الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يهود تونس و المواطنة المسلوبة

سمير النفزي

2018 / 9 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قد يعدّ استعمال لفظ ديني او عرقي او طائفي للحديث عن مجموعة بشريّة بعينها من أبشع ضروب التمييز و العنصريّة، على اساس ان المشترك بين جميع الناس هو الانسانيّة، غير ان الوضع في تونس مختلف تماما. فمن داخل ثقافة الاربعة عشر قرنا المزعومة – و كأنّ تونس قبل ذلك كانت قاحلة و غير مأهولة- و من داخل هيمنة فكرة تعريب المناطق التي يدخلها الدين الاسلامي و مع ما شابه من تلاعب سياسي و فقهي اصبح اليوم لدينامجتمع مطبّع مع التمييز العنصري بكلّ اصنافه، فمن الاستهجان بأسود البشرة الى السخريّة من لهجات المناطق الدّاخلية و الحدوديّة، الى استعمال العنصري الجهوي في المناسبات السياسية او تحفيز ما نسمّيه بالعروش في بعض النزاعات و كلّ ذلك نعيشه اليوم بايقاع متخفّي و يطول الحديث فيه، غير ان الاخطر من ذلك كلّه هو وجود ظاهرة التمييز على الاساس الدّيني بين التونسيين بمقتضى القانون و الدستور عبر تاريخ تونس المعاصر، و الذّي استهدف غير المسلمين عموما، رغم تنوّع التركيبة الدّينية للمجتمع بل حتّى التركيبة الطّائفيّة. و رغم اعتماد الدولة بشكل رسمي للمذهب المالكي فانّ في تونس يتواجد الشيعة و الاباضيّة و الاحباش و السلفية بأنواعها . لكن اللافت للانتباه هو ان المتضرّر المباشر من أسلمة المنظومة التشريعية في تونس مسيحيي تونس و اللادينيين و اليهود، و رغم عراقة هذه الاخيرة – اليهودية- في تونس الاّ انّهم في نظر القانون يعدّون سكّان تحت خطّ المواطنة.
فماهي اسباب و مظاهر هذا التمييز ضدّ اليهود في تونس اليوم؟
عند الحديث هنا عن التمييز الذّي يرتقي الى العنصريّة ضدّ يهود تونس سنكتفي بلمحة مقتضبة في تاريخنا المعاصر لنعرف ان التمييز كان موجودا و استمرّ كذلك الى اليوم اذ اشار المؤرّخ ب وليفة الى انّه ثمّة تمييز ضدّهم من خلال فرض الجزية عليهم. وخلال القرن التاسع عشر، كان مفروضاً عليهم ارتداء زيّ مختلف عن أزياء المسلمين كارتداء سروال عليه علامة خاصة أسفله. وأيضاً كان ممنوعاً عليهم لبس الشاشية الطويلة الحمراء، بل كانوا يضعون على رؤوسهم غطاءً يُعرف باللحفة أو الشال، رمادي أو أزرق، حتى لا يقع الخلط بينهم وبين المسلمين".واعتبر بوليفة أنه بخلاف هذا التمييز "كانوا يتعايشون مع باقي عناصر المجتمع وكانوا متخصصين بالتجارة والوساطة التجاريّة بين أوروبا وتونس خاصة، وتخصصوا في عهد البايات بتجارة الجلود والشمع وهي تجارة مربحة جداً كما تفرّدوا بصناعة الخمور وفق ما ذكر الدكتور لويس فرانك في بحث بعنوان: يهود تونس خلال القرن التاسع عشر".أما عن علاقة اليهود بغيرهم في جزيرة جربة فقال سفيان بن جاب الله إن "اليهود عانوا من الاضطهاد في كل محطات التاريخ والجغرافيا.
بالعودة الى اواسط القرن التاسع عشر و تحديدا سنة 1857 عندما وقع سنّ دستور عهد الامان لم يكن ذلك خيارا مجتمعيّا من الباي او اعترافا تاريخيا منه بالتونسيين اليهود بل جاء عقب ضغوط دوليّة مارستها كلّ من فرنسا و انقلترا عليه بعد ان اعدم التونسي اليهودي باتو سفاز بتهمة شتم رسول الاسلام، رغم ذلك فقد مثّل هذا الدستور حافزا مهمّا و تشجيعا لليهود في تونس على التحوّل في السكنى الى المدينة العصريّة.
اقترح بعد ذلك محمّد الصادق باي تعيين جملة من المستشارين اليهود له استئناسا بخبرتهم الاقتصاديّة و مجال العلاقات التجاريّة بعد ظهور دستور 1861. وهو بمثابة الاعتراف بالقيمة الاجتماعية لهم و ما ذلك الاّ اثبات صريح للكفاءة التّي تمتّعوا بها انذاك و قد لقي هذا الاقتراح موافقة من أحمد بن ابي الضيّاف غير انّه في نفس الوقت لقي معارضة من أمير الامراء انذاك الجنرال حسين الصديق المقرّب من خير الدّين باشا.
بعد الاستقلال سعى بورقيبة كأوّل رئيس للجمهوريّة الى جعل المسألة اليهوديّة في تونس ورقة سياسيّة من جملة الاوراق التّي لا بدّ من كسبها الى جانبه لاحتوائها من جهة و لتقديم بعض الارضاءات الى المانحين للاستقلال الذّاتي عام 1955. و من داخل هذا التصوّر انتدب بورقيبة وزيرا تونسيا يهوديا في اوّل حكومة في تلك الفترة ، بعدها اصرّ على وجود يهودي في المجلس التأسيس الاوّل سنة 1956 و يهودي في البرلمان الاوّل سنة 1959 و البرلمان الثاني سنة 1964. غير ان الاعلان الدستوري بعروبة الدولة و تبنيها الدّين الاسلامي اثار مخاوف اليهود في تونس و فضّل العديد منهم الهجرة خارجها.
تعرّض اليهود في تونس الى العنف و العنصريّة و التبخيس عقب انتصار اسرائيل على جيوش الدول المجاورة لها منها مصر و سوريا ممّا جعل العديد من الشبّان يهاجرون امّا لاسرائيل عن طريق فرنسا او الاستقرار بفرنسا، ثمّ جاءت احداث 1985 و التي قصف فيها سلاح الجوّ الاسرائيلي مبنى في منطقة حمام الشط في الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة يعتقد ان به قيادات منظمة التحرير الفلسطينية المناوئة لهم.
تنامى منسوب الظغينة من طرف التونسيين تجاه الطائفة اليهودية في تونس و اعتبروهم بصفة كليّة داعمين للصهيونية و لاسرائيل و حدثت العديد من احداث العنف ضدّهم الشيء الذّي جعلهم يهاجرون في موجات جديدة خارج تونس.
الملاحظ ان التونسيون اليهود في اغلبهم كانوا مساندين للسلطة القائمة و يعتبرونها صمّام الامان لاستمرارية وجودهم و ضمان تواصل مصالحهم في تونس فكانوا من أكثر الدّاعمين لسلطة الجنرال بن علي الذّي قدم للسلطة اثر انقلابه على الرئيس بورقيبة، و اعتبروه حام لهم بل انّه قام بتعيين أحد المشرفين على حجّ مقام اليهود في جربة بيريز الطرابلسي عضوا في مجلس المستشارين انذاك. بعد الانقلاب الذّي نفّذ ضدّ بن علي في 14 جانفي 2011 و وصول حزب حركة النهضة الاخوانية بتونس الى السلطة في اكتوبر من نفس السنة و رغم مغادرة ست عائلات يهوديّة جزيرة جربة التي تعتبر تاريخيا معقلا لاستقرارهم و اعمالهم حسب ما ذكرته جريدة الجزيرة في 2010 الاّ انهم كانوا من الداعمين لها بعد ان قدّم الاخوان تطمينات لهم بل انّ الاخوان المسلمين قاموا بترشح أحد اليهود في قوائهم البلديّة في ولاية صفاقس و الذّي لم يتسنّى له الفوز.
المعلوم اليوم في تونس هو انّه من الناحية الاجتماعية و القانونية يعاني التونسيون اليهود من أعلى درجات التمييز و العنصريّة ضدّهم بوجه سافر. هذا السفور تحاول الاغلبيّة العرقية و الدّينية في تونس ان تطمسه عبر بهلوانيات اعلامية و سياسية من قبيل الروبرتاجات المفبركة و التي تصوّر التعايش السلمي بين اليهود و المسلمين في تونس و تغطية حجّ الغريبة و اعتباره حدث مهمّ يقوم فيه مسؤولي الدولة بزيارة الحجّاج هناك و محاولة اشعارهم بالامن و اخذ تصريحات من يهود يثنون فيه على العيش في تونس. غير ان الواقع مخالف تماما لهذه الصّورة النمطيّة التي حرص عليها الساسة و اللغة الخشبية للاعلام المضلّل للرأي العام في تونس ، فاثر انقلاب 14 جانفي تنامى الخطاب التحريضي ضدّ التونسيون اليهود و شهدت تونس عدّة محاولات تخريبية للكنائس اليهوديّة و هناك من طالب بترحيلهم و اخرون طالبو بتصفيتهم حيث تحتفظ الذّاكرة الشعبيّة للمسلمين بكمّ هائل من الحقد و النقمة على اليهود و ربطهم بكلّ الاحداث السيّئة و المبتذلة الى درجة نعتهم بالشذوذ و وصمهم بكريهي الرائحة و غير ذلك كثير اذ انّه اصبحت حوادث الاعتداء على الشبّان اليهود في تونس عديدة و معاملتهم باحتقار امر شائع حتّى انّ أحد السجناء اليهود في تونس و يدعى الان ركّاح كان يتلقّى سلّة غذائه الخاص من عائلته في السجن باذن من قاضي التحقيق على اعتبار ان اكل المسلمين لا يتطابق مع أكله كيهودي حسب عقيدته و التي تفهّمها القضاء غير انّ أحد المدونين المحسوبين على التيار الاخواني قام بحملة تشهير ضدّه و اعتبر ذلك تمييزا له و استعدادا من القضاء لتبرئته و صنّفها معاماة خاصّة لا ينبغي لليهود ان ينالوها ممّا اضطرّ مدير السجن الى رفض استمرار تسليم عائلة السجين أكله الحلال . هذا و قد قام أحد المحامين من التونسيين اليهود بنشر رسالة في شكل فيديو عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي و يدعى الياهو قمحي تحدّث من خلاله على ادانته لحادثة الاعتداء في مدينة المنستير على شاب يهودي في سن 17 سنة و اتهامه بالعمالة و الجوسسة لحساب اسرائيل من قبل شبّان مسلمين خلال شهر اوت 2018 .
ثقافيّا كان للتونسيين اليهود مساهمات ثقافية نوعية من حيث تنويع المشهد الثقافي ومن حيث استحداث أنماط ثقافيّة جديدة ّ، ففي الغناء الطربي خرج من الكنيس اليهودي نمط غنائي جديد كان يستعمل في الاناشيد الديدنية اليهودية و الذي يعتمد على على ترانيم ذات مقام موسيقي معيّن فأضاف الى الرصيد الفنّي التونسي نمطا حديثا بعد ان كانت الموسيقى التونسية منحصرة بين الفنّ الصّوفي و الاندلسي فعرف الموسيقى التونسية مفهوم "التعليلة" عن طريق الفنان الشيخ العفريت كما يميه التونسيون و الذي اسمه الحقيقي ايسيرين اسرائيل روزيز اما كلمة عفريت فهي تحريف عربي لكلمة افيريت التي تعني في اللغة العبريذة اليهودي او العبراني كما قام بأداء أحد اشهر الاغاني في التراث التونسي مثل "في البريمة، واش بيك غضبانة، و أنا ماذبيّة ، و سيدي خويا لا يقّله...."اضافة الى موسى عطّون صاحب أغنية "شفتك مرّة متعديّة"، و خميّس ترنان و حبيبة مسيكة و اسمها الحقيقي مارغريت بنت خوليو أصيلة مدينة تستور و خالتها ليلى سفاز و التّي لحّن لها الملحّن المعروف اشير مزراحي أغنية " العشّاقة" و "فيما مضى حبيتني و حبيتك" دون ان ننسى روول جورنو صاحب اغنية "المطهّر".
اليوم و في ظلّ تنامي المنظومة التشريعية العنصرية والتمييزية، وفي ظلّ سياسة محمومة لاجتزاء الذاكرة الجماعية لتاريخ تونس و السعي لمحو كل أثر لهم و تجنّب الحديث عنهم دأبت عليها الحكومات المتعاقبة فوقع اهمال المقابر اليهوديّة و هجرت الاماكن التاريخية و اغلقت المعابد و همشّت المناسبات الدّينيّة لهم و اليوم لم يعد هناك ايّ اثر للتراث اليهودي في الذاكرة الجماعيّة للاجيال الحالية في تونس التي ترسّخ لهم الاعتقاد بين اليهودية و العمالة لاسرائيل.
اليوم و من منطلق التهجير القسري فان اليهود التونسيين يصنفون من قبيل الذين وقع تهجيرهم قسريا عن بلدانهم مع حرمانهم من جنسية بلدهم الاصلي و لذلك فانّ المطلوب من باب الانسجام مع ما تشيعه الدولة من خطاب الحريّات و الحقوق الكونيّة هو عودة المهجرّين من التونسيين اليهود الى البلدان الاخرى و أوّلهم دولة اسرائيل التي فيها العديد من أهالينا اليهود هناك لا يتمتعون بوثائق بلدهم الاصلي لأنّ ذلك يعدّ تهجير على الاساس الدّيني ، و حاليّا ما تبقّى من التونسيون اليهود يتونس يعانون من أبشع أنواع العنصريّة في هذا العصر باستعمال الدستور التونسي و التشريعات المتفرّعة عنه، اذ ان الدستور التونسي يقرّ صراحة بعروبة الدولة و اسلامها فقط و لم يعترف بغير ذلك من الثقافات و اللغات و الديانات و قد جسّم ذلك من خلال حصر المهام السياسية العليا في الدولة و المهام النيابية بشتى مستوياتها و المهام القضائيّة على العرب المسلمين فحسب في اقصاء سافر لكلّ المكوّنات التاريخية المتنوعة للشعب التونسي و رغم ان العديد من الوثائق الادارية في تونس لازال العديد منها يصدر باللغة الفرنسية غير انّه لا اثر لوثائق باللغة العبرية او اللغة الامازيغية الاصيلتان في تونس.
كما انّ حرّاس العرف البالي في تونس يمارسون عقلية الاستثناء من الخدمة العسكرية على التونسيين اليهود بشيء من الابتذال الغير مبرّر ناهيك عن الوظائف الديبلوماسية ، و دون الاسترسال في تعداد الوظائف التي يستثنى منها ما تبقى من التونسيون اليهود فانّ الانف ذكره يكشف بوضوح زيف مقولة المساواة و المواطنة المزعومة في التشريعات التونسية رغم ذلك فانّ العديد من اليهود المقيمين خارج تونس يزورون باستمرار عدّة مقامات ذات رمزية دينية بالنسبة لهم مثل ربّي يوسف المغربي بالحامة و ربّي يعقوب سلامة بنابل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و