الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في حوار مع الشاعر محمد السّرغيني: القَابضُ على جَمْر الشعر مُنذ أن صَار الشعرُ طريقًا للهَلاك

ادريس الواغيش

2018 / 9 / 19
الادب والفن


في حــوار مـع الشاعر محـمد السّـرغــيـنـي:
القـَابـضُ على جَـمْـر الشعـر مُـنذ أن صَـار الشعـرُ طـريـقـًا للهَـلاك

حـاوره: إدريـس الواغـيـش
هو إنصاتٌ أكثر منه حِــوَار، حينمَا زُرتُ الشاعر مُحمد السَّـرغيني في بيته بفاس كعـادتي للاطمئنان على أحواله الصِّحية، لم ننتبه إلى أننا خَرَجنا من اليَـوْمي دون رغبة منا وإذا بنا نُـبحر في الشعر وعَـوالمه، كان من الصَّعب عليَّ أن أترك اللحظة تمُـرَّ دون التـَّوثيق لها، كما كان من الأصْعَب عليّ أيضا مُجارَات بَحْـر هَـادر بالعلم والمَعرفة، فما كان مني إلا أن استنجد بآلة تسجيل هاتفي الذكيّ.
وجدت في الدكتور الشاعر محمد السرغيني، وأنا أُنصت إليه، رجلا فـَهمَا - دَرَّاكـًا وشاعرًا كبيرًا وحكيما لا حُدودَ لأفهامه ولا نهاية لها ليس في الشعر، كما في الأجناس الفكرية والأدبية كلها، قابضٌ على جمر الشعر منذ أن صار الشعر طريقا للهَلاك والموت، إنه أحدُ روّاد القصيدة العالمة في العالم العربي والعالم، ضخـَّت صُـوَرُه الشعرية دماء جـديدة في القصيدة المغربية الحديثة.
ومن دون شك فإن السرغيني قامة شعرية رفيعة، بل أكثر من ذلك هو مُفكر وحَـكيم، إنه القمَّة والجَبل، هو باختصار قمَّة أطلسية عالية في غَـرب العالم الإسلامي، اتخذ من التجاوُز والخـَلق الفني شعارًا له، هو باختصار شديد قصيدة تعيش وتمشي بيننا في الأسواق والأزقة والدُّروب، وتُجاورنا في الشوارع والحَـارات، شاعر من رأسه حتى أخمص قدميه وهو الرَّاكب على صَهوة الشعر.
في بيته العامر بفاس كان اللقاء، وكان هذا الحوار- الإنصات حول بداياته الشعرية ومُمارساته الشعر كما رواها لي بعظمة لسانه، كما أشياء أخرى.
- أستاذ محمد السّرغيني، لو تُحَدثنا عن بداياتك الأولى في الكتابة والشعر...
۩ بَدأتُ نشر أول مُمارسة شعرية لي في مجلة “ الأنِـيس“ التي كانت تصدر في تطوان إبّان الاحتلال الإسباني لشمال المغرب منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، حَدَث ذلك قبل أن أنشر في المَشرق، وهي مجلة كان يكتب فيها الشاعر عبد الكريم الطبـّال والطـُّرّيس ومجموعة أخرى من الأقلام الذين أتوا فيما بعد، كالشاعر محمد المِيمـُوني، وكان الطـّبال من الشعراء المُمَيـَّزين في تلك الحقبة.
- كيف توَطـَّدت العلاقات بينكم فيما بعد؟
۩ لما أتيتُ إلى جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وأصبحت مدرسا بكلية الآداب بفاس مـُدرِّسا في كلية الآداب، أتوا كلهم للدراسة فيها، فازدادت المَعرفة بيننا، لذلك أعتبر نفسي واحدًا منهم.
- لماذا؟
۩ كنت أول المغاربة(قـُلهَا ليهُم) الذين اكتشفوا أن ما يكتبه المصريون من الشعر لا يُعَـوَّلُ عليه كثيرا، وأنه يجبُ علينا أن نكتب شعرا مَغربيا حقيقيا.
- بهذا المعنى، كيف يكون الشعر الحقيقي إذن في نظرك؟
۩ نحن ننتمي إلى بني آدم، وقد كنا مُستعمرين في الشمال بإسبانيا وباقي الأطراف الأخرى كانت تحتلها فرنسا، وبتالي فانتماؤنا هو إلى الإنسان، من هناك وَجب علينا زمانا ومكانا أن ندافع عن هذا الإنسان أينما وُجـد، سواء في الشمال أو الجنوب أو الوسط، كما أننا اجتمعنا في شيء واحد، هو أننا أحببنا التصوُّف.
- علاقتك بالتصوف قديمة إذن؟
۩ أنا أحبـُّه تربيَة، لأن والـديَّ كانا محافظين، لكننا اليوم نقرأه بشكل مُعاكس، بحكم أننا نعيش في زمن الحَـاضر، كان الآباء في تلك الفترة أناسا وَرعين وأتقياء، يُحلون ما أحلَّ الله ويحرِّمون ما حرَّمه.
- ونحن نتحدث عن التصوُّف، هل يمكننا الحديث عن الزمن الصوفي؟
۩ الزمن الصّوفي له أشكال وألوان، تبعا للأديان التي عرفت التصوف، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، لكن كل واحد عَـرف التصوف على طريقته، حين جاء المستشرقون وقرؤوا للمتصوفة المسلمين، بدؤوا يكتبون عنهم بالشكل الذي يُحبّون، وليس بالشكل الذي ينبني عليه فكر التصَوُّف والمُتصوفة الحق في الإسلام، فوقعوا في خطأ كبير، هذا الخطأ جعلني أطلع على كتاب يسمى(DECADENCE) لمؤلفه (Michel ONFRAY)، لما قرأته أثار انتباهي، فطلبت من حفيدي أن يأتيني به من فرنسا.
- هل يمكننا أن نعرف عن ماذا يتحدث هذا الكتاب؟
الكتاب كله، رغم حَجمه الكبير ومَراجعه المتعددة، يُمكن تلخيصه فيما يلي:“العـُنف الذي تمارسه الإنسانية على الإنسان“، وقد توقف فيه على عـُنفين اثنين، جَمَع فيه بين اليهودية والنصرانية، وفي مقابلهما الإسلام وجَمْعـُه وخاصة المُتصوفة، ونتج عن ذلك أن قرأ المُتصوفة قراءة سريعة وبسيطة وليست عميقة، في حين لو كان فيلسوفا مُتمكنا، لكان قد نظر إلى الإنسان كإنسان، بغضِّ النظر عن كل هذه الأشياء.
- ثقافتنا العربية الإسلامية كلها توحيدٌ بين الإنسان عكس الثقافات الأخرى، أليس كذلك؟
۩ حين فكرت في الأمر مَليـًّا، وجدتُ أن هذه النظرية صحيحة إلى حـَدٍّ ما، لكن لمّا كنا أقوياء، وهم الآن أقوياء لم يفعلوا نفس الشيء، لو كنا أقوياء الآن، نحنُ وهُـم، لما فرَّقنا بين عَـمْر وزَيْد، إذا كان لديك أُناس لا تتفاهم معهم فكريا أو دينيًّا، أفصح عن سبب ذلك الاختلاف، ليس في جهة مُحددة فقط، وليس في الجانب الديني فحسب. هناك إشارات رائعة لدى بعض المتصوفة وأهمُّهم ابن عربي “وقد أكون خاطئا“ الذي انتهى به فكرُه وفلسفته إلى كل هذه الأشياء، ولخـَّصها في جـُملة وَاحدة:“ أديـنُ بديـن الحـُب“.
- الظاهر أنك مُعجب بابن عربي...
۩ أنا فعلا من أشد المعجبين بابن عربي، وأقول لك الأسباب كلها، لقد فـَطن لكل هذه الأمور مُبكرا، واعتبر أن الكائن الإنساني كـَوْني، والكـَوْني هو الله سبحانه وتعالى، وبالتالي لا يُوجـِدُ الكائن الكوني إلا كونيًّا، كلُّ ما هنالك هو أن كونية الإله لا نهاية لها، وكونية الإنسان مَحدودة بالزمان والمكان، ولأنها كذلك محدودة، فيجب أن تـُقنـَّن، فحدث أن قنَّـنَتها الأديان السَّماوية، وهي على ثلاثة مراحل: مـَوْسَوية، عـَيْسوية وإسلاميَة.
نحن نقرأ التوراة كما هي، وهم يؤمنون بأن التوراة قد حـُرِّفت وآخرها عرفت ضجة كبيرة عند اليهود أنفسهم. الإنجيل نعرف رواياته، لكن حين توازي بين هذه التوراة، تجد أنها عرفت الإنسان تعريفا وَقـتيـًّا، أي أنَّ الزمان الذي يعيشه الإنسان قد يصل إلى قرن، يزيد أو ينقص قليلا، لما جاء الإنجيل، كان الإنسان قد وصل إلى نوع من التطوُّر في الدنيا، لذلك كانت علاقته أكثر بالإنسان من التوراة. الإسلام جاء في مرحلة ثالثة، بعد أن اكتمل نُمُـوُّ الإنسان عقليا بصفة نهائية، والدليل على ذلك أنه ترك لنا حضارة عظيمة ومليئة بالأسماء الشائعة والكبيرة في الفكر والأدب والعلوم البَحتة لا أول لها ولا آخر، اختصَّت في مُختلف العُـلوم، ثم جَـزَّأ بعد ذلك المَعرفة الإنسانية إلى مَعارف، كل مَعرفة لها أسلوبها واتجاهاتها ومَـوضوعاتها إلخ، حضارة الإسلام دامت من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولها فلسفة لم تعرفها الحضارة المسيحية ولا اليهودية، ومع ذلك فإن الثقافة اليهودية كانت هي الانطلاق، تلتها المسيحية ثم الإسلام الذي لازال راسخا إلى اليوم كدين وثقافة في مُختلف بقاع العالم.
- لكن لو ابتعدنا قليلا عن الدين، لماذا لم تـُعَمِّـر الحضارة الإسلامية؟
۩ بدأت المذاهبُ السياسية والصوفية تقاومُه على أساس أن تقوم مقامَه، لكنها فشلت فشلا ذريـعًا، كل هذا أثر على استمرار تلك الحضارة العظيمة بنفس الوتيرة التي كانت عليها في الغرب والشرق الإسلاميين.
- حتى في الغرب عندهم مَذاهب وفلسفات، مثل الوُجودية والشيوعية واليَسارية؟
۩ بالنسبة لي، الوُجودية خُـرافة وأوهَـام، وأنا كنتُ ضدها منذ البداية، في النَّحْـو العربي عندنا بابٌ يُسمّى“ المَصادرُ الصِّناعِـيَّة“ يُمْكـن لأي إنسان أن يكتسب مَصْدَرًا صِناعيًّا.
- كيف ذلك؟ وما هي هذه المَصادر الصناعية؟
۩ المَصادرُ الصِّناعية، هي أن تأتي بالكلمة التي تريد أن تجعلها عنوانا لهذا المَصدر الصناعي، وتُضيف إليها ياءُ النـَّسَب، وأن تضيف إلى ياء النسب التاء، فيُصبح الوُجود وُجوديَّة، ويُصبح الشيوع شيوعية، ويصبح اليَسار يَسارية...إلخ(يضحك)، وهكذا أصبحوا يطلقون الأشياء والمُصطلحات على هَـواهـم.
- لماذا لم يستمر استعمال العقل في التفكير العربي في نظرك؟
۩ حين تبحث في أصل الأمور، يجب أن تزنها بقيمتها، المُعتزلة اكتشفوا أن مَذهبهم أكثر مُيولا لاستعمال العقل من مذهب أهل السُّنة، ولذلك كان مَذهب أهل السُّنة صوفيا، لكن في كل شيء لا بد أن تكون هُـناك حُجـَّة ودَليل قادرٌ على الإثبات، هذا هو الفـرق، لكن المُعتزلة استمدَّت بعض فلسفتها من الأصول اليونانية، وهو ما جعل الناس يفـرّون منها، إذا كنت تريد أن تثبت شيئا، فاعتمد على نفسك على غيرك، المُعتزلة لا مَرجعية لها على الإطلاق، كانت مَـرْجِعِيَّـتها أمس والماضي فقط، لذلك لم يبقى معَهُـم أحدٌ في آخر المَطاف.
- المَرجعية اليونانية بالنسبة للمُعتزلة، كانت في المَنهجية أم في الفكر؟
۩ هم أتُـوا بالأفكار، ثم إن الناس القُـدَماء سواء المُنتمون إلى عصرنا أو إلى ثقافات أخرى(الأجانب) أرادوا أن يُظهروا اجتهادهم، فأظهروه بهذا الشكل، وقد وقع هذا منذ ظهور عصر الاجتهاد في بداية العصر العباسي، حتى الانقسام الذي ظهر في فهم الدين، أظهر بشكل قاطع أن أصحابه في الحقيقة، مهما اختلفت مذاهبهم، مُخلصون في الأخير كلهم، ولم يدفعُهم إلى ذلك دافع آخر في حقيقة الأمر غير الدافع الدّيني، ولذلك أفكارُهم راجَت وذاعت وكثـُر أتباعهم، لكن كثـُر في نفس الوقت مُنتقـدوهم ومُقـلدوهم، وهكذا سارت الأمُور.
- لكن المَذاهب والشيع والفِـرَق كَـثـُرت، رغم أننا نعيش زَمنًا مُختلفا...
۩ لأن الحضارة المُعاصرة بكل بساطة تضغط على الإنسان ليتخِـذ طريقا بالسُّرعة المُمْكنة، والسُّرعة المُمْـكنة ليست في صالح تغيير المواقع الأساسية في تسييـر الحضارة، هذه الأشياء كلها انتهينا منها، الآن نحن نعيش حضارة شكلية(civilisation informelle)، حضارة ليست مبنية على الفكر بقدر ما هي مَبنية على الشكليات، حتى في لباسنا وفي ما يُحيط بنا من أبسط الأمور، فبَـدأنا نرى بعض الناس الذين يُجايِـلونَـنا يظهرون بلباس سنوات خَـلت ومُوضات قديمة جدا، كيف لإنسان وصل إلى مرحلة جـدُّ متقدمة من العِـلم والتكنولوجيا أن يَـرجع إلى الماضي ويعيش بهذا المستوى، إنسان شبهُ بدائي يعيش من التراب إلى التراب، في حين أن الإنسان مَنُـوط ٌبه أن يـُطـَوِّر الكـَوْن لا أن يرجع به إلى الخلف، وهذا فشل ذريع للإنسان المُعاصر رغم قوته العقـلية، مَهما كانت الذرائع التي قد يتـذرع بها، وعليه أن يَـرفع يديه.
- بهذا المَعنى، ما الفرق بين العالم الذي نعيش فيه والعالم الذي سبقنا؟
۩ هناك، كما قلت لك سابقا، إنسانٌ أحِـبُّه كثيرا، وأنصحـُك أن تقرأه قراءة عميقة وليست قراءة سطحية كما فعل الغرب(يضحك). ابن عربي له كتاب كبير يتصَوَّرُ فيه الإنسان كما لو أنه يعيش في هذه الحياة المُعاصرة.
أولا: الإنسان من أكرم المَخلوقات
ثانيا: الإنسان هو الأجْـدَرُ بتسيير شؤون العالم
ثالثا: الإنسان كَـوْني، وهذا هو الأهَـم.
- كيف...؟
۩ لأن إلـهًا كونيا خلقه، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على هذا الإنسان أن يستحق الكَـوْنية التي أعطاها الله له، وذلك بأن يكون خادمًا لها من الألف إلى الياء، ليس بالتصوف وإطلاق اللحى ولكن بالعقل، لأن العَقـل هو المـَزيَّة الكبيرة التي يمتاز بها الإنسان، ويُـمَـكِّـنُه من الاكتشاف والتخيـُّل، فلولا العقل لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التقدم التكنولوجي والعلمي في كل مناحي الحياة، وما نراه من تقدم علمي ما هو في الحقيقة إلا نقطة صغيرة في بحر كبير من حياتنا، ونحن المسؤولين عن تنظيمها وتأطيرها وتوسيعها.
- العقل يُمَكِّـنُ الإنسان من اكتشاف كل يوم أشياء جديدة في مُختلف مَناحي الحياة، لكنها ليست كُـلها في صالحه، فما العمل؟
۩ الاكتشافُ لا يكون اكتشافا إلا حيث يكون في صالح الأشخاص الذين نُعايشهم، كأنهم منك وإليك، لأنهم تناسلوا بنفس الطريقة التي تناسلنا بها أجدادنا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا كان الأمر كذلك، فالطريقة المُـثلى هي تجميعُ الإنسان في كُـتلة واحدة.
- لكن كيف يحصل ذلك في ظل تضارب المَصالح والأفكار؟
۩ يَحصلُ ذلك بتوسيع مَدارك الإنسان من قبل أن يبدأ الإنسان، وهذه من المزايا الكبيرة لهذه الحضارة المُعاصرة، مثال كبير: جَـدّي ترك أولاده، ولدين وبنتا، ذهب ليحج لشدة شوقه، وأنا لازلت طفلا صغيرًا، كان يُعلمني الأبيات الشعرية التي يتذوَّقُها:
سلامٌ على قبر يـُزار من البُعد.......سلامٌ على الرَّوْضة وفيها مُحمد
فإن بَعـُدْت عنـّي وعـَزّ مـَزارُها.......فتمثالها لديّ أحسنُ من صورة
أنـَزِّه طرفَ العين في حُسن رَوْضها......فيَسْلـُو بها لـُبّي وسِرِّي ومُهجتي
- الدّارسون والنقاد يهتمون بأشعارك وكتاباتك، وينسون أصلك، فماذا تقول لنا عن أصولك؟
۩ لا علمَ لي، لكن إن كان ذلك صحيحا، قد يكون راجعا بالدرجة الأولى إلى المـُراهنات على المسابقات والجَوائز، فالمادِّيات أصبحت تـُسيل لعابَ أكثر المُثقفـين، وهذه مُشكلتهم...(يضحك)
- أين كَـبُرت مثلا؟ وأين وُلدت؟
۩ أنا وُلدت بمدينة فاس، وأبي جاء مباشرة من - قلعة السَّراغنة - وقد كانت في وقتها مدرسة ذائعة الصيت مثل مدرسة القرويين، ولازالت قائمة الذات إلى يومنا هذا، وفيها تكوَّن بعضُ علماء مـُراكش الكبار، وهي مسائل لا خُصوصية لها هنا في هذا الباب.
- من هم السَّراغـِنـَة؟
۩ هم من البـَرْبـَر...
- لكن سكان قلعة السَّراغنة سُمـْر والبَرابرة بيض، كيف اجتمعت هذه المُفارقة؟ سُمرَة مع بَياض؟
۩ الدُّنيا هناك حرٌّ شديدٌ ومُشمسَة، والشَّمس تُغـِّيرُ بشـرَة الناس، هذه واحدة وهو أمر طبيعي، ثم أن البـُداة(جمع بـَدَوّي) كانوا أكثر الناس حُـبّا للمَعرفة، ولو أحْصَيت كبار العُـلماء المَرموقين الذين تَساوَى علمُهم بعَمَلهم لوَجَـدت الكثيرين من هؤلاء، إما قدموا من منطقة – سُوس- وأعطوهم أقسامًا مُنحدرة وقبلوا بها ثم بَـدأوا في الإقبال على الدِّراسة. الأسئلة التي كانوا يطرَحُون على أساتذتهم ينبهرون منها، وحين يعلمون أنهم أتوا من جهة سُـوس يَعْـرفون أنهم قـدموا“عـَامْـرين“، ومع ذلك ولأنهم يُـحبون العلم لم يجدوا بـُدًّا من قـَبـُول ما هم فيه، في الفقه الإسلامي كانوا يطرحون مشاكل كبيرة جدا لبعض الفقهاء المُتوسطي المَعرفة، فكانوا يقولون لهُم:“ سَأطـَّلع وأجِـيبُـك“.
- بديهي، فمنطقة سوس معروفة بعلمها وعُـلمائها منذ القديم، أليس كذلك؟
۩ لم تكن المسألة مَحصورة في هذا الباب، بعبارة أوضح لا تزال هناك في منطقة سُـوس مدرسة كبيرة يذهب إليها الناس لأخذ العلم والمعرفة، وأعطتنا هذه المدرسة أسماء كبيرة منها العالم المختار السّوسي رحمه الله.
- حدثنا عن بداياتك في فاس، التي لا تقل علما عن سوس وأعطتنا شعراء كبار، أنت واحد منهم...
۩ (يضحك)، في يوم من الأيام كان الشاعر علي الصقلي صديقي، قرأت قصيدة فبَـدأ بعض الناس يجادلون في لغتها، تركهم حتى انتهوا، وقال لهم: “لستُم على حَق إطلاقا، كل ما يَصعُب فهمُه، يسهل فهمُه بحفظه“. كان عندنا في جامعة القرويين، سواء من الفاسيين(نسبة إلى فاس) أو غيرهم، علماء في الفقه والتوحيد والمنطق وحتى في علم التوثيق والفلك والرياضيات.
- حدثنا كيف تحولت الأمور في فاس“ العاصمة العلمية“ من مدينة للعلماء إلى أشباههم؟.
۩ لما جاء الاستعمار، بدأ ما يُسمى بأنصاف العلماء يتقاذفون الواحد بعد الآخر، من أجل أن يُصبحوا أساتذة في القرويين، ومنهم من لا يملك حتى شهادة التخرج من القرويين نفسها. أتذكر أنهم أدخلوا أحَـدَهم من عائلة فاسية مَعروفة ومشهورة ليُـدَرِّس في جامعة القرويين، لم تسمح له اللجنة التي كانت مُكلفة بالإشراف على الأهلية، ومع ذلك أعطوهُ كتاب: “أدبيَّة اللغة العَـربية“، دروسُه كانت كلها ضحك ولهوٌ وسُخريَّـة منه‼.
كان يحفظ ما سيُـدَرِّسُه، ويردِّده بشكل بَبغاوي، وهناك أساتذة جاؤوا من أصقاع أخرى: سواء من أبناء مدينة فاس أو منطقة جبالة مثلا، مثل الفقيه الصّنهاجي وغيره، وكذلك من الشرق ومن سوس مُتمكنون من العلم وطرائق التدريس، لمُجرد أن تسأله ينفجر علما ومعرفة، فنالوا من العضوية مَرتبة كبيرة إلى درجة اعتبرهم بعض الناس أولياء، وهم كانوا يتبرؤون من كل ذلك، لشدة تواضعهم، هذه أشياء عشناها حَـرْفيًّا في جامعة القرويين.
- حتى لا يأخذنا تاريخ فاس وعلماؤها، لنعد مرة أخرى إلى الشعر...
۩ عندما كنت صغيرا، كان أبـي يقرأ عليَّ الأشعار التي ذكرت لك سابقا، يتحَـسَّـرُ فيها على الوقت الذي يتاح له فيها بزيارة مكة، ثم إن والدي كان صوفيا على الطريقة الصحيحة.
- هل كانت هذه الأبيات مُحفزا لخـَوْض تجربة كتابة الشعر(مقاطعا)؟
۩ لا...لا إطلاقا، حين كنا ندرس في مدرسة “أكومي“(بتغليظ الكاف) الابتدائية وقعنا على أستاذ رائع مُحِـبًّا للأدب والشعر، كان اسمه الطـَّايـَعْ الكـْتـّاني، حفظنا -لامية العرب - للشنفرى، والتي لازلت أحفظها حتى الآن، والتي يقول مَطلعها:
- أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى النثر الرائع بكل أطباق الذهب، لما ذهبنا إلى القرويين ازدَدْنا اتساعا ثم بدأنا نتعَـصَّر، فقلنا هذه ثقافة أكل الـَّدهرُ عليها وشرب وأتى علينا زمان آخر، فبدأنا نقرأ للمصريين الذين ترجموا “لامارتين“(Alphonse de Lamartine) وغيره، وهي من ترجمة إنسان نحبه كثيرا هو “أحمد حسن الـزيَّـات“، كانت لغته العربية سليمة ورائعة، ثم جاء من بعده عباس محمود العقاد وطه حسين وغيرهم من الأدباء والنقاد والمفكرين، لكن فيما بعد اكتشفنا شيئا عجيبا جدا، هو أن ما ينبغي أن يناله الإنسان، يجب أن يناله من ثقافته المَحلية، وأن يقرأ أيضا بالثقافة الأصلية للكتاب المؤلف سواء كانت فرنسية أو إنجليزية أو غيرها، وسابَقنا الوقت من أجل تعلم اللغات العالمية كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية فيما بعد، لذلك نجد أن الأدباء والمفكرين النابغين ممن سبقونا سواء من الأتراك أو من أهل فارس كانوا على دراية كبيرة باللغة العربية، لأنها كانت في وقت من الأوقات سيدة زمانها، كما كانوا على اطلاع باللغة اليونانية كذلك.
- من تقصد هنا، العرب أم الأتراك والفرس؟
۩ الذين نقلوا اليونانية إلينا هم عراقيون يتكلمون بالعربية، لكن لم يكونوا مسلمين ولا عربا، بل كانوا من “الأرْمـن“، وهم الذين ساعدوا على إدخال الثقافة اليونانية إلينا، لما أدخلوا هذه الثقافة إلى اللغة العربية وجدنا فيها ضخامة كبيرة ومزيدا من القدرة على التفكير والمناقشة، اكتشفناها وأضفناها إلى ما كنا نملكه من ثقافتنا العربية، كانت ثقافتنا ساعتها تعتمد على النحو والصرف والبلاغة والفقه واللغة والشعر والنثر، كل هذه الأشياء بدأت تنضاف إلى رصيدنا المَعْـرفي، وهكذا بدأنا نجد انفسنا بعد مدة من الزَّمن أسماء مغربية كبيرة جدا مختصة بهذه الأشياء.
كان الفلاسفة العرب هم السبَّاقون، إذ بنوا أفكارهم على أساس ما اكتشفوه من الفلسفة اليونانية، على سبيل المثال: في المنطق الذي كنا ندرُسُه في جامعة القرويين، والذي يسمى الآن بالمنطق الصُّوري، لكن من قبل كان يسمى بالمنطق الأرسطي، هؤلاء الناس أرجعوه إلى أصله الذي هو المنطق اليوناني، وهكذا بدأنا نجد المقولات في الكتب التي تستشهد بالفكر اليوناني، بدءا من المعتزلة مثلا، والمعتزلة كانوا معروفين بنظرية الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي بلغ من الصّْغـَر والدِّقـة ما يستحيلُ معه تقسيمه.
- هل استفاد ابن رشد الأندلسي من فكر المعتزلة، واستعمالهم العقل؟
۩ ليس وحده، هناك مجموعة أخرى من الفلاسفة المشهورين وغير ذلك، كلهم استفادوا من هذا الفكر، فكرُ المعتزلة كله ينبني على الفكر اليوناني: “كل موجود لا يكون موجودا، إلا إذا دلت الدلالة القاطعة على وُجُـوده“، وهي أمران:
1- اشتهار ذكره بين الناس، 2- تكون الكتب التي يقرأها الناس له أو أفكاره متداولة بين الناس بكثرة.
فيما يخصُّ “الجـُزءُ الذي لا يتجَـزَّأ “عند المعتزلة، فهو المَعروف علميا الآن بــ:(ATOME)
- كيف شرَحَها المُعتزلة؟
۩ الجُزء الذي وصل به الكِـبَرُ حَـدًّا، يستحيل الإماطة أو الإحاطة به، و“الجُـزء الذي لا يتجزأ“ هو الذي يُخـَرِّبون به العالم في الحُـروب عن طريق القنابل الذرية والنووية وغيرها...(يضحك)
- حدثنا عن انخراطكم في المشهد الثقافي، فيما بعد؟
۩ ما ذكرت لك سابقا، هو المشهد الثقافي الذي بدأنا نعيشه في محيطنا، ثم انتقلنا أنا ومجموعة من الأصدقاء الذين لا يزالون يعيشون ويُـدَرِّسون هنا بفاس، انخرطنا في المدارس الفرنسية التي كانت تعطي دروسا في اللغة الفرنسية، وهناك من انخرط فيها ولازمها مُـلازمة طويلة إلى حَـدٍّ تمكن فيه من أن يكتب باللغة الفرنسية نفسها شعرا وقصصا وروايات وفكرا، وهكذا جمعنا بين لغتين وهناك من جمع بين أكثر من لغتين.
- هل كان لهذا الانفتاح على الثقافات الأخرى تأثير ما على إبداعكم وتوجهاتكم الفكرية؟
۩ لما بدأنا نقرأ الكتب بلغات أخرى كطلبة في القرويين، بدأنا مُحتارين بين مُحَـبِّذ ومُخالف، المُحبذ يحبُّ الجديد والتجديد والمُخالف يبقى على حاله خوفا على أصالته حسب اعتقاده، ويرى أن هناك فرق بين ما هم فيه وما نحن عليه، البعضُ منا كان يحبذ أن يعيش بالطريقة التي تلائم العلم وتأكد لنا فيما بعد ذلك، مهما طال بنا الزمن، فلن نبقى على حالنا كما كنا سابقا، وكان بعضنا، وأنا واحد منهم، يرى أنه لا بد لنا أن نتطور وأن لا نكتفي بلغة واحدة أو الاطلاع على ثقافة وحيدة، فيما كان البعض يرى في ذلك عدم الإخلاص للغة والثقافة والأم، وهو رأي كنا نحترمه في وقتها إلى أن تطورت الأمور فيما بعد.
- لو تحدثنا قليلا عن الزَّمن في الشعر المغربي المُعاصر...
۩ كي نكون صادقين، موضوع أي شاعر يختلف إلى أربع اتجاهات: مَحبة الشعر، البداية، المَوَدَّة، التمَكُّـن من قراءة الشعر وكتابته فيما بعد.
في بداية اطلاعنا على الشعر العربي المَشرقي، بدأنا نقرأ لجبران خليل جبران، ولم نكن نعرف حينها أنه مَسيحي، أعجَـبنا ما كـُنا نقرأه له إلى حَـدٍّ ما، وهذا ما حدث حتى لشعراء تطوان أنفسهم، أقصد الشاعر عبد الكريم الطبال ومجموعته. لكن بعد اتساع مَداركنا وقراءاتنا الشعرية وغيرها، اكتشفنا أن هؤلاء مسيحيون وضعوا الأسُس الأولى للإنسية المسيحية (HUMANISME)في كل أشعارهم، فانتبهنا إلى ما نحن فيه، وهكذا بدأنا نكتشف المزيد من العُـظماء تباعا، وأيضا من المُتصوفين المُسلمين الكبار، فبدأنا نجد عندهم الأسس التي تمكننا من وضع نظرية في هذا الباب، وفي نفس الوقت حاول المصريون ان يضعوا هذه الأسس، لكنهم وقعوا في وَرْطة، لذلك اكتفوا بالحَماس، وأنا من قراءتي انتهيت إلى أن هؤلاء الشعراء اللبنانيين رسموا ووضعوا الأسس الأولى للإنسية المسيحية في شكل أشعارهم، فقلت مع نفسي: إذا كانت المسيحية قد تركناها، وجاء الإسلام فـوَضع المُتصوفة الكبار من المسلمين مثل ابن عربي أسس نظرية في هذا الباب، فلا بد أن يكون الإسلام هو الأولى.‼
صباح الأحد: 5 نونبر 2018
فــاس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و