الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المَجْدُ لجُهَّالِ الْعَالَمِ

رفعت ريد
كاتب وباحث وروائي احب السفر والقراءه

(Refaat Reed)

2018 / 9 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المَجْدُ لجُهَّالِ الْعَالَمِ
-----------------
أستنكرتُ في مقالِ سابقِ ما فعله البابا الأُميّ "ديمتريوس الكرام الذي كان يجهلُ القراءهَ والكتابهَ" بالعلاّمهِ والفليسوفِ المصري أوريجانوسَ وكبف أنه طردهُ و طاردهُ وأضطهدهُ وحرمهُ‘ وهنا قاومني البعض مذكرينني بقول بولس الرسول "بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ" 1كو 1: 27‘ وان كنت لا أعرف كيف الحق ديمتريوس الأُميّ ُ ألخزيَ بأوريجانوس العالم بسوء استخدام السلطه وبمارسه الحقد والضغينه والاضطهاد‘ ياللعار‘ وبسبب المعني المباشر للآيه‘ قامت العظات واُلفت الكتب وكثرت الاعمال الفنيه التي تمدح الأميين‘ وتبنت كنيستنا القبطيه منهجا تعليميا تعظم فيه العشوائيين وتكسوا الاعباط بالقداسه وتطوب المجانين‘ لذلك لا تتعجب عندما تري الاساقفه حاملي المؤهلات العليا والماجستير والدكتواره يلتفون حول راهب عبيط او بالأحري يتظاهر بالعبط والجنون لينالوا بركته ويتعظوا من حياته‘ وتري القصص الاسطوريه التي تلصق بهؤلاء المعجزات وكأن رائحه المسيح الذكيه لا تخرج الا من وعاء متخلف أمي‘ وهنا اتخذت القداسه منعطفا خطبرا عندما صار الجهل قيمه والجنون قداسه والعبط طريق للملكوت.

في الواقع‘ ليس من الطبيعي اوالمقبول أن أقنوم الكلمة "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كو 2: 3) يختار مجموعة من الأميين ليكرزوا بالانجيل‘ كما أن هذا ضد العقل والمنطق لأن الرسول هو سفير لسيده‘ وإن كان السيد هو اقنوم الحكمه والمعرفه فبالاولي سفيره يكون علي صورته.

لم يكن في الكتاب المقدس بعهديه نبيا او رسولا أميّ بل اختار الله المثقفين والشعراء والادباء والفنانين والموسيقيين والمؤرخين والفلاسفه والخطباء - مع اختلاف لغتهم ومستوي معيشتهم - لكتابة رسالته‘ حتي أن جاني الجميز الفقير عاموس كتب سفره باسلوب فريد ورائع وأيوب وسليمان وداود كانوا شعراء وداود كان مُلحن وموزع موسيقي‘ وأشعياء كان عالما مثقفا وله درايه بالممالك والتاريخ في عصره كما كان من النسل الملوكي‘ وموسي نبيه تربي في قصر فرعون وتهذب بكل حكمه المصريين (أع 7: 22): "فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِرًا فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ" وافرز الله بولس الطرسوسي الفليسوف ليكون رسولا له‘ وكان لوقا الانجيلي طبيبا وفنان"رسام" ومؤرخ ورحاله وكان يعقوب الصغير ملما بالشريعه والناموس ومدققا‘ ومَجَد ايضا الانجيلُ المجوسَ " اي الحكماء" علماء الفلك اللذين اتوا من المشرق وقدموا الهديا للطفل يسوع‘وذكر قصتهم لتذكرهم الاجيال‘ ومجد الحكمه في تطويبه لملكة سبأ التي قطعت الالاف الاميال لتسمع حكمة سليمان‘ وعندما تظاهر داود بالجنون انتهره ووبخه ملك الفلسطينين ولم يعضد الله اسلوبه وينجح مقصده ‘ولم يكن الكتاب المقس منتج الاميه ولا افراز عقول عشوائيه ضحله متخلفه وجاهله بل كان نور صدر من عقول حكيمه مستنيره.
كان تلاميذ السيد المسيح عاميون ولكنهم لم يكونوا أميين بالرغم من ان بعضهم من الطبقه الفقيره مثل بطرس وإندراوس او المتوسطه مثل يوحنا ويعقوب او الثريه مثل متي العشار إلا انهم اجادوا اللغه اليونانيه " لغة المتعلمين" وكتبوا بها العهد الجديد‘ بالإضافه الي لغتهم المحليه الآراميه‘ وعندما صعد السيد المسيح قال لهم "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي" يوحنا 5: 39‘ ومن ذلك نفهم أن الرسل جميعا كانوا يجيدون علي الاقل القراءه والكتابه وبالتالي فهم ليسوا جهله. فاين الدليل من الكتاب المقدس ان اختار الجهله كان اسلوب الله ؟

لمعرفة معني الايه لابد ان نتعرف عن الخلفيه السياسيه و الثقافيه والاجتماعية التي احاطت بالمسيح ورسله اللذين بشروا للمسكونة.

عاش السيد المسيح ومن بعدهِ تلاميذهِ في كنفِ الدوله الرومانيه التي كفلت حرية الفكر والعقيدة وممارسة السياسية لجميع مواطنيها‘ فلم يفرض الرومانيين لغتهم علي الشعوب المُحتله‘ ولم يكن شرطا ان يكون الحكام روماني المولد‘ كما ان الدواويين الحكوميه اكتظت يالموظفين من جميع الشعوب‘ ولم يكن النظام الروماني نظام ديني قمعي‘ بل بالعكس اتسم بالتسامح الديني فنري الوثني والمانوي واليهودي والزرداشتي وغيرهم يعيشون بسلام في بلد واجد ويمارسون عقيدتهم دون اضطهاد او تحرش‘ كما اتسم الرومانيون بعبادتهم لعدد كبير من الالهه دون تمييز من الدوله لاله دون الاخر‘ و مارست الحكومة الرومانية نظام التوفيق بين كل المعتقدات الدينية والعلوم الفلسفية والأنظمة الحكومية ورأت بأن كل هذه المعتقدات متوافقة في النهاية وطوعتها لإزدهار المملكه‘ وفي ظل هذه الحريات انتشرت الفلسفه والعلوم اليونانيه وإزدهرت اليهوديه في ربوع المملكه وكانت الاسكندريه وروما واثينا وكورنثوس وانطاكيه ومدن كثيره تعج بالجامعات وبالفلاسفه.
لم تاتي الدوله الرومانيه لتفرض ثقافتها علي الشعوب التي احتلتها و في كثير من الاحيان سمحوا لهم بحكم ذاتي تحت رعايه رومانيه مثل هيرودس اليهودي الذي كان ملك علي اسرائيل وكانت الجنسيه الرومانيه تُمنح لكافة الشعوب بنظام معروف بغض التظرعن الهويه مثل شاول الطرسوسي اليهودي الذي كان يحمل الجنسيه الرومانيه‘ كما سمح الرومانيون للشعوب بممارسة معتقداتهم وشرائعهم دون تدخل منهم او مضايقتهم فعلي سبيل المثال لم يُجبر قيصرُ اليهودَ بأن يضعوا تمثاله في هيكل سليمان لان ذلك كان مرفوض عند اليهود‘ كما سمح لهم بصك عمله هيكليه للتعامل بها في الهيكل في الممارسات الدينيه‘ وتركهم يمارسون عبادتهم بحرية رغم صعوبة التعامل معهم وكثرة ثوراتهم‘ فكانوا يقيمون المحاكم بحسب شريعتهم دون تدخل من الدوله فحكموا علي السيد المسيح بالموت ثم ذهبوا الي الحاكم الروماني ليوثقوا ذلك ولم يكن في مقدور بيلاطس رفض طلبهم والا خالف سياسة الدولة‘ ورجموا ‘استفانوس بدون محكمة رومانية‘ وايضا طبلوا محاكمة بولس بحسب شريعتهم‘ ورجموه في لسترة دون محاكمة رومانيه وفي كل هذا لم تغضب الحكومه الرومانيه ولا شعرت بإغتصاب سلطتها.
وفي اليهوديه انقسم النظام الديني ونظام الحكم اليهودي إلى قسّمين: الفريسيون - الحزب الجهوري ، علّم القانون وتقاليد آباء إسرائيل، الذي كان يتوافق بصرامة مع القانون اليهودي؛ والصدوقيين - الزعماء الأثرياء والمحافظون الذين رفضوا التقاليد لمصلحة التعاون السياسي والديني مع الرومان كان الفريسيون والصدوقيون من المثقفين‘

ولكن ما هي الخلفيات التي جعلت بولس يقول هذا؟
عندما ذهب بولس الرسول "الفليسوف المسيحي" الي أثينا ليبشر فيها قابله هناك الفلاسفه الأَبيكُوريُّون الرُواقيُّون الذين لهم افكار متناقضه فمثلا:

الأَبيكُوريُّون لا يؤمنوا بالله الخالق بل يقولون ان الكون صنع نفسه أو وُجد صدفه أو نتيجة حادث" نظريه الانفجار العظيم" وهو لا يحتاج الي قوي عليا لتديره‘ وبالتالي لا ثواب او عقاب لذلك عاش الأَبيكُوريُّون حياه منغمسه في اللذات والشهوات دون ضابط وانساقوا وراء اللذه والمتعه

الرُواقيُّون كانوا بالعكس يؤمنون بوجود الله وخلقه ورعايته للعالم وأمنوا أن الله خلق للعالم انظمه ساعدته علي تطوير نفسه‘ احبوا الفضيله وضبط الشهوات وأمنوا بإتحاد الروح التي مصدرها الله مع الجسد المادي الارضي

ظن بولس الرسول انه بفلسفته وحكمته ورجاحه حجته سيسطيع ان يجلب الفلاسفه الي الايمان ولكن حدث العكس تماما‘ جادله الفلاسفه وأرهقوه ولم يؤمن الا عدد قليل جدا وكانت كرازته في أثينا فاشله جدا لذلك ادرك ان حكمته البشريه لم تفيده. وكانت هذه المدينه المكتظه بالفلاسفه من اواخر المدن التي قبلت الايمان المسيحيه علي يد إندراوس بحسب التقليد
وكان لمدينه كورنثوس سمعة سيئة بالثراء والمجون، فكانت عبارة: "يعيش ككورنثي" يمثابة شتيمه وكانت هذه المدينه مكتظه بالفلاسفه الأَبيكُوريُّين الذي لا يؤمنوا بالله ويبحثون عن اللذه والمتعه الجسديه من خلال الانحلال الاخلاقي وهي كميناء كانت مكاناً يجتمع فيه أناس من كل الأمم يرتكبون فيها الرذائل. وكان معبد أفروديت معبداً لا مثيل له في كل بلاد اليونان في الروعة والفخامة، وكان به أكثر من ألف من الكاهنات "الجواري المقدسات" لممارسة الدعارة كنوع من العباده.
وعندما خاطب يولس الرسول اهل كورونثوس التي اشتهرت بالانحلال الاخلاقي تحت عبائة فلسفة وحكمه الأَبيكُوريُّين إنتهر بولس هذا النوع من الفلسفه والحكمه لذلك قال "بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ" 1كو 1: 27‘
عندما تقرا الترجمه الانجليويه للنص اليوناني تكتشف معني مختلف تمام
But God hath chosen the foolish things of the world to confound the wise and God hath chosen the weak things of the world to confound the things which are mighty

ومعناه أن الله إستخدم جهالة العالم ليخزي الحكمه واختار الضعف ليخزي القوة‘ الامر ليس به حكماء وجهلاء او أميين ومثقفين‘ فالمعني يختلف تماما عنما نفهمه ونعظ به في كنائسنا‘ وياللحسره‘ قامت عظات كامله ومقالالت طويله تمجد الجهاله والتخلف مبنيه علي الفهم الخاطئ للأيه بحسب سياق المعني في الترجمه العربيه ‘ حتي تجد الكاهن الذي أساء فهم النص بسبب الترجمه يبرر لك انسياقه ومعه الكنيسه وراء الراهب العبيط او المتظاهر بالعبط علي إعتبار أنه صوره القداسة المحببه لدي الله ليُخزي بها حكماءَ العصر‘ هذا النموذج منتشر في المجتمع المصري بكافة أطيافهِ‘ فالناس تجري وراء المجانين والاعباط لنوال البركه ولعل اعظم مثال لهذا أللواء أحمد رشدي وزير الداخلية السابق‘ كان وهو محافظ ‘ يأتي بشخصَ مجنون وعريان يعيش مشردا علي ارصفة محطه اسيوط الي مكتبهِ ليتبارك به‘ ويفسر الفهم المغلوط للأيه سلوك الاساقفه والكهنه والشعب حول اي راهب يدعي الجنون.
ومن هذا يتضح ان قصد بولس الرسول من ألايه يتعارض تماما مع فهمنا للنص‘ كما أن الفكر المخالف لروح المسيحيه الذي اخترق الكنيسه المصريه بناء علي هذه الآيه يدل علي غياب الوعي المسيحي المبني علي الفهم المتزن والحقيقي للأنجيل‘ كما تبين أيضا براعه تطويع النص لأي غرض حتي ولو خالف العقل والمنطق والعقيده‘ حقا قال
.“ الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي. ". (2 كورنثوس 6:3)
رفعت ريد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف


.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب




.. مأزق العقل العربي الراهن


.. #shorts - 80- Al-baqarah




.. #shorts -72- Al-baqarah