الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة تفكيك الواقع المتأزم في مصر 4/5

ياسين المصري

2018 / 9 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


- 4 -
يا عم، ده طلع ديمقراطي!
أحمد لطفي السيد (1872 - 1963) لمن لا يعرفه: هو مفكر وفيلسوف مصري، يُعَد رائدًا من رواد النهضة والتنوير وأبو الديموقراطية الليبرالية في مصر. وصفه عباس العقاد بأنه بحق أفلاطون الأدب العربي، وكان يلقب بأستاذ الجيل، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”!
راجع: مقال محمد أبو العنين في الأهرام بتاريخ 7 مارس 2014 السنة 138 العدد 46477.
أسس وأدار أحمد لطفي السيد أول جامعة أهلية في مصر في عام 1908م تحت إسم “الجامعة المصرية”، التي تحولت إلى أول جامعة حكومية هي “جامعة فؤاد الأول” ثم “جامعة القاهرة” في بداية حكم العسكر. وكان والده أحد أعيان الريف المصري وعمدة إحدى القرى في مركز السنبلاوين بالدقهلية.
ومن المضحكات المبكيات التي لا حصر لها في مصر أنه رشح نفسه في عام 1913م لمجلس النواب عن دائرة السنبلاوين، وكان المرشح المنافس له أحد الأفندية المحامين المغمورين يدعى “عبد العزيز سليط”. فكان من الطبيعي أن يشعر سليط أفندي بأن نتيجة الانتخابات تكاد تكون محسومة من بدايتها لمنافسه الذي كان وزيرا ومديرا للجامعة ولديه رتبة الباشاوية وصاحب وجاهة اجتماعية وفكرية لا تجعله يقارن به. بذكائه الريفي الفطري، فكر سليط أفندي في حيلة تمكنه من تحقيق الفوز على أحمد لطفي السيد، فاتجه لإستغلال الجهل العام المتفشي بين المواطنين، وأشاع بينهم أن الباشا ديموقراطي كافر!، وأنه يدعوكم إلى الديموقراطية وهي فكرة شيطانية جاء بها من الغرب الكافر، تقوم على مبدأ خبيث هو  “سلفني مراتك وأسلفك مراتي” والعياذ بالله! وأنه متأكد من هذا الكلام، والباشا فعلا ديموقراطي وأنا سمعتها منه بأذني ولو لم تصدقوني فاسألوه!
شعر أهل القرية بالحيرة الشديدة وهم أشخاص طيبون مؤمنون، فإذا كانوا قد أحبوا أحمد لطفي السيد وعائلته لفضلهم ومكانتهم؛ فإن إسلامهم وصون العرض عندهم أهم من أي شيء آخر. لذا سأله أحدهم في أحد المؤتمرات الانتخابية:
يا باشا هو إنت بصحيح ديموقراطي؟
فرد السيد بإنه ديموقراطي صميم وعريق في الديموقراطية!  
أشاع الحاضرون الخبر، وقالوا إنهم سمعوا بآذانهم أحمد لطفي السيد وهو يقول عن نفسه إنه ديموقراطي والعياذ بالله، فسبّب هذا صدمة لأهل القرية جميعا، فهم مع حبهم الشديد لأحمد لطفي السيد لم يكونوا يتخيلون أنه ديموقراطي!
وكانت النتيجة أن سقط السيد في الانتخابات سقوطًا ذريعًا لم يدر سببه إلا بعد حين! وهو اكتشاف أهل القرية أنه ديموقراطي، وهي الكلمة التي لم يسمعوها من قبل في حياتهم، لكنها قيلت في سياقٍ من التبشيع يجعلها كلمة شيطانية خبيثة حتى ولو لم يفهموا معناها.
