الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زين وآلان: الفصل الرابع 3

دلور ميقري

2018 / 9 / 20
الادب والفن


بالطبع، لم يكن قد فتحَ مع الجنرال أيّ موضوع خارجَ أعمالهما التجارية. وحسناً فعلت " خولة "، فكّرَ وهوَ عائدٌ بالسيارة من جهة بيتها، حينَ لم تذكر موعداً محدداً للقدوم إليه في المكتب. وإذاً عليه أولاً، وعلى جناح العجلة، أن يُبادر إلى مقابلة ذلك الرجل المسئول. كان " سيامند "، ولا شك، يعلم أنّ هذا الأخيرَ أصبح خارج الخدمة الرسمية. إلا أنه أمِلَ، في المقابل، بأن الرجل على الرغم من تقاعده بوسعه تقديمَ العون في موضوع الشاب المفقود الأثر؛ معلومات عن مكان اعتقاله، على الأقل.
في ساعة أصيلٍ من أحد الأيام الخريفية، كان مدخل المقهى، المقابل للعمارة، يودّع آخر شعاع من الشمس كي يستقبل طلائع الروّاد، وكانوا عادةً في غالبيتهم من فئة الموظفين المتقاعدين. " سيامند "، المنتصب خلف نافذة الصالة المطلّة على المشهد السفليّ، كانَ يستعد بدَوره للقاء واحدٍ من المنتسبين لتلك الفئة. رنّ جرسُ باب الشقة، وكان يهمّ بخلع البيجاما لارتداء سترته الأنيقة، المفصّلة حديثاً. ثم دخل على الأثر سائقه، وكان هذا، كما علمنا، حديثَ عهدٍ بالوظيفة. راحَ يلعبُ بمفاتيح السيارة، منتظراً الأوامرَ، فيما معلّمه منهمكٌ بإنزال الجزء السفليّ من منامته. بعدئذٍ سحبَ نفساً من السيجار، ثم مدّه باتجاه السائق في حركة نفاد صبر، ليبتدئ في ارتداء السترة أمام المرآة. ولو أنّ هذا الموظفَ خبيرٌ بتصنيف فئات المجتمع، لأدرك بسهولة أن تلك الحركة تعبّر عن مسلك شخصٍ لم يألف الأناقة في بيئته: أي أنه، بكلمة أوضح، من فئة محدثي النعمة!
على أنّ هيئة رجل الأعمال السوريّ، الأنيقة المعطّرة، كانت ككل مرة تلفت أنظارَ العابرين في هذا الدرب من الحي الراقي أو الجالسين في المقهى المجاور. وهذا بوّاب العمارة، العملاق القاتم البشرة، يقفُ باستعداد أمام الشاب الممسك طيتيّ صدر سترته بعدما فتحَ له باب السيارة: " الله يكون بالعون، سيدي! "، قالها داساً البقشيش في جيب جلبابه. كانت جملة بسيطة، أعتاد على سماعها باللهجة المحكية. ولكنها، مع ذلك، أثارت شجونه. فاجتاحت ذهنه ذكرى غير طيبة، مع انطلاق السيارة ببطء من قدّام مدخل العمارة. كادت الدموع تطفر من عينيه، وهوَ يستعيد كلمات مشابهة، ملوثة بالتضرع والاستذلال، كان والده يطلقها حيثما وجدَ يداً تمد له العون على شكلٍ ماليّ أو عينيّ. جميع أهل الحارة، بما فيهم أولادهم الصغار، كانوا يعرفون أن هذا الرجل، المكتسي رداءً بالياً، أفضل منهم حالاً بما يملكه من مال وعقار؛ أنه كان يبخل على أسرته، وعلى نفسه أيضاً.

***
وككل مرة أيضاً، ما كان يسمح لطيف والده أن يخنق داخله بتلك الطريقة الخرقاء. يكفيه الآنَ ما يأتيه من ضغوط خارجية، سببها الطيف الآخر للمرأة الغامضة ذات الثوب الأحمر والبرّاق. مع أنّ وجدانه ما ينفكّ نقياً، قادراً على إقناعه بكون طفلتها، ابنة أخيه، هيَ مصدرُ اندفاعه في المغامرة الجديدة ـ كما تندفع على الدروب الحديثة سيارتُهُ " بيجو " العتيقة، بقوةٍ وتصميم وسرعةٍ متوافقةٍ مع ما فاضت به مشاعره.
السائق، ويُدعى " سي عمر "، سبقَ وتعرّف عليه في يوم وصوله لمراكش. كان الرجلُ بالأساس قد امتهن بيع الملابس النسائية، ثم دفعه إفلاس تجارته إلى العمل سائقاً. وكان لبى أمنية الشاب الغريب، فجاءه إلى مقر الإقامة الفندقية في صباح اليوم التالي لوصوله، فأخذه في جولة بالسيارة عبرَ معالم المدينة الحمراء. في أثناء الجولة، عرفَ " سيامند " بمتاعب السائق مع مالك السيارة: " كل عطل يصيب العربة عليّ أن أتكفل به بنفسي، مما يجعلني في آخر الأمر أعملُ مجاناً تقريباً "، قالها بصوته الأجش مزيلاً بلسانه آثار التبغ عن شفتيه الجافتين. ولكنها معلومة أخرى، تلك التي حرّضت مشاعر الشفقة لدى الشاب السوريّ: إفادة السائق، عَرَضاً، أنه كان مع الجيش المغربي على جبهة الجولان في حرب تشرين. كون " سيامند " حاربَ مؤخراً مع المغاربة فوق رمال صحراء الخليج المتحركة، بدا له لقاء هذا الرجل فألاً حسناً أكثر منه مصادفة عابرة.
بينما السيارة تشق طريقها خارج المدينة، تذكّر باسماً كذبةَ الجنرال عن كون مزرعته تبعد كثيراً عن مراكش. وإنه وسيطُ التعارف بينهما، " عبد الإله "، مَن كشفَ له ذلك. معلومة أخرى، تعيّنَ عليها أن تدهشه آنَ فاه بها لاحقاً سكرتيرُ المكتب: " ضاحية الحميدية؟ يا للعجب! فإن أخاك الراحل أقام فيها عدة أشهر بعدما ترك عمله لدى سوسن خانم ".
الرائحة الحريفة للريف، استهلت تسللها خِلَل نوافذ السيارة، فيما الخفافيش تتلاعب فوقها بخفّة. كانت أنوار السيارة تستفز تلك المخلوقات، الخارجة من كهوفها مع انطفاء آخر أشعة الغسق الأرجوانية. طفق يفكّر بأخيه الراحل، المرتسمة صورته على الشمس الغاربة. وكأنما الصورة الموهومة تغريه على القيام بزيارة ذلك المسكن، العائد أساساً لملكية امرأته؛ حيث ولدت ابنتهما ثمة، وذلك قبيل أيامٍ معدودة من موت " شيرين " المفجع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-