الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عودة الديني أم توظيف الدين؟ المستفيدون والمتضررون

خميس بن محمد عرفاوي
(Arfaoui Khemais)

2018 / 9 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عودة الديني أم توظيف الدين؟
المستفيدون والمتضررون(*)

هل هي عودة الدين أم هجوم الرجعية المتغلّفة بالدين؟
لا نعتقد أنّ هناك عاقلين يختلفان في اعتبار أنّ كلّ ما يقال لا يعدو أن يكون وجهة نظر. ويعتبر القول بعودة الدّين وجهة نظر قابلة للنقاش. إنّ الدّين لم يندثر أو لم يتراجع حتّى نقول إنّه يسجل عودة. وعندما نتحدّث عن الدّين فلا بدّ في نظري من الاتفاق على معنى الدّين. فهل هو التكفير والعنف وممارسات باسم الدّين وليست دينا وتدمير الإنسان والوطن حسب رأي البعض؟ أم هو علاقة بين الإنسان والله وطريق للخلاص الفردي في الآخرة حسب رأي البعض الآخر؟ منذ القديم وخاصة منذ عهد الإصلاح البروتستانتي كان هناك من يدافع عن "الدين الحقيقي" الذي يقوم على حريّة الإنسان وعلى العلاقة المباشرة بالله.
وفي الدّين الإسلامي تختلف وجهات النظر حول مسألة الحريّة والمسؤولية حسب المذاهب الفكرية والتيارات السياسية. وقد تطوّر مفهومان في علاقة بمنزلة الإنسان في الكون. فالجبرية تقول إنّ الإنسان ليس له إرادة ولا اختيار. أمّا القدرية فتقول إنّ الإنسان قادر على الفعل والاختيار. وفي عصرنا هناك من يعتبر أنّ الحريّة كحق من حقوق الإنسان دخيلة وتتناقض مع ما جاء في الإسلام من أنّ الإنسان عبد الله ويخضع لحكم الله وهو موقف الأصوليين (المودودي، أبو الأعلى، د. ت.، ص10). بينما هناك من يرى أنّ الإسلام لا يتناقض مع فكرة حقوق الإنسان بل إنّه يحتوي على نَوَيَات (جمع نواة) هامة لهذه الحقوق (الجليدي، مصدق، ص 60).

وبالعودة إلى الإسلام فإنّنا نجد العديد من الآيات التّي تعترف بالحريّة و منها الحريّة الدينية وحريّة الاعتقاد: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" )يونس:69). "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ" )البقرة:256). وحرية التفكير "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) سبأ:46 ("قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" )يونس:101 /
ومن أهمّ ما سجّل على عمر بن الخطاب قولُه لعمرو بن العاص والي مصر في حادثة اعتداء ارتكبها ابنه على أحد الأقباط:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟"
أفرزت هذه الشواهد وغيرها تيارا إسلاميا حداثيا وتقدّميا من بين رموزه الطاهر الحدّاد (1899 - 1935) الذي ناضل في سبيل الحقوق الوطنية ودافع عن حقوق العمال مثل الحقّ في تأسيس النقابات وفي الإضراب. كما أنّه دافع عن حقوق المرأة انطلاقا من تأويل الإسلام على أساس الفهم المقاصدي وتنزيل الآيات في سياقها التاريخي. وامتدادا لنفس التيار دافع الإيراني علي شريعتي (1933 -1977 أعدمه شاه إيران) والسوداني محمد محمود طه (1908- 1985 أعدمته الدكتاتورية المتغلّفة بالدّين في السودان)، عن التوجّه الاشتراكي في الإسلام على غرار حركة القرامطة وغيرها. فمحمود طه يرى أنّ الله خلق الإنسان على صورته. فهو إذا إنسان حرّ ومسؤول وجدير بالسعي إلى الكمال. الحريّة في رأيه يجب أن تكون تامّة ولا يشترط في ممارستها سوى واجب حسن التصرّف فيها بحيث لا يقع الحدّ منها إلاّ في حالة قصور المرء عن القيام بهذا الواجب. ويقول إنّ الفرد رجلا كان أو إمرأة هو هدف بذاته وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون أداة في خدمة هذا الهدف. فالإسلام في نظره لا يدعو إلى التضحية بالفرد لصالح المجموعة كما أنّه لا يدعو إلى التضحية بالمجموعة لصالح الفرد. هناك توافق تام بين حاجة الفرد إلى الحريّة الفردية التامة وحاجة المجموعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.
من حقّنا القول إنّ هذا التوجّه يمثّل "الدّين الحقيقي" الذي لا يقوم على المظاهر والأشكال وإنما على الإيمان وهذا التوجه هو الذي قاد فكر زعماء النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وقادة حركات التحرّر الوطني وهو الأكثر انتشارا في بلادنا خاصة في صفوف المثقفين والطبقات الوسطى المتعلمة.
أما ما نشاهده من "صحوة" فهي تعبير عن أصوليّة إسلامية كنا قد تعرضنا لبعض خصائصها في مقال سابق (عرفاوي، العنف السياسي، 2013) وللتذكير فقد أشرنا إلى أنها لا تختلف في الكثير من سماتها عن التيارات القومية المتطرّفة التّي انقلبت على الديمقراطية في الكثير من البلدان الأوروبية فيما بين الحربين. فجميعها تيارات لا عقلانية. ويتجلّى ذلك بالنسبة إلى التيارات الفاشيّة والنازية التّي لا تستند إلى أفكار فلسفية متناسقة، بل تتميّز بفقر معرفي مدقع وتتبنّى خليطا من الأفكار والمذاهب. إنّ الرابط الوحيد لهذه الأفكار والمذاهب هو الطابع الرجعي والمحافظ. فتلك التيارات لا تعترف بالواقع وبما هو موجود وتدافع عن أفكار لا تولي الفردَ اعتبارا كبيرا. وعلاوة على ذلك فإنّها أصولية محافظة تقوم على تمجيد الماضي (القرون الوسطى بالنسبة إلى الفاشيّة في إيطاليا والنازيّة في ألمانيا وصدر الإسلام بالنسبة إلى الأصوليّين الإسلامويّين) وتسعى إلى العودة إليه. كما أنّها لا تؤمن بالعقلانية وبالتقدّم وبدور الثقافة في تهذيب الإنسان وترفض الاختلاف وحقوق الإنسان والحرّيات العامة والخاصّة. كما ترفض الديمقراطية وتخاطب الغرائز وتنقاد إلى الاندفاعات التلقائية وغير المهذَّبة مثل العنف ومشاعر الكراهية ورفض الآخر. وفضلا عن ذلك فإنّها تمجّد الحرب وتميل إلى الدولة القويّة التّي لا مجال فيها للحريّة وتقوم على التعصّب العقائدي والامتثال للزعيم بلا اعتراض. إنّ المستوى المعرفي بالنسبة للأصوليين "الإسلاميين" أكثر تدنيا من جماعات اليمين المتطرّف في أوروبا إذا أخذنا بعين الاعتبار ضعف إن لم نقل انعدام اهتمامهم بمختلف الفروع العلمية. ويزداد الأمر تأكيدا إذا نظرنا إلى الفتاوى المذلّة للمرأة التّي أصدروها (مثل الفتاوى المتعلّقة بجهاد النكاح و"إرضاع الكبير") والحملات الدعوية المنافية للعقل التّي استجلبوا الدعاة من الشرق لنشرها ولعلّ هذه الأقوال والأفعال أصدق إنباء من الكتب.
كما أنّ التيارات اليمينية المتطرفة المذكورة تعطي الأولوية للأشكال. فعندما تنظر الأحزاب الفاشيّة والنازيّة إلى المسألة القوميّة فإنّها تكاد تختزلها في رموز كالصليب المعقوف والتحيّة الفاشيّة وتمجيد الزعيم والولاء له واستعراضات القوّة والوشاية الخ. إنّ الالتزام بهذه الأشكال هو المعيار الأساسيّ في تلك الأحزاب لمنح الفرد صفة العضو. وفي ما عدا ذلك فإنّ تلك الأحزاب كانت ترفض بقوّة التراث القومي والإنساني العظيم الذي أنجزته الشعوب الأوروبية مثل الحركة الإنسانية "L’humanisme" وفلسفة التنوير والديمقراطية ومبدأ المواطنة والاشتراكية وغيرها من التيارات والحركات الفكريّة. وكان كلّ من يرفض التظاهر بالولاء ويحافظ على استقلاليته يكون محلّ شبهة ومعرَّضا للقمع والتصفية.