وبذلك يكون الجهل بالضرورة من ألد أعداء الإنسان وعقبة كأداء في طريق تطوره الفكري والسلوكي، الأمر الذي يضعنا وجها لوجه أمام منظومة معقدة من التخلف المتفشي كالوباء في المنطقة برمتها، مع أن دولًا عديدة في العالم تخطتها منذ زمن بعيد.

أولًا : الجهل
ما هو الجهل؟ ومن هو الجاهل؟
جاء تعريف الجهل في معجم المعاني الجامع الميسَّر بأنه: «الجفاء والتسافه (من السفه والسفاهة) والحمق وإظهار الطيش».
والجهل في ذاته، هو عدم حضور صورة الشيء في الذهن أي العلم به، وهذا في ذاته ليس عيبًا، فأي إنسان مهما كان مستوى ذكائه لا يمكنه استيعاب جميع صور الأشياء من حوله والعلم بها، ولكن العيب كل العيب هو الجاهل في ذاته، خاصة عندما يكون غير مهيأ نفسيًّا وفكريًّا لتقبل حقيقة أنه جاهل، حيث تختلج في نفسه نزعة الكبرياء والتجبُّر والاستعلاء والغرور التي تجعله يعتقد أنه سيد العارفين والفاهمين، ولا أحد يضاهيه في العلم والمعرفة !. إنَّ مجرد إدراك الشخص لحقيقة قصوره النفسي والفكري يجعله ذا فكر سديد ومنطق عقلاني حميد.
الجاهل يأخذ كل نقاش على أنه حلبة صراع يسعى إلى النصر فيها بالكذب وترهات الكلام والتعابير التي يدأب على تكرارها ليصور لنفسه (ولغيره)، أنه فاهم، مادام فمه ولسانه يتحركان وينطقان بأي كلام يطرأ على باله دونما اعتبار لحجة أو دليل.
يقسم العلماء الجهل إلى قسمين: جهل بسيط وجهل مركَّب.
الجهل البسيط هو: أن يجهل المرء شيئًا وهو عالم بجهله، إذ يدرك أن لديه أمرًا واحدًا عدمّيًّا بسيطًا، أي أنه لا يعلم بالشيء وكفى. وعندما يقول لا أعلم، يكون قد حقق نصف العلم، فالإنسان الذي يعلم أنه لا يعلم شيئًا ما، قد اكتسب نصف العلم وهو العلم بجهله وبقي النصفُ الآخر وهو العلم بالشيء المجهول. ويمكنه أن يسعى لإزالة العدم بوسائل العلم والمعرفة، فيصل إلى الشيء المجهول عادة من خلال حُسن الاستفسار وحُسن السؤال وحُسن الإطلاع بكل بساطة، الأمر إذن متروك لإرادته.
أما الجهل المركب فهو: أن يجهل المرء الشيء وهو لا يعلم أو لا يريد أن يعلم بجهله. فهو إذن غافل عن جهله ولا يعترف بأنَّه جاهل فيرى نفسه عالماً به. هنا يترَكَّب جهله من جهلين: جهل بالشيء وجهل بهذا الجهل، فيعيش حياته في ظلمات بعضها فوق بعض أو أمام سرابٌ يحسبه الظمآن ماءً.
لا يعترف صاحب الجهل المركب بجهلة بل ويدّعي العلم بما لا يعلم. ويستمر بهذا الادعاء والتظاهر بأنه فاهم من خلال إيهام نفسه بتصرفه كفاهم وهو جاهل، فالإنسان الذي لا يعلم الشيء علماً كاملا وهو يتخيل بأنَّه يعلمه، ولا يسعى إلى تعلُّمه، سوف يتورط يومًا ما في الجهل المركب. إن الاستمرار بالادعاء والتظاهر بالفهم يغذيان ما بداخله من غرور وحب الأنا وحب الظهور والتعصب، ويملآن جوانبه بالكبرياء الكاذب والخداع الذاتي. والجاهل غالبًا ما يلجأ للكذب ويكرر الكذب حتى يصدق أكاذيبه، وقد يطور من أكاذيبه حتى تصبح أكثر تميزاً من ذي قبل، خاصة وأنه يجد دائمًا من يصدقه ويرتمي تحت أقدامه.
الإنسان يتميز عن الحيوان بأنَّه يتمكَّن من التوجُّه والانتباه إلى علمـه وجهله فيعلم بأنَّه يعلم ويعلم بأنَّه لا يعلم، أمّا الحيوان إن كان يعلم فهو لا يعلم بأنَّه يعلم كما أنَّه حينما يجهل لا يعلم أنَّه لا يعلم. الجهل يُنسب إلى الإنسان وحده لأنَّه يمتلك القابليَّة للتعلّم ومن شأنه أن يكون عالماً دون أن يدعي ذلك.
الكارثة التي تحل بالبشر هي ان يكون هناك مجتمع بجمهورٍ كبير حاملين بامتياز هذا النوع المركب من الجهل على كافة الأصعدة الدينية والسياسية والاجتماعية. مجتمع ذا جهل مركب من حملة الشهادات ومن ذوي المناصب ومن ذوي الوجاهة الدينية والسياسية والاجتماعية!
إنَّ الجهل المركب مرتعه وخيم، وعواقبه كارثية، سواءً على مستوى الفرد نفسه، أو على مستوى المجتمع، أو على مستوى العالم كله، فكلما تفشى هذا الجهل في منطقة ما تفشت معه الأمراض المجتمعية التي تنخر في جسد المجتمع، مما يؤدي إلى إلحاق أضرار جسيمة به، قد تحتاج إلى أوقات طويلة وربما أجيال عديدة حتى تختفي.
لا ريب في أن العلم يساعد على تطوير الأوضاع الاقتصادية في المجتمعات، مما يؤدي إلى انخفاض نسبة الجرائم، ومعدلات الفقر المرتفعة، ونسبة البطالة، في حين يساعد الجهل على تفشي مثل هذه الأمور، حيث يوفر بيئة خصبة لنمو التطرفات، والأحزاب القائمة على الأصل، أو العرق، أو الدين، أو الجنس، مما يفضي إلى ضياع الأمم وتدهورها، في حين يؤكد العلم على أن الناس متساوون لا فرق بينهم، مما يضعهم كلهم على أرضية واحدة، إلى جانب قدرته على خلق معايير أخرى للمفاضلة فيما بينهم مبنية على أخلاقهم الرفيعة، ومقدار اندماجهم في مجتمعاتهم، وحجم الإضافات الإيجابية التي يقومون بها خلال حياتهم، مما يحفّزهم على التقدم، والتطور، بدلاً من التأخر، والتراجع. يُصعِّب الجهل من قدرة الإنسان على تسيير أمور حياته، في حين يعتبر العلم وسيلةً مهمّة لتسهيل حياة الناس، وخير دليل على ذلك حجم المخترعات الكبير، الذي جعلها متوفرة دائماً بين أيدي كافة الناس؛ نظراً لانخفاض أسعارها، وفعاليتها الكبيرة في حياة الإنسان اليومية. يساعد العلم على جعل الإنسان قادراً على استغلال الثروات الطبيعية وتوظيفها في عملية التطور، والتقدم، أما الجهل فيجعل الإنسان غير قادر على مراوحة مكانه، فلا يحدث له التطور المنشود. يحرر العلم الإنسان من الأوهام، والأفكار السلبية، والعبودية للآخر القوي، فهو قادر على منحه قوة لا نظير لها، على عكس الجهل الذي يجعل منه كائناً تابعاً للآخرين، غير قادر على امتلاك إرادته، أو على الأقل التحرر من الأوهام التي تسيطر عليه. يجعل العلم الإنسان قادراً على معرفة مزاياه، وقدراته التي يمتكلها، ممّا يساعده على أن يكون كائناً مميزاً، وفعالاً، أما الجهل فهو يعمي الإنسان عن الضوء الموجود في داخله، والذي لا يحتاج إلا إلى قليلٍ من النظر فقط. يحسن العلم من أوضاع الإنسان الصحية، الأمر الذي يساعد على زيادة معدلات الأعمار، أما الجهل فهو قادر على بث الأمراض الجسدية بين الناس، وانتهاك خصوصية الجسد باسم المعتقدات الخرافية التي تجلب الويلات لمعتنقيها.
العلم لا يوجد في بُطُون الكتب وحدها، ولكنه يمكن تقديمه كوجبة يومية للمواطنين من خلال وسائل الإعلام والندوات والمؤتمرات الجادة والرصينة، ومن خلال وسائل التواصل المختلفة.

ثانيًا : التخلف
الجهل المركب يؤدي بالضرورة إلى التخلف، والتخلف كما هو معروف يعني النقيض الأساسي لمفهوم التنمية والرقي المادي (الاقتصادي) أو المعنوي (الثقافي والسلوكي) أو الإثنين معًا، وهو حالة توقف أو بطء في عمليات التنمية نتيجة لعدم قدرة النخب والقيادات السياسية والاقتصادية مجتمعة في صياغة نظرياتٍ ومفاهيم ذات رؤى علمية وعملية في تحسين الواقع وتحريكه إلى الأفضل. إن توفر الموارد المالية والبشرية إلى جانب الوسائل الفنية بدون إمكانية تطبيقها والاستفادة منها على آرض الواقع لن يجدي شيئا في تحسين البنى الاقتصادية والاجتماعية للأفراد القاطنين في البلاد عندما تصاب بالتخلف والجمود. ومن الطبيعي عندئذ أن نرى هذه الموارد تتناقص أو تتهاوى في يوم ما، لأن التخلف المعنوي (الثقافي) يؤدي بالضرورة في وقت ما إلى التخلف المادي (الاقتصادي)، والعكس ليس صحيحًا، فكثير من المجتمعات الفقيرة لديها من المبادئ الإنسانية والأخلاقية مالم يتوفر لدي المجتمعات الغنية، وخير مثال على ذلك دول العربان البترولية.
أشد نقاط المقاومة استعصاءً على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف، بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون. فكما أن الأمة، نتاج التقنية المتقدمة، قد يعاد تفسيرها كي تستخدم بشكل خرافي أو سحري من خلال الأطر المتخلفة وتفقد بالتالي قدرتها التغييرية.

متى بدأ التخلف في مصر؟
التخلف على الصعيد المعنوي في مصر بدأ عندما خضعت قهرًا لثقافة بدوية صحراوية شديدة الانحطاط وفدت إليها مع غزو البرابرة العربان لها في عام 639م، فخرجت البلاد من احتلال أجنبي سيِّء (البيزنطيين) إلى احتلال أجنبي آخر أسوأ منه. ومع ذلك ظلت غنية ماديًا، إلى أن تولى حكمها في الفترة من 17 مايو 1805 حتى 2 مارس 1848م محمد علي المولود في مدينة قولة التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769، لأسرة ألبانية. فحاول انتزاعها من قبضة التخلف الاستعماري العروبي.
ففى مايو عام 1805 قام رجال الأزهر الذين يسمون أنفسهم (علماء) وبعض فئات الشعب .. بتنصيب محمد على باشا والياً على مصر "باسم الشعب" دون انتظار لقيام السلطان العثمانى بإرسال والٍ من قبله، وتمت مبايعتة حاكماً " بشروط الشعب" التى تتضمن الفكرة القائلة بأن "الأمة هى مصدر السلطات" .. ونصت هذه الشروط على أنه " تم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره (محمد علي) بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم وألا يفعل أمراً إلا بمشورة العلماء. وأنه متى خالف الشروط عزلوه".
عقب استقلال محمد علي بحكم مصر .. بدأ ثورة إدارية شاملة لإقامة مؤسسات حكم حديثة ، بما فيها إقامة مجلس نيابى تمثيلى. ففى عام 1824 تم تكوين "المجلس العالى" الذى يعد البداية الحقيقية لأول مجلس نيابى يتم اختيار بعض أعضائه بالانتخاب ويراعى فيه تمثيل فئات الشعب المختلفة حيث تكون من 24 عضواً فى البداية، ثم صار عددهم 48 عضواً بعد إضافة 24 شيخاً وعالماً إليه.
ولأن محمد علي كان شخصًا طموحًا، فقد شهدت مصر في عهده نهضة غير مسبوقة في كافة مجالات الحياة، إذ اتجه إلى بناء دولة عصرية على النسق الأوروبي، واستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين من الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس صناعي قائم على العلم الحديث. فكانت سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة أهم دعائم دولته العصرية، وكان على إيمان راسخ بأنه لن يستطيع إنشاء قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بكل التقنيات العصرية وأن يقيم إدارة فعالة واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل تعليم الكتاتيب التقليدي. فابتعث في عام 1813م أول البعثات التعليمية إلى إيطاليا، لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة، ثم أتبعها ببعثات لفرنسا وإنجلترا. كانت البعثات الأولى صغيرة، لا تتعدى 28 طالبًا، ورغم ذلك فقد لمع منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق بأمر من محمد علي عام 1821. وكان العصر الذهبي لتلك البعثات، مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة. تبع ذلك ببعثة ثانية عام 1828م إلى فرنسا، وثالثة عام 1829 إلى فرنسا وإنجلترا والنمسا، ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832. وشهد عام 1844، أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم "بعثة الأنجال" لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده.
ولأول مرة في تاريخ مصر منذ الاحتلال العروبي المتخلف، أنشأ محمد علي العديد من الكليات وكانت يطلق عليها آنذاك "المدارس العليا"، بدأها عام 1816 بمدرسة للهندسة بالقلعة لتخريج مهندسين يتعهدون بأعمال العمران. وفي عام 1827، أنشأ مدرسة الطب في أبي زعبل بنصيحة من كلوت بك للوفاء باحتياجات الجيش من الأطباء، ومع الوقت خدم هؤلاء الأطباء عامة الشعب، ثم ألحق بها مدرسة للصيدلة، وأخرى للقابلات (الولادة) عام 1829. ثم أنشأت مدرسة المهندسخانة في بولاق للهندسة العسكرية، ومدرسة المعادن في مصر القديمة عام 1834، ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836، ومدرسة الزراعة بنبروه ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب عام 1837، ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع عام 1839، وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا نحو 4,500 طالب.
ومن الناحية الإدارية، فقد حكم محمد علي مصر بنظام الحكم الأوتوقراطيً الذي تكون فيه السلطة السياسية بيده وحده وما عداه يتم تعيينه بمعرفته، مع الميل لاستشارة بعض المقربين قبل إبرام الأمور، وأخضع البلاد لنظام إداري بدلاً من الاستبداد والفوضى التي سادت في عصر المماليك. فأسس مجلسًا حكوميًا عرف باسم "الديوان العالي" مقره القلعة يترأسه نائبه، ويخضع لسلطة هذا الديوان دواوين تختص بشئون الحربية والبحرية والتجارة والشئون الخارجية والمدارس والأبنية والأشغال. كما أسس مجلسًا للمشورة يضم كبار رجال الدولة وعدد من الأعيان والعلماء، ينعقد كل عام ويختص بمناقشة مسائل الإدارة والتعليم والأشغال العمومية. وفي عام 1837، وضع محمد علي قانونًا أساسيًا عرف بقانون "السياستنامة"، يحدد فيه سلطات كل ديوان من الدواوين الحكومية.
ولكن بالرغم من كل الإيجابيات التي اتخذها محمد علي لبناء الدولة المصرية الحديثة، إلا إن أسلوب حكمه لم يخلُ من السلبيات، نتيجة لتمركَّز محور نظامه السياسي في شخصه وحده، وانفراده باتخاذ القرار، واعتماده على فكرة الحكم الفردي المطلق. ومع أنه أسس لسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية، إلَّا أن أداء هذه السلطات لم يكن على المستوى المطلوب، وكان هناك ارتباك في أدائها نتيجة تداخلها.
وتمشياً مع انفراده بالسلطة المطلقة، فرض نفسه كمالك فعلي وحيد للبلاد، فبعد ثلاث سنوات من حكمه، أي في عام 1808، أصبح مالكاً لجميع أراضي القطر المصري، ولم يعد هناك فرق بين ملكية الدولة وملكية الوالي، وبات الفلاحون وهم الأغلبية العظمى من الشعب أجراء أو حرافيش عند الوالي.
كما أن نظام الاحتكار الذي أسسه محمد علي في المجال الزراعي والصناعي والتجاري، أدى إلى احتكاره وخلفائه من بعده لاقتصاد الدولة، وبالتالي احتكارهم لسياسة الدولة، مع الإشارة هنا إلى أن هذا النظام الاحتكاري كان معمولاً به في العديد من دول أوروبا في ذلك الوقت.
لقد شهدت السنوات الأولى من حكم محمد على تصاعدا لنفوذ الزعامات الشعبية التى أتت به إلى الحكم، خاصة عمر مكرم باشا الذى أصبح زعيما للمصريين بلا منازع، وفى هذا الصدد يقول مؤرخ ذلك العصر عبدالرحمن الجبرتى: «ارتفع شأن السيد عمر مكرم وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد على باشا، وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهى والمرجع فى الأمور الكلية والجزئية».
وكحاكم أوتوقراطي لا ينازعه في الحكم أحد، عمد محمد علي إلى شق لحمة الزعامات الشعبية، فأوعز لكبار المشايخ بتشويه سمعة عمر مكرم وإعداد عريضة يتهمونه فيها باتهامات ملفقة، أخذوا يجمعون عليها التوقيعات من مشايخ الأزهر، فانقسموا على أنفسهم بين مناصر ومعارض، وكانت النتيجة سقوط مكانتهم فى نظر الناس وفى نظر محمد على أيضا، ويصف الرافعى موقفهم بقوله: « لم عاملين على هدم السيد عمر فحسب، بل كانوا فى الواقع يهدمون أنفسهم وزملاءهم، وكل عضو فى تلك الجماعة الشعبية التى قامت بدور خطير فى تاريخ مصر القومى».
أما تأسيس الجيش كان أيضًا لخدمة الوالي، وليس لخدمة الدولة، حيث كانت القيادات الكبرى والصغرى في الجيش المصري من الأتراك والشراكسة والمماليك، واستقدم محمد علي ضباطاً من كل أرجاء أوروبا، لضمان ولاء الجيش له وتجنب المؤامرات والثورات ضده.
وفي إطار سياسته، لخلق طبقة وسطى، قام بمنح بعض الأجانب والمصريين أراضي و"أبعاديات" لإجاد طبقة أرستقراطية مرتبطة بالنظام وحريصة على حمايته، ويكون ولي نعمتها، حيث أنعم على الموظفين والضباط والجند الأجانب، خاصة الأتراك والشركس وبعض الأوروبيين وقلة من المصريين المشهود لهم بالولاء بأراضٍ مختلفة تختلف مساحتها من شخص لآخر.
ونظرًا إلى أن أي حاكم يحتاج إلى نوع من مساعدة أفراد نافذين ومؤسسات في المجتمع من أجل إحكام سيطرته على الشعب، فإنَّ قلة من الحكام هم الذين يتمكنون من بسط نفوذهم عن طريق الحضور أو الكاريزما أو المهارات فقط، من دون مساعدة الآخرين. ومن هنا يعتمد أغلبية الأوتوقراطيين على طبقة النبلاء والعسكر أو الزعماء الدينيين أو آخرين، الذين بدورهم قد ينقلبون على الحاكم أو يقتلونه. لذلك قد يصعب معرفة الفرق بشكل واضح بين الأوتوقراطية والأوليغارشية التي تعني حكم القلة.
في عهد الخديوي إسماعيل بدأت الحياة النيابية في مصر تأخذ طريقها من عام 1866، تحت مسمى "مجلس شورى النواب"، حيث لعبت الطبقة العليا، والملاك والوجهاء، الدور المحوري في تأسيس الحياة التشريعية، ووضعوا قواعد وأعراف وتقاليد حياة نيابية تفوق معطيات عصرها. وفِي عام 1882 تحولت الحياة النيابية إلى ظهير للإدارة الإستعمارية البريطانية في مصر.
ظل هذا الحال حتى دستور 1923، الذي أخذ بالنظام النيابى البرلمانى القائم على أساس الفصل والتعاون بين السلطات، فظهر نضوج واضح في الحياة النيابية المصرية التي شكلت مرحلة شديدة الفعالية، عالية الإنجاز، قمة في الديمقراطية، والمشاركة السياسية التي فاز فيها مثلًا أحد الأقباط المسيحيين في مركز المراغة بمحافظة سوهاج على شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي (1881- 1945).
ولكن في كل تلك الأوقات لم يتمكن الشعب من المشاركة السياسية الكاملة والفعالة، ليس لأسباب سياسية أو قانونية فحسب، وإنما أيضًا لأسباب تعود بالأساس إلى ارتفاع نسبة الأمية، وضعف مستوى التعليم، وتفشي الثقافة السياسية الإسلاموية المتخلفة في المقام الأول، وهي ثقافة التعامل مع الحاكم كإله، أو كنصف إله، وإن لم يكن هذا ولا ذاك؛ فيتطوع الشعب نفسه بتأليهه، وتحويله إلى صنم معبود، أسوة بنبي الإسلاموية.
وبدلا من معالجة الخلل وتدارك الأخطاء الناجمة في التجربة الديموقراطية الناشئة بأسلوب ديمقراطي صحيح، تم الإجهاز عليها والعمل على تدميرها تدميرًا منهجيًا كاملًا، مع الإنقلاب العسكري في 23 يوليو 1952، حيث أغلقت أبواب المشاركة السياسية أمام الشعب، وإلحقت السلطة التشريعية بالسلطة التنفيذية، وأفرِغت من مضمونها الوظيفي، بسيطرة الحزب الواحد، والقضاء على التعددية السياسية، وتم تدشين عهد التنظيم الشمولي الأوحد باعتلاء البكباشي جمال عبد الناصر مقاليد السلطة في البلاد، ومن ثم تحول هذا التنظيم - كما سنرى - فيما بعد إلى حكم عسكري فاشي منقطع النظير.
لقد بدأ في مصر مع بداية هذا الحكم جميع أنواع التخلف وأسوأها على الإطلاق التخلف الثقافي الناجم عن التجهيل والتعتيم والخداع، والمدعوم بقوة من رجال الدين الفاسدين والانتهازيين المتسيسين والمنتفعين ومعهم أبواقهم الإعلامية. بدأ تختفي تدريجيًّا الأفكار العلمية والمنطقية أو أصبحت مهمشةً، لا يلتفت إليه أحد، فنشأ الجهل، وعمَّ الفقر، وتفشت البطالة، والأمية، والعشوائيات في كل نواحي الحياة، واندلع الانفجارُ السكاني الهائل، وأصبحت مصر ل مرة في تاريخها العريق دولة طاردة لمواطنيها بعد كانت دائمًا دولة جاذبة للغرباء، حيث يحلو لهم العيش فيها.
إن العسكر بطبيعة تأهيلهم في أي مكان من العالم لم ولن يفهموا في يوم ما أن الأمم الحديثة لا يمكن أن تبني هويتها على أساس الايديولوجيات السياسية أو الدينية أو أية خيارات طائفية أو عرقية، أو تفضيل الشريحة الاجتماعية الغالبة على الشريحة الأقل غلبة من رعاياها سواءً في التشريع أو في المناصب القيادية، فهذا يؤدي قطعًا إلى تضعضع البنيان القومي للدولة من ناحية، وتحولها إلى دولة متخلفة عن ركب التقدم من ناحية أخرى، خاصة مع قولبة الفكر السياسي بقالب تلم الأيديولوجية.
راجع مقالي: العسكر وعقدة النقص في مصر
http://m.ahewar.org/s.asp?aid=529272&r=0&cid=0&u=&i=0&q=%ED%C7%D3%ED%E4+%C7%E1%E3%D5%D1%ED
يق
كذلك فإن العسكر بطبيعة تأهيلهم يجهلون الشؤون السياسية، لذلك تدنَّى المستوى الثقافي في البلاد؛ من حيث الوعي والإدراك للعديدِ من الأمور والجوانب الحياتيّة، ونتج عن ذلك ضعف التعليم، وانتشار الجهل، وتفشّي الأفكار والموروثات الاجتماعيّة الخاطئة، التي سيطرت على العقل الجمعي للمواطنين، وأصبحت غير مناسبة للزمان والمكان الذي نعيش فيه، وغير قادرة على مواكبة التقدّم الحالي، ومنافية تماماً للحياة العصريّة التي نعيشُها.
وفي وضع هكذا كان لابد من أن يعمَّ الفقر ويشتد بين فئة لا محدودة من الأسر والجماعات التي تعيشُ في ظلّ دول متخلّفة، تنتهج أساليب التجهيل والتعتيم والخداع من خلال شعارات براقة دون الإلتزام بها، وتعاني من ضعف الاستثمار وانعدام فرص العمل والسيطرة على الموارد، وعدم القدرة على تشغيل المُتاح منها واستغلاله بالأسلوب الأمثل.
ولأول مرة في تاريخ مصر منذ سيطرة الثقافة البدوية المنحطة، يظهر علانية في المجتمع عدم احترام المرأة، والوقوف في وجهِ تقدّمها، والحدّ من دورها الكبير في التنمية، والمناداة بإجبارها على البقاء في المنزل والزواج في سن مبكرة، وأمور أخرى شاذة في التعامل الجنسي معها، وانتشار ظاهرة التحرّش اللفظي والجنسيّ.
وارتفاع معدّل الإنجاب غير المدروس، في ظل ظروف معيشية قاهرة، فانتشرت ظواهر التخلف والفقر والانحطاط مثل عمالة الأطفال وازدياد أعداد أطفال الشوارع، ومعدلات الجريمة، وتجارة الأعضاء البشرية وحالات خطف الأطفال وقتلهم.
كما تدنّي المستوى الاقتصاديّ، وانخفض معدّل الصادرات، وهبط الناتج المحليّ الإجمالي والدخل القومي للبلاد، وانخفض مستوى الأجور الخاصة بالأفراد، وضعف تطبيق القوانين والتشريعات.
وزاد معدّل الجريمة والنزاعات مع انتشار ظاهرة العشوائيّات، والتشرّد وعدم وجود مأوى لفئةٍ معيّنةٍ من الأشخاص.
وتدنّي المستوى الثقافي والرفاهية، وانتشرت الطبقيّة بوجود فئة غنيّة تستحوذُ على الجزءِ الأكبر من الموارد والخيرات، مقابلَ نسبةٍ كبيرة من الفقراء والأشخاص ذوي الدخل المحدود الذين يتمّ استغلالُهم