الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : المنزل المجاور

محمد عبد المنعم الراوى

2018 / 9 / 14
الادب والفن


عفاف منذ أن بلغت سن المراهقة بدا عليها أنها ستصبح أجمل فتيات القرية على الإطلاق..لكن على قدر جمالها على قدر ما كان فقرها وسذاجتها..مات أبوها وهى فى سن الخامسة..لم يترك لها ولا لأمها شيئاً غير ذلك البيت الريفى الصغير الذى يقع عند مدخل القرية..
لم تفكر الأم فى أن تلحق عفاف بكتّاب القرية أو تعليمها كعهد الكثير من سيدات القرية الجاهلات مع بناتهن..اطمأنت الام لبقائها معها.. لتحمل عنها أعباءً كثيرة..تنظف البيت..تعد الطعام..ترعى ما تقوم بتربيته فوق سطح المنزل من دواجن..تجلس بجوارها أمام البيت وهى تفترش الأرض المجاورة لتبيع بعض الخضروات أو الليمون..أو تتركها بمفردها ليتسنى لها الذهاب لبيت من بيوتات القرية لتقوم على ولادة إحدى سيداتها..فتحصل على ما يجودون به من مال أو طعام.
يسكن البيت المجاور شاب جامعىّ يُدعى عمر ..مثقف..طموح..يقضى معظم وقته فى الاطلاع أو البحث..أو الجلوس على سطح المنزل حيث يمارس هوايته فى تأليف الشعر أو القصص..يعيش بمفرده بعدما اضطر أبوه الموظف للانتقال ببقية أفراد الأسرة إلى إحدى المدن الساحلية..ورغم الدخل البسيط إلا أن الوالد حرص على أن يكمل عمر تعليمه..ويضحى من أجله..لذا قرر عدم التفريط فى المنزل إلا بعد أن ينهى الابن دراسته..خاصة أنه الآن فى السنة النهائية.
عمر ينتظر التخرج من الجامعة بفارغ الصبر ليبدأ حياته العملية على الأرض..إما فى تلك القرية التى يسودها الجهل..أو السفر خارجها..لكن فى كلا الحالتين لن يفرط فى عفاف..بعدما صارت مصدر الإلهام وينبوع الإبداع لكل كلمة فى قصيدة أو قصة يؤلفها كلما لمحها تطعم الدجاج وهو جالس على سطح المنزل..
أما إذا نظرت هى إليه بعينيها تحولت القصيدة لديه إلى معلقة..والقصة القصيرة إلى رواية..خاصة إذا كانت تلك النظرة مصحوبة بابتسامة من وجهها الذى يزداد احمراراً وتوهجاً تحت أشعة الشمس..
وكأن وجهها قد تحول إلى قرص شمس جديد طلع فى ذلك اليوم فقط على سطحها فغابت الشمس عن السماء والدنيا جميعاً..
هكذا أصبحت عفاف الحلم والرغبة والأمل المنشود..أجمل ما فيها فطرتها ونقاؤها وعفتها..هذا بجانب طلعتها وجمالها الأخّاذ.
الأم تنظر لعمر كلما مرّ أمامها نظرة إعجاب..شاب وسيم..متعلم..مؤدب..يبادر دائماً بتحيتها والسلام..تتمنى لو أن مثله كان زوجاً لعفاف..لكن هيهات..أين هو؟!..وأين هى؟!..لكن لما لا؟!
طالما يسرق النظر إليها..ويبدى اهتمامه بها..بل ويصر على أن يقوم بتعليمها مبادئ القراءة والكتابة..فماذا إذاً يريد منها؟!..ربما تراوده الرغبة فى الارتباط بها؟!..أو ستراوده؟!
إذاً لابد من أن تمنح ابنتها أيضاً الفرصة للتقرب إليه بقدر اهتمامه بها..ولتكن أم عفاف أمّاً بديلة..تحتضنه..تقوم على تنظيف بيته..غسل ملابسه..إعداد وجبة ساخنة له..ربما يحقق القدر يوماً ما تتمناه..ويتحول الحلم البعيد لواقع قريب..ومن ثم تستطيع هى أن تتزوج من الشيخ بسيونى!
بسيونى إمام وخطيب مسجد القرية..له بيتان وزوجتان وأبناء وبنات..يرى أن الشرع يتيح له الزواج مرة ثالثة وأخرى رابعة..لذلك كثيراً ما يتوجه عقب الصلاة نحو الأم وابنتها ليبتاع حزماً من الفجل أو الجرجير أو أى شئ ربما ليس فى حاجة إليه..ليظهر شيئاً من الجود حين يناول الأم عشرة قروش بدلاً من قرشين..ومن ثمّ يتظاهر بأنه قادر على أن يعول أكثر ممّا يعول..هذا بخلاف ما يريد إيحاءه للأم حين يجلس بجوارها على عتبة المنزل ويتبادل معها حوارات وحواديت جذابة لا تنقطع..والأم منتشية لا ترغب فى انصرافه اعتقاداً منها أنه أوقع اختياره عليها لتصبح هى الزوجة الثالثة..
ولما لا؟!..هى تريد فقط مثل هذا الفحل القادر على أن يروى جسدها اليابس وينعشه بعد اثنى عشر عاما من السنوات العجاف..تريد أن تكون كزوجتيه اللتين يتفاخران دائماً بصدريهما الممتلئين..ومؤخرتيهما المكتنزتين !
لكن للأسف الأم لا تعلم أن الشيخ بسيونى يتعمد إطالة وقت جلوسه معها ليلقى بعض النظرات الخاطفة نحو عفاف وما يبدو من يديها وساقيها الفاتنتين..وأنه يجلس خصيصاً من أجلها ليداعبها ويستميلها نحوه مدعياً أنها تذكره بإحدى بناته..ولا تراه حين ينفرد بعفاف فى عدم حضورها وما يصوبه نحو كل جزء من جسدها من نظرات ثاقبة..ومدى ما يصل به معها من حوارات يفرغ من خلالها كل رغبة مكبوتة.
الشيخ بسيونى لم يكن يحفظ من القرآن والأحاديث إلا قدراً ضئيلاً يساعده فقط على أن يستشهد بتلك الآية أو ذلك الحديث فى الموضع الذى يريده..كى يشعر من أمامه بالطمأنينة أو يبث فى نفسه الرعب إن أراد!
ورغم ذلك لا تراه الأم إلا شيخاً مباركاً..حافظاً لكتاب الله..فلا ضرر حين تتركه ينفرد بابنتها..أو يمسح بيده الكريمة على شعرها أو يقبض على كتفها..أو يضمها لصدره ليمنحها شيئاً من بركته!
فى تلك الليلة أعدت الأم صينية كبيرة وضعت عليها نصف دجاجة..ولفائف من محشى الكرنب..وطبقاً من الحساء..وآخر من الخضراوات..ناولته لعفاف وأمرتها أن تذهب به لعمر فى بيته..أخذته الفتاة فرحةً..ودقت بابه على استحياء..فتح لها..لم يصدق وقوفها على بابه..انخلع قلبه..فتح الباب على مصراعيه لتدخل..أعاد غلق الباب..مد يده ليأخذ منها الصينية..وهو فى الواقع يريد أن يحقق أملاً طال انتظاره وهو الرغبة فقط فى أن يقبض على يدها ليعبر عن بعض مشاعره نحوها..ارتجفت..سقطت الصينية على الأرض..ارتبكت..نزلت بركبتيها لتجمع ما تبعثر..جذبها من يدها..ضمها إلى صدره..وغابا معاً فى نشوة طويلة.
لاحظت الأم ما تعانيه عفاف من ألم فى أحشائها..ودوار..ورغبة فى القئ..وانتفاخ فى البطن..حينئذ تيقنت أن هناك كارثة قد وقعت على رأسها ورأس ابنتها!
كتمت صرخاتها..لم تنم ليلتها..احتارت فيما تفعل..أخيراً قررت أن تبوح للشيخ بسيونى بما حدث..إنه الوحيد الذى سيقف معها..أو على الأقل سيكتم سرها..ويرشدها بحكمته المعهودة فيما تفعل؟!
حضر الرجل.. طلبت منه الدخول حيث أبدت رغبتها فى الحديث معه..أمرت ابنتها أن تظل خارجاً بجوار الفرش..أسرّت إليه بما أحرق قلبها طوال ليلتها..انتفض الرجل واقفاً..ظل يلومها..ويصب جام لعناته عليها وعلى ابنتها وعلى عمر..وبدأ يتلو على رأسها بعض الأحاديث وآيات الرجم والعذاب المنتظر.
أخذت الأم تنهنه..والدموع تسح على خديها..جلس ملتصقاً بها..لف يده ووضعها حول كتفها..ضم صدرها بقوة إلى صدره..فزادت من بكائها..فازداد التصاقاً وضماً لها..
ـ وبعدين حنعمل ايه يا حاج بسيونى فى المصيبة دى؟!
ـ اطمنى يا أم عفاف وارمى حمولك على الله وعليّا..
ـ مش عارفة من غيرك كنت حعمل ايه؟!
ـ طول ما أنا جنبك ما تخفيش من حاجة أبداً..أنا لا يمكن أتخلى عنك ولا عن عفاف..
تمتمت الأم وهى تطبطب على صدره..
ـ ربنا يخليك لينا يا حاج ولا يحرمناش منك أبداً..
ثم أشارت عليه بكيفية الخروج من المأزق..حيث أعلمته بإعجاب عمر بالفتاة..وربما رغبته فى الارتباط بها..لكن لا تعلم كيف تدير الأمر وتنهيه على خير دون أن يدرى أحد بما وقع بينهما؟!
حينئذٍ انتفض الشيخ بسيونى من جديد..لأن الأمر لو انتهى على خير كما تريد تلك المرأة الجائعة انتهت معه رغبته المحمومة فى عفاف؟!
إنها فرصة لن تتكرر..الأم فى مأزق..الفتاة فى مهب الريح..الشاب حجر عثرة يسهل الآن تحطيمه!
استطاع الشيخ بسيونى أن يقنع أم عفاف بأن عمر لو أنكر فعلته فسوف تصبح هى وابنتها فى مأزق أكبر..ولن يستطيعا العيش بعد ذلك بين أهل القرية..فاضطربت..وهوت على يده تقبلها ليقف معها وينقذها ممّا هى فيه!..فعاد للجلوس بجوارها من جديد ليؤكد لها عدم تخليه عنها وليمنحها المزيد من الطمأنينة والحنان المفقود!
إنه يوم الجمعة..أعد الشيخ بسيونى خطبته..صعد المنبر..ظل يخطب فى الناس عن قيمة العفاف..وعاقبة الزنا..ويستشهد بالعديد من الآيات والآحاديث ممّا دفعهم جميعاً للتأثر و البكاء..
انتهت الخطبة..والصلاة..أسرع يطلب من الحاضرين عدم الانصراف..سألهم عن مدى ثقتهم فيه!..ومدى حرصه على بناتهم وأعراضهم!..فصاحوا جميعاً يهتفون بصلاحه وتقواه..فأشار عليهم بأهمية طرد عمر من القرية..لمدى خطورته حال بقائه على زوجاتهم وبناتهم وأعراضهم..تعجب الحاضرون..تساءلوا..ماذا حدث؟!
قال الرجل متأثراً:
ـ هل يرضيكم بعد أن وقفت بجانبه المرأة المسكينة الفقيرة أم عفاف..والتى تعامله كابن لها أن يراودها عن نفسها وهى تدخل عليه بالطعام.
حينئذ انتفض الجميع فى غضب وثورة..فعاد الشيخ بسيونى وأجلسهم بصعوبة..
وطلب منهم معالجة الأمر بحكمة حفاظاً على سمعة المرأة وابنتها.
فصاح عمدة القرية فى غضب:
ـ حكمة إيه يا شيخ بسيونى!
ده يا إما يغور فى داهية ويفارقنا..يا إمّا حنخلّص عليه!
استحسن بسيونى رأى العمدة بطرده من القرية..وفى ذات الوقت لامهم على ترك المرأة وابنتها هكذا يعيشان بمفردهما دون سند أو عائل!
فأشار بعضهم متسائلاً:
ـ وإيه اللى فى إيدينا ممكن نعمله؟!
فأخبرهم الشيخ بسيونى بأن الله شرع الزواج مثنى وثلاث ورباع..
من أجل ذلك قرر أن يتزوج من الفتاة أو أمها..رغبةً فى الوقوف بجانبهما وطمعاً فى رضا الله عز وجل!
ظل الجميع يهتف بحياة الشيخ ويدعون له..ثم توجهوا نحو منزل عمر وقاموا بتحطيم الباب وأثاث المنزل..ثم جذبوه بقوة خارجاً..وأجبروه على مغادرة القرية كما هو..وهو لا يعلم ماذا حدث ليحطموا منزله ويطردونه هكذا؟!
وعقب ذلك توجه الجميع لمنزل أم عفاف وعلى رأسهم الشيخ بسيونى والعمدة ومأذون القرية..وتم عقد قران بسيونى على عفاف..وظلوا يهنئون أمها طالبين منها أن تدعو للشيخ بسيونى..واتفق الجميع على أن يدخل بها بعد أسبوع من الآن.
انطوت عفاف على نفسها..ظلت تبكى لما وقع بعمر وما آل إليه أمرها..
حاولت أن تعرف سبب إجبارها على الزواج من الشيخ بسيونى !
فنظرت إليها أمها بانكسار..وذكرتها بتلك الليلة التى أصابها فيها الدوار ورغبتها فى القئ..ثم قالت:
ـ كتر ألف خيره إنه حيستر عليكى وعلى اللى فى بطنك!
ظلت عفاف تضحك حيناً وتبكى حيناً..حتى ظنت أمها أنها فقدت عقلها..
لكن الواقع أن الأم هى التى فقدت عقلها وظلت تضحك ضحكات هستيرية لا تنقطع حين أخبرتها عفاف بأن ما حدث لها فى تلك الليلة المشئومة كان نتيجة ما تناولته من أوراق الكرنب والعسل الأسود!

تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في