لا نرى أنّ الأصولية الإسلامويّة تتعارض مع هذه المنظومة الفكرية والسلوكية وهي علاوة على ذلك اختزلت صفة "المسلم الحقّ" في العبادات واللحية واللباس: القميص والقلنسوّة والبقعة السوداء على الجبين والسبحة والسجادة... ولكنّ بطلان هذا التصوّر ينكشف حين نتساءل: أليس بإمكان أيّ كان القيام بالشعائر الدينية وحمل هذه العلامات دون أن يعني ذلك أنّه "مسلم حقّ"؟ وهل هذا "المسلم الحقّ" مطالَب بتقديم علامات تديُّنِهِ لغيره ؟ إنّ هذا التصوّر يعطي صورة مشوّهة عن الإسلام. فهو لا يربط التديّن بالإيمان الحقيقي الذي هو علاقة بين الإنسان وبين الله مثلما ذكر سابقا. بل إنّ هذا التصوّر مضرّ لأنّه يميّز بين الناس على أساس الأشكال التّي لا تعني بالضرورة ما يراد إظهاره. وينتج عن ذلك انقسام المجتمع وأعمال الإكراه والاقتتال. ويصبح المسلم "الحقّ" في نظر هؤلاء من يقتل المخالفين له في الرأي ويفرض آراءه بالقوّة وليس من يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة ويعطي المثل باستقامته وحسن أخلاقه وحبّه لغيره. وهكذا نفهم أنّ الأصوليين يؤسّسون لإكليروس إسلامي ولمحاكم تفتيش على غرار المسيحيّة في القرون الوسطى.
كما يعطي الأصوليون الإسلامويّون أهمية فائقة لنظام العقوبات والحدود الإسلامية ويطالبون بتطبيقه حرفيا. ونشير في هذا المجال إلى أنّ ما يُعاب عليهم هو قراءة بعض الآيات القرآنية معزولة عن سياقها وعن الأوضاع التاريخية لكي يستخرجوا منها الاستنتاجات التّي يرونها صالحة لكلّ مكان وزمان. ويقع القفز بهذه الطريقة على منهج كبار المفسّرين الأوائل للقرآن مثل الطبري الذي يذكّر بالظروف التاريخية الحافّة بكلّ آية. كما يقع القفز على ما جاء به القرآن في بعض السور من تجديد متجاوز قانونَ الثأر وشريعة القَصَاصْ بالمثل: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (سورة الشورى الآية 40) وعلى سنّة محمد الذي لم يحكم بقطع يد السارق إلاّ مرّة واحدة وكذلك على سيرة عمر الذي علّق حدّ قطع يد السارق في زمن المجاعة "عام الرمادة" (أواخر سنة 17 وبداية سنة 18 هـ/638-639 م).
وعلاوة على ذلك فإنّ التيارات الفاشيّة والأصولية الإسلامويّة المذكورة إقصائية. فهي عنصرية وتكفيرية وتسلك في مجالات العلوم والمعارف سُبلا مناقضة للمكتسبات التّي حقّقتها البشرية. فهي تنكرها وتتمسّك بكلّ عناد بالمعارف المكتسبة في العصور الخالية. وهذا بارز مثلا في علوم الإناسة أو الأنتربولوجيا. فالمذهبان الفاشيّ والنازيّ مبنيّان على مفهوم العِرْق وعلى فكرة الصراع بين الأجناس وبالتالي على العنصرية. ومثلما تؤمن الفاشيّة بتفوّق الجنس الإيطالي فإنّ النازيّة تؤمن بتفوّق الجنس الآري وبحقّه في المسك بمقاليد الدولة وإخضاع بقيّة الأعراق. وهنا يكمن الخلط بين العِرْق والدولة على نحو أدّى إلى استشراء عنف الدولة ضدّ المجموعات التّي لا تنتمي إلى الجنسين المذكورين وخاصّة اليهود. والحال أنّ هؤلاء اليهود لم يكونوا دخلاء على الشعوب الأوروبية بما فيها الشعب الألماني باعتبارهم ليسوا جنسا، بل أصحاب ديانة. وقد ساهم النازيون بسياستهم المعادية للساميّة في ترسيخ الفكرة الصهيونية في فلسطين وفي اكتسابها تأييدا عالميا.
كذلك الشأن بالنسبة إلى الأصولية الإسلامويّة التّي تعيد أفكارا قديمة والتّي ورثت عن القرون الوسطى ظاهرة التكفير التّي طالت كلّ من يختلف معها في الرأي أو في المذهب السياسيّ أو الاقتصاديّ وتجاهلت التحذير من السيطرة الذي جاء في سورة الغاشية "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر" (21-22) أو التحذير من الغلوّ الذي جاء في الحديث النبوي "إياكم والغلو في الدّين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدّين" (أخرجه ابن ماجة (توفي 275)، 3029). كما شمل التكفير كلّ ما هو جديد محدَث. من ذلك أنّ هذه الأصوليّة شوّهت العلمانية بالخلط بينها وبين الإلحاد واعتبرتها مفهوما غريبا وكفّرتها.
وفي الواقع فإنّ العَلمانية ليست غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية مثلما بيّنه العديد من الكتاب والباحثين بل إنّ هناك من يرى أنّ "الترابط بين الديني والوضعي في القرآن هو الذي جعل الإسلام مُعَلْمَنًا بالضرورة" (القاسمي، فتحي، 1994، ص 179). ويمكن أن نتساءل في هذا الشأن: هل ورد ذكر الدّين في الصحيفة أو دستور المدينة الذي حرّره محمد لتنظيم العلاقة بين جميع الطوائف والجماعات المقيمة في المدينة بما فيها القبائل اليهودية؟ والإجابة معروفة إذ يتميّز دستور المدينة بطابعه المدني الواضح (بن ساسي، محمد، 2013، ص 37- 52). كما أنّ كلمة العلمانية لا تعني الإلحاد فهي تعني بكلّ بساطة الفصل بين الدّين والسياسة. فقد أثبتت التجربة التاريخية أنّ استعمال الدّين في السياسة يكسب الأسر الحاكمة شرعية وهمية ومفروضة ويسمح للحاكم المطلق بتبرير الاستبداد. وهذا ما يبيّن نوايا الأصوليّين الإسلامويّين. فهم يريدون بكلّ بساطة الاستيلاء على السلطة بواسطة الانقلاب على الديمقراطية والحكم باسم الله مثلما كان يحكم الملوك في أحلك فترات القرون الوسطى. وإنّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ نظام الحكم الأمثل بالنسبة إلى المسلمين بمختلف طوائفهم، كما بالنسبة لكافة المتدينين هو النظام المدني الذي يضمن حريّة المعتقد ويحمي ممارسة الشعائر الدينية ولا يميّز بين المواطنين على أساس المعتقَد ويسهر على توفير دور العبادة ودفع رواتب القائمين على شؤون الدين.
وأخيرا فإنّ التيارات الفاشية والإسلاموية تشكّل خطرا على الوطن فالتيارات الفاشية زجت بدولها في الحرب العالمية الثانية وانتهى الأمر بانهزام تلك الدول وخرابها وباحتلالها من قِبَل الحلفاء. وهكذا نلاحظ أنّ التعصّب القومي يشكّل خطرا على الوطن واستعداء للإنسانية. أما الإسلامويّون فإنهم لا يؤمنون أصلا بالوطن ويؤمنون بالأمة الإسلامية وهو مفهوم هلامي لا حدود له ويؤدي إلى الاستقواء بالخارج وبأعداء الوطن لتحقيق الهدف وهو مثلما هو معروف نظام الخلافة.
من هم المستفيدون من الأصوليّة الإسلاميّة ومن هم المتضررون؟
لا ريب في أنّ الإجابة عن هذا السؤال ستساعدنا على تفسير الهجمة الشرسة التّي تشنّها حاليا الرجعية الأصولية في الأقطار العربية التّي ثار متساكنوهاّ على حكّامهم.
يبدو جليّا أنّ الثالوث المتكوّن من القوى الإمبرياليّة الرأسماليّة والصهيونية والرجعيّة العربيّة والتركية هو المستفيد من مزيد تقسيم الوطن العربي وإضعافه والتحكّم في شعوبه حتّى تبقى خانعة ومدجنة. فالقوى الإمبرياليّة الرأسماليّة المتكوّنة من الولايات المتّحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي تعيش حالة تنافس حاد بينها وبين بقية القوى مثل روسيا الاتحادية والصين واليابان وفيما بينها أيضا من أجل السيطرة على الأسواق الخارجية وعلى المناطق المنتجة للمواد الأولية ومصادر الطاقة خاصة في أفريقيا وآسيا. وفضلا عن ذلك فإنها معنية بحماية الكيانات المزروعة في الوطن العربي وتحديدا الكيان الصهيوني والكيانات الخليجية. فالإمبريالية الأمريكية تسعى إلى التحكم في البلدان العربية سياسيا عن طريق فرض عملائها الليبراليين المحافظين والأصوليين في الحكم، واقتصاديا عن طريق أدواتها المالية المتمثلة في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. ولعل ما نعيشه اليوم من تفاقم المديونية وتردي الأوضاع من جراء سياسة التقشف والخوصصة والتفويت في الثروات الطبيعية لرأس المال الأجنبي أكبر دليل على ذلك.
أما الكيان الصهيوني صنيعة الإمبريالية وتحديدا الامبريالية البريطانية فإنّ أهم مبرّر لوجوده كان وما يزال التصدي لحركات التحرّر الوطني في الوطن العربي والقيام بدور الحامي لمصالح القوى الإمبرياليّة. وعلاوة على ذلك فإنّه معني بصفة خاصة بإضعاف البلدان العربية والقضاء على الأنظمة الممانعة وغير المطبعة. وها هو يجد أفضل داعم له في القوى الأصوليّة.
وبالنسبة للرجعية العربيّة فهي تتكوّن من الأنظمة العربيّة وخاصة الخليجية بما فيها النظام السعودي وتدعّم صفوفها الحركات الأصولية سواء الحاكمة منها أو المقاتلة. فهدفها جميعا هو التصدّي لأيّ تغيير في المشهد السياسي أو الاقتصادي والحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها بل وتدعيمها.
ويمثل النظام التركي الإخواني جزءا من المؤامرة على الوطن العربي خدمة لأجندات أسياده الامبريالية الرأسماليّة والصهيونية وخدمة لإستراتيجية التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ولنهب ثروات الشعب السوري واستغلال الأسواق العربية.
إنّ ما يربط بين كلّ هذه الأطراف هو تحالف عضوي ضمن منظومة عالميّة تتحكّم فيها البورجوازية الكبيرة وخاصة البورجوازية الماليّة وتستفيد منها الشرائح الاجتماعية العليا العميلة والأكثر فسادا.
حينئذ يبدو للعيان أنّ الهجمة باسم الدّين الإسلامي على الوطن العربي تمثّل جزءا من استراتيجية عالمية تقف وراءها الإمبريالية العالمية وتعمل على تحقيق عدة أهداف دولية وإقليمية تصب في خانة تكريس الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي وفي إخضاع المنطقة العربيّة وخاصة المشرق العربي للسّيطرة الكاملة للكيان الصهيوني.
من البديهي إذن أنّ الشعوب العربية هي المستهدفة عن طريق الهجمة الأصوليّة. فقد انشغلت عن قضاياها المصيرية: التحرّر والوحدة والديمقراطيّة والتنميّة الاقتصاديّة والبشريّة وانصرفت اهتماماتها إلى قضايا جانبيّة وحصل انقسام بين الناس افتعله الإسلامويون الذين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الدّين وتشكّلوا في نظام إكليركي لا علاقة له بالإسلام. وأكثر من ذلك حلّ الدمار ببعض الأقطار وقتل الآلاف وتشرّد الملايين.
وإذ حوّلت وجهة الثورة في بعض البلدان من الحريّة والكرامة إلى الخراب والموت ففي تونس لم يتحقق أيّ مطلب من مطالب الثورة كالتشغيل والتنميّة وإصلاح المنظومات الإدارية والأمنية والقضائية والجبائية ولم يقع التخلّي عن رهن البلاد للبنوك والدول الرأسماليّة بل اُفتقد الأمن وانتشرت المجموعات الإرهابيّة في عدة جهات وتعرض زعماء سياسيون وعسكريون وأمنيون وسيّاح للاغتيال والقتل.
وفي كلمة أصبحت قوى الشدّ إلى الوراء أقوى من أيّ وقت مضى خصوصا بعد تحالف الليبراليين المحافظين والإسلامويين وأصبح التقدّم مكبّلا والأفاق شبه منسدّة.
ويحق لنا أن نتساءل عن الخسائر التّي تكبّدناها: أموال صرفت دون فائدة ووقت ثمين ضاع في جدالات عقيمة وفرص اعتراف وتألّق عالميين هدرت.
هذه هي نتائج الهجمة التّي استهدفت أقطار الوطن العربي التي عرفت ثورات والتّي يُعبّر عنها بعودة الديني.

(*) قدمنا هذه المداخلة في ندوة الدكتوراه للدراسات الثقافية نظمتها وحدة البحث
Intermédialité, Lettres et Langages
بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس يوم 21 ماي 2016.

مصادر ومراجع مختصرة
أ‌- بالعربية
أركون، محمد ، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة وتعليق هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1999.
بن ساسي، محمد،”دستور المدينة أو دولة ما قبل الخلافة"، البديل، عدد 3، جانفي- فيفري- مارس 2013، ص 37- 52.
بنعلي، كمال،”في إمكانية انحراف الشرعية الانتخابية نحو الاستبداد...!“، الفكرية، العدد 10، سبتمبر 2013.
سيد قطب، الإسلام ومشكلات الحضارة، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1962.
الصغيّر، عميرة عليّة، “العنف السياسي في تونس بين الماضي القريب والحاضر القائم”، الدرب، ماي 2013، ص 24- 29.
الطبابي، عبد الحفيظ، الخصائص الفاشية للتيّار السلفي الجهادي، المجلّة الالكترونية اليوم، 7 أجزاء، 2013.
عرفاوي، خميس: _ "العنف السياسي في تونس ما بعد الثورة محاولة في التاريخ الراهن"، الأوان (مجلّة الكترونيّة)، أكتوبر 2013.
_"ماذا يبقى من الثورة التونسية؟ دراسة آنية واستشرافيّة"، الحوار المتمدن (مجلّة الكترونيّة)، 25 جانفي 2015.
غارودي، ترجمة خليل أحمد خليل، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، باريس، دار عام ألفين، 2000.
غازي، محمد خالد، أنبياء وقتلة التطرّف الديني والعنف السياسي في مصر، القاهرة، 1994.
القاسمي، فتحي، العلمانية وانتشارها شرقا وغربا، تونس، الدار التونسية للنشر، 1994.
المديني، توفيق، العنف السياسي والمجتمع التونسي، المجلة الالكترونية الوفد، 7 أكتوبر 2013.
الهمامي، الطاهر،”العلمانية مفهوما وتاريخا وراهنية“، الفكرية، عدد 6، ديسمبر 2012، ص 4-10.
المودودي، أبو الأعلى، حدود التشريع في الإسلام مكانة الاجتهاد فيه، الكويت، مكتبة دار البيان، (د.ت).
ابن ماجة (توفي 275)، سنن ابن ماجة، 3029.
الجليدي، مصدق، “الإسلام وفلسفة حقوق الإنسان”، حمزة عمر (تنسيق) ، نحو فكر إسلامي بديل، أعمال ملتقى بتونس العاصمة سنة 2013، نظمته جمعية تونس الفتاة ومؤسسة كونراد أديناور.

ب- بالفرنسية
Fourest (C), Venner (F), Tirs croisés: la laïcité à l’épreuve des intégrismes juif chrétien et musulman, Paris , Calmann-lévy, 2003.
Hofer (W), Le national-socialisme par les textes, Plon, 1963.
International Crisis Group, Tunisie: violences et défi salafiste, Rapport Moyen-Orient/Afrique du Nord, N° 137, 13 février 2013.
Mussolini (B), La Dottrina Del Fascismo, 1929. L’édition française est publié en 1935.
Taha Mohamed, Mahmoud, traduit par Mohamed El Baroudi-Haddaoui et Caroline Pailhe, Avant-propos de François Houtart - Préface de Samir Amin, Un islam à vocation libératrice, Paris, L’Harmattan, 2002.
Xavier Crettiez, Les formes de la violence, Paris, La Découverte, coll. « Repères Sociologie»,
2008.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماريشال: هل تريدون أوروبا إسلامية أم أوروبا أوروبية؟


.. بعد عزم أمريكا فرض عقوبات عليها.. غالانت يعلن دعمه لكتيبه ني




.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح


.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي