمنى عدم انتهائها..
تشجعت مرةً أخرى حين توجهت إلىّ عقب خروجى من الفصل..كلانا شعر بفرحة ممتزجة باضطراب..تماسكت..اجتمعت كلماتها على طلبٍ باستحياء..أن أعطيها درساً خاصاً فى منزلها..على الفور لم أتردد فى الموافقة..كأننا لأول مرة نتواعد على لقاءٍ منفرد يجمع بيننا.
لم أنم ليلتها..حتى توجهت للعنوان الذى أعطتنى إياه..قابلنى والدها بترحاب..كان رجلاً أنيقاً..مهذباً..جلس معى فى غرفة الجلوس..قدم لى القهوة..أخذت أرشفها وهو يرمقنى بنظرات فاحصة كأنه يتفرس رجلاً جاء ليخطب ابنته لا ليعطيها درساً خاصاً.
هلّت علينا بعد استئذان..سلمت علىّ بيد وفى يدها الأخرى كتاب و دفتر.
ـ هوّ دا يا بابا أستاذ محمود اللى كلمت حضرتك عنه.
ظل الرجل يشيد بى..ثمّ تركنا بأدب متمنياً رأيتى من جديد.
فعاجلته بابتسامة عريضة قائلاً:
ـ دا شئ يسعدنى يا افندم.
انصرف الرجل وهو يبادلنى نفس الابتسامة وعيناه ما زالت تتفرس ملامحى..أنا أعرف سر ابتسامتى له..لكن لا أعرف سر ابتسامته ونظراته العميقة لى!..لكن أكثر ما شد انتباهى أن الفتاة لم تعرفنى بوالدها كما عرفته بى..
ربما لا تريد أن تضيع وقتاً فى تلك الرسميات السخيفة..أنا أيضاً أردت أن ألا أفوت لحظة يمكن أن نجلس فيها على انفراد !..ربما!..لأن تلك اللحظات تمنيتها..لم أنم من أجلها!
ظللنا نتبادل نظراتٍ عميقة..كلانا يتحدث للآخر دون أيّة كلمة..لكن ما كان يقلقنى بعض الدموع التى كانت تحاول أن تحبسها خلف مقلتيها..أشعر أنها تريد أن تقول لى شيئاً كلما هممت بسؤالها..تخوننى شجاعتى..أخشى من أى شئٍ يمكن أن يكون سبباً فى فراقنا..قامت..جلست على كرسى آخر بعيد..نهضت من موضعى..جلست فى مواجهتها..أدرت وجهها بيدى لأرى عينيها..وجدت دموعها تتساقط فى كفى..استجمعت قوتى..استلهمت شيئاً من شجاعتها لأخبرها برغبتى فى الارتباط بها..فما كان منها إلا أنها طلبت منّى مقابلتها خارجاً..تعجبت من طلبها..لكن سرعان ما أدركت أنها ربما تتحرج فى الكلام معى هنا فى بيتها.
لم أنم أيضاً ليلتها..أتحرق شوقاً لرؤيتها..الحديث معها..ربما تريد أن تفصح عن مدى حبها وتعلقها بى دون حرج..أو أنها تريد أن تخبرنى بشئ جديد عنها.
انتظرتها فى المكان والموعد المحددين..جئت قبل موعدى..وهى جاءت فى الموعد المحدد..أردت أن أمسك يدها..لكنّى ترددت..ففؤجت أنها تمسك يدى دون تردد..كأنها قرأت فى كفى رغبتى المحمومة..أردت أن آخذها لمكانٍ بعيد عن أعين الناس..وجدتها هى التى تأخذنى وتسوقنى حيث رغبتها..تسوقنى نحو نفس الرجل العجوز الملثم القابع تحت الكوبرى..أصابتنى دهشة..حتى أنّى قبضت على يدها لتتوقف..لكنها استمرت فى السير حتى صرنا فى مواجهته..حينئذ حررت يدها من يدى..أمدتها نحو ذقن الرجل..رفعت رأسه بيدها قائلةً:
ـ نسيت أعرفك ب بابا يا أستاذ محمود.

تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254