الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحقيق بجريمة لم تحدث!

داود السلمان

2018 / 9 / 19
الادب والفن


قُرع الباب في منتصف اللحظة.. كان الوقت آيلاً للسكون، والباب موارب للهدوء في آخر لحظات النهار المتآكل.. كان الطارق رجل اربعيني، حاد النظر متجهم الوجه، طويل القامة عريض المنكبين واسع العينين.. كأنه جندي روماني.. حييته، لم يعبأ للتحية.. عاملني بجفاء.. وفي منتصف طريق اللحظة الخافتة مرت من أمامي ذكريات دهراً بكامله. شريط الذكريات استعرض عضلاته قبالتي كأنه بهلوان مُستأجر.. ذكريات أيام غابرة، طفولة مستباحة، وساعات ثقيلة كانت جاثمة على ظلي الغائب عن الوعي.
كان ذلك الرجل- على ما يبدو- رجل أمن وهو الظاهر من هندامه المتزن وشكله المثير للقرف.. مدّ لي مظروف بداخله ورقة (علمت فيما بعد أنها صادرة من المحكمة المختصة بقضايا الجنايات) مدّ المظروف بقوة وعنف، مصوباً نظراته اللاذعة وعيناه التي تقدح شرراً، كأنهما مصباح عجلة عسكرية.
قال بلهجة جافة:
- خذ هذه موجهة لك!.
وغادر المكان مسرعاً، تاركاً ظله المرتاب على اسفلت الطريق.. مددت يدي المرتعشة واخذتها منه.
ما كنت أعلم ما موجود في طيات الورقة، وما المضمون العاكف على الحقيقة الواهية والاتهام الفاقد للشرعية في زمن الابتذال الرخيص.. دلفت الى منزلي على الفور.. وفي طريق الوصول الى باب غرفتي العتيقة جلست على الكرسي المتهرئ، والذي هو الوحيد الذي امتلكه، وهو بالأحرى تركه لي أبي كورث قبل عدة سنوات حينما هاجر من قسوة الحياة ولاذ بالموت الرحيم.. فتحت المظروف فوجدت تلك الورقة البيضاء واذا مكتوب فيها ستة اسطر لا غير... فهمت من خلالها بأنني متهم بقضة قتل وقعت في وضح الفجيعة.. انها اذن ورقة اتهام .. اتهام ساذج.. اتهام بقضية موت، قتل بلا مبرر، والمجني عليه هو خارج نطاق الزمان والمكان، قيل: موجود وقيل: ما موجود، بل متوارٍ عن الانظار، عاش قبل وجود العيش في فضاء القدر المحتوم.
- أيه ...آه.. هكذا تأوهت.
اذن لابد لي أن اتصل بمحام.. محامي أوكله قضيتي، حتى يترافع عني أمام المحكمة.. يدافع عني.. ينقذ رقبتي من حبل الجحيم، قبل فوات الاوان.
اتصلت بمحام كنت أعرفه منذ سابق عهد.. كان ذلك المحامي رجلاً كهلاً، كان مستدان من الملاك عزرائيل عشرة سنوات ولم يسددها بعد!. كان الرجل أصلع الرأس، ومن مدمني نظرية تساقط الشعر، يضع على عينين نظارة طبية سميكة، كانت النظارة قديمة جداً يرجع تاريخها الى عهد آشوربانيبال، لكنه متمسك بها فلا يتخلى عنها، لأنها تمثل له تاريخ اجداده، كما يعبر.
جاءني ذلك المحامي.. شرحت له القضية بما هي، لم أزد حرفاً واحداً ولم انقص آخر.. بدأ الرجل متفاهماً معي، تألم لحالتي.. أعلن استعداده للترافع...وطلب مني مبلغاً يقدر بإطعام عشرة أيام الف فقير ومعدم ويتيم وامرأة ثكلى!، فوافقت على ذلك المبلغ، وانا أطأطأ له راسي خجلاً من ضآلة المبلغ.
أعطيته المبلغ البسيط، وغادرني بصمت وهدوء، وانا اعتذر منه عن القصور غير المتعمد الذي لم يحدث ولن يحدث مني.
مرت فترة طويلة من الزمن لا أدري كم هي.. وفي لحظة من لحظات يوم نحس سمعت دوياً هائلاً خلف الباب.. ضجيج واصوات يتداخل بعضها ببعض.. وزعيق غير معهود.. نظرت من نافذة الباب، واذا بعساكر لها أول وليس لها آخر.. جنود مدججة بالسلاح.. سلاح خفيف وسلاح ثقيل.. مدافع، دبابات، مدرعات، طائرات هليكوبتر، اسلحة محرمة دولياً، وسمعت منادياً من خلال مكبرات الصوت ينده علي: أنْ اخرج أيها الوغد، فأن المكان محاصر.
خرجت لهم بقدمين حافيتين، مرتدياً بيجامة مقلمة بنصف ردن، تاركاً نظارتي الطبية على الكتاب، وكان الكتاب هو عبارة عن رواية "المحاكمة" للكاتب الشهير كافكا.
قيدوا يداي بالحديد، ووضعوا على رأسي كيس اسود اللون(اما لماذا اسود اللون؟، فقد علمت فيما بعد أنه كذلك لأنني قد سودت وجه التاريخ بتلك الجريمة البشعة التي لم ارتكبه).
رموا بي في غرفة مظلمة، جدرانها كعيون الليل الاسود.. مضى علي من الدهر لا أدي مقداره...وفي ذلك اليوم سمعت منادياً ينادي باسمي.. أخرجوني.. وجدت نفسي قبالة رجل وقور تحيط به هالة من الرجال مرتدياً عباءة سوداء اللون، وربطة عنق حمراء.. سئلت من هذا؟. قيل أنه القاضي.
سألني:
- هو أنت؟.
- ......
- ما هي المبررات والدوافع التي قادتك للقيام بهذه الجريمة النكراء؟.
- .....
واردف اخيراً:
- ظننت أنك تنجو من وجه العدالة، ايها الشرير!.
ساعتها، تذكرت المحامي الذي اوكلته بقضيتي... فنادوا عليه.. وقف بين يدي القاضي.. وبدأ يستعرض الكلام المعسول بصوته الجهوري، والعبارات المتكررة، المعروفة سلفاً، ورأسه الاصلع يتصبب عرقاً، وبين الفينة والاخرى يقوم بمسح رأسه.. والقاضي يهز برأسه علامة الايجاب، والتعجب.
وبعد تداول ومشاورة بين القاضي والحضور والمدعي العام.. نطق القاضي بالحكم:
- قد حكمتك المحكمة بالإفراج المؤبد في سجن الحياة.. بارتكابك تلك الجريمة التي لم تكن أنت فيها طرف.
رفعت الجلسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق




.. شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا