الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكان هو اليوتوبيا

وديع العبيدي

2018 / 9 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


وديع العبيدي
المكان هو اليوتوبيا..

المكان في العربية تصريف من [الامكان والتمكن والاستمكان]، وهذا يمنح الفرد حرية اختيار المكان الذي يعيش فيه. لكن هذا التعريف يكشف طابع السلبية في علاقة الانسان بالبيئة. بعبارة أخرى، ان التعريف العربي للمكان، يشخص صلاحية المكان للمعيشة، وتوفره على أسباب القوت والأمن، بالمعنى الذي يجعل المرء عالة على المكان. انه يسعى حيث يصادفه ماء وكلأ، فينخي راحلته وينصب خيمته، فإذا شحت المادة وقترت المعيشة، رزم حوائجه ومضى يبحث عن مكان آخر.
أليس هذا المنظور ما ينطبق على واقع هجرة العرب نحو بلدان الوفرة والسعة والأمان، عندما ضاقت ببلادهم ظروف المعيشة والأمن البيئي. وهذا لا يجعل من احروب غير عامل طارئ، لأن ثمة بلدانا عربية لم تثلمها الحروب، هي التي تتصدر جداول الهجرة عبر المتوسط، ومنها شمال أفريقيا عموما، ومنها الترك والهند والباكستان.
واقع الحال، ان هذا التعريف ليس دقيقا تماما. فالعرب، منذ زمن مبكر جالوا في شرق المتوسط، شمالا وجنوبا، واستحلوا أماكن صارت وقفا عليهم، وفيها جعلوا ممالك مثل كندة وغسان والحيرة. بيد أن مواطن العرب القديمة لم تترك دلائل يمكن المتأخرون الاستدلال بها والتثبت منه.
الملاحظة الأخرىتتعلق بعدم شخصية المكان، والشخصية/(charcter) هي جملة خصائص شكلية وصفية وظفية، تكفي لرسم تصور واضح عن المدلول. ولفظة المكان قد تكون قفرا أو بحرا، جبلا أو سهلا، وليس في هذا ما يشي بالعلاقة مع الحياة الاجتماعية. وليس ثمة صلة بنيوية بين (مكان) و(سكنى) أو (مسكن) مما يحتمل دلالة اجتماعية تحيل على التوطن. والأكثر دلالة في هذا المفصل هي لفظة (منزل): اشتقاق من (نزول)*، وهو النزول عن الجمل مثلا.
الشخصية العربية/ (وأعني: الشرق أوسطية عموما، بدء من شرق المتوسط!)، شخصية سهلة في غاية البساطة والتواضع، ومعقدة في غاية الغرور والعجرفة. شخصية تعيش في واقع معين لكنها غير واقعية، تتساوى عندها السكنى والهجرة دون أن تنفك سيكولوجيا عن بيئتها الولادية التراثية. ومع ذلك فالمكان لدى العربي ليس مادة وانما هو فكرة ذهنية تتعلق بالتراث والصورة الحلمية أكثر من أي شيء آخر. وهذا هو معنى وفحوى الغربة في ذات العربي، التي يعيشها ويشعر بها دون قدرة على تبينها أو تشخيص ماهيتها.
غريب.. نعم.. (لماذا.. كيف).. لا يدري!..
وقد لا يميز العربي والثقافة العربية عموما بين مفاهيم الغربة والاغتراب، والهجرة والتهجر، وذلك لغياب المنظومة الفلسفية في العقلية العربية. هذا الغياب الفلسفي وراء الطابع اليقيني التسليمي للثقافة العربية. ومصطلح الثقافة هنا، يشمل كل ما يتعلق بالفكر والسلوك، المادي والمعنوي، الدين والعادات والعلاقات اليومية.
العرب أمة قديمة.. ومصطلح أمة مجتز افتراضي لا يدل على وحدة وتجانس.. ولكنه اطار عام لخليط جماعات تعارفت نفسها باسم (قبائل/ أقوم) والقبيلة/ قوم العرابية تعادل (شعب/ قومية) باللغة المعاصرة. وفيما القبيلة/ قوم/ شعب لها اطار وتعريف سياسي هرمي، يتربع عليه زعيم/(ملك، أمير، رئيس) يحيط به جيش وحاشية وعامة الناس، فأن الأمة لها زعيم تاريخي بمثابة أب روحي، كأن يقال: أمة محمد، أمة ابراهيم، من باب النسبة والتمييز والتخصيص.
وبينما وردت اشارات وتلميحات لمفهوم (الشعب) لدى العبرانيين، بلفظة (لوعم/ بن عمي)*/(تك19: 38)، فلم تظهر لفظة (شعب) في القرآن، وانما تنوب عنها لفظة (أمة) بالاشارة للمسلمين. وعبارة (المسلمين) دالة ضبابية مشوشة في منظور علم الاجتماع السياسي. هي في منتهى البساطة، كل منضم لأمة المسلمين، أي معتنق أو معترف بملفوظ الشهادتين والقرآن والأخرة، حسب مستهل سورة البقرة.
لكن هذا التعريف، وكل التعاريف والاصطلاحات والاجتهادات التي حاولت تفسير مصطلح (الاسلام/ المسلمين) منذ القرن الثامن الميلادي حتى يومنا، لا تزيد الأمر الا تعقيدا وتمويها وضبابية. وبالجملة: ليست غير كلام في كلام، والغواية في الكلام مثل الضلالة في العقيدة. لذلك ماد العرب والمسلمون ضياعا وتخلفا كلما أحاط بهم أهل الكلام والتفسير والاجتهاد، وبالتعبير الحديث.. كانت زيادة نسبة المتعلمين واتساع طبقة المثقفين، وبالا على المجتمع والدين، حتى بلغنا ما يقرب بعرب (الثقافة الشعبية) بالمفهوم الأميركي العولمي الراهن.
دالة الهجرة عند العرب، والانتشار عند الاسلام، انتج قطيعة بين الانسان والمكان، انعكس نتائجها على المنظومة المعرفية والمفاهيمية للانسان العربي. ان كل شخص يعرف نفسه أو يجري تعريفه بدالة المكان/(بيئة ابائه)، وحتى في المعاجم الغربية يتم تعريف سبينوزا[1632- 1677م]-مثلا- بأنه هولندي من عائلة يهودية من أصول برتغالية. وهذا تعريف يتضمن منظومة تاريخية شاملة تتجاوز الفرد والعائلة الى العرق والعقيدة.
فالمكان عند اليهود حالة ذهنية متوارثة، تعزلهم عن راهنية المكان الحالين فيه. هاته الازدواجية تلخص حالة/ مفهوم الغربة/ الاغتراب المغروسة في ذات/ لا وعي الشخصية اليهودية. بل ان مفهوم الغربة هذا صار جزء من العقيدة الدينية، وهذا أمر أكثر عمقا وتعقيدا من التكوين النفسي للشخصية. بلغ أوجه في الاصول النظرية للعقيدة المسيحية، باعتبار الانسان/(نقلا عن وصف ابراهيم التوراتي) غريبا في الأرض، وأن الأرض/ الحياة، هي مرحلة مرور وانتقال، الى الوطن الحقيقي الدائم، في السماء!.
فكرة الغربة والقطيعة عن المكان الممثلة في التراث العبراني بخروج ابراهيم من اور أو خروج موسى من مصر، يقابلها فكرة خروج العرب من اليمن في سيرة ابن اسحق، وخروج مسلمي مكة الى الحبشة ويثرب ثم الكوفة والشام وصولا للشمال الأفريقي والأندلس. خلال كل ذلك يتم تمويه واختزال الموطن الأول وتوريثه ذهنيا/(تراث). وعلى العموم، يمكن رصد تلك القطائع المكانية، في سكان بلدان/ مجتمعات الشرق الأوسط اليوم.. فسكان عراق اليوم لا صلة لهم بأهل سومر أو بابل أو أشور، ومثلهم بين سكان سوريا نسبة للحوريين والحثيين أو سكان مصر والفراعنة، سواء كانت القطيعة مكانية أو ثقافية أو قومية.
ومنذ القرن الماضي.. ثمة أجيال ولدت خارج البيئة العربية من عوائل عربية مهاجرة، بعضها يحتفظ بخواص ثقافية محدودة وبعضها ذاب في مجتمعات المهجر. وهذا يعني تزايد توالد فراغات نسيجية في تكوين شخصية الفرد. فراغ المكان الأولي، فراغ العائلة الأصلية، فراغ الثقافة الأبوية/ الأموية، فراغ الموروث السلطوي القومي أو الديني/ السياسي او الاجتماعي.
هذا التاريخ الطويل من القطيعة/ القطائع مع الماضي الطبيعي، أنتج ظاهرة اختزال المفهوم الجمعي في كيان الفرد. والمفهوم الجمعي بحسب كارل يونغ هو مكون اساس في لاوعي الشخصية الانسانية. لا أحد يمكنه أن يكون طبيعيا بغير تاريخ/ تراث اجتماعي قومي. بل أن تلك الدالة البسيطة التي وسمت طفولة كثيرين من عرب ما قبل الألفية من خلال سواليف (كان ياما كان..) ذات الدلالة والاحالة الماضوية على الارث الاجتماعي للجماعة، لا وجود لها اليوم بين مواليد الالفية، وبالكاد سمعوا بها.
العلاقة بالتراث، هي دالة تعويضية للعلاقة بالمكان القومي، وظيفة الذاكرة هي تجسير الهوة بين الفرد وأسلافه، بين الماضي والحاضر والمستقبل. هاته الذاكرة قد تكون عائلية، قبلية، محلية، شعبية، دينية، ثقافية، قومية. ابناء اليوم لا يعرفون عنتره وابي زيد مثلا، التي كانت قوتا أوليا قبل قرن من اليوم. ابناء المهجر لا يعرفون غالبا عن تاريخ بلدان ذويهم الحاضر أو الماضي. بل ان تيارا كبيرا من المهاجرين لا يجيد اللغة العربية، وينظر للعرب وبلدانهم نظرة فوقية وسلبية.
وصف النظرة بالسلبية، يخضع لمنظور نفسي علمي، جراء اثارها التدميرية على تكوين ذات الفرد، والتي تنعكس اجلا أو عاجلا على شخصيته الخاصة والعامة.
كلما زاد ابتعاد الفرد عن أصوله الاجتماعية سياسيا وثقافيا، تتسع مظاهر التشوه النفسي وحجم الفراغات الاجتماعية والفكرية في كيانه، وتنعكس في جملة نشاطه الاجتماعي العام أو الخاص. ونظرا لاستمرار تلك الظواهر والممارسات الضارة، وعدم التصدي لها ببرامج اجتماعية واجراءات حكومية ومجتمعية، وبشكل يقلل من الاضرار والاثار السلبية، فأن معدل الغربة والاغتراب في تصاعد غير معقول.
منذ عقود والمجتمعات العربية والشرق أوسطية تشهد ظواهر اجتماعية وتسلكات فردية غرائبية، وانماط من الاجرام والانحرافات الاجتماعية غير مسبوقة. بل ان المرء يتوقع اشياء غير محتملة وخارج حدود المنطق من أي شخص، وما تمرره وسائل الاعلام الورقية والالكترونية وما يدعى بمواقع التواصل والفضائح الاجتماعي، يدخل في باب اللامعقول واللا منطق. ولا يهتم أحد بما يمكن أن يتفتق عنه الغد.
المؤسف، ان النظام السياسي العربي اليوم، أكثر سوء مما كان في القرن الماضي، وينطبق هذا على النظم الغربية والأوربية التي وضعت جل تركيزها على الجانب الأمني وتوفير الحماية والحصانة المبالغة فيها للطاقم السياسي الحاكم، وهو هاجسها الأول في مراقبة المشهد الاعلامي، متحصنة بطائفة مقررات وقوانين يصادق عليها البرلمان مما يتنافى من أصول قانون نابليون/(1804م) واللوائح الأصلية لحقوق الانسان/(1848م) التي بنيت عليها كل دساتير الدولة والمنظمات الدولية.
ففي حين تعمل السياسات الدولية والاقليمية على تدمير القواعد والمرتكزات التراثية والقومية والمجتمعية*، يتم فرض قيود وعقوبات دونكيشوتية على اي رد فعل، ممثل في نشاط دفاعي أو مقاوم تعبيرا عن اعترز الانسان بأرضه وتراثه ووطنه من جهة، ومن جهة مقابلة ثمة ترويج لتصرفات وطروحات الشاذة على صعد افراد أو جماعات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
• يوتوبيا: لفظة اغريقية قديمة، ومعناها مكان ذهني أو حالة متخيلة ذات خصاص نموذجية، حسب معجم اكسفورد.
• توينبي [1889- 1975م] في كتابه (تاريخ البشرية) علل استخدامه لكلمة (نزول) بدلالتين: دلالة النزول من الشجرة حسب نظرية تطور الانسان من أصول حيوانية، كانت تتعلق بالاشجار، ومن جهة أخرى دالة النزول من الفردوس السماوي بحسب التأويل الديني، وهو يعتقد بتوافق العالمين المادي والروحي في الوجود.
• عمي: لفظة عبرية معناها (شعب). وردت في التوراة لأول مرة في وصف أهل (عمون)/ (عمّان)- عاصمة الاردن اليوم.
• بخصوص اثر البيئة في تكوين الانسان انظر: روبرت اون [1771- 1858م ].
• من تعريفات العولمة الأوليةهي تفكيك الوحدات الكبيرة وتدمير القواعد والمرتكزات المادية والثقافية للبلاد والمجتمعات غير الغربية، وتجريدها من اليات الصيانة والحماية الذاتية. والانترنت اداة رئيسية من ادوات العولمة لتحقيق اغراضها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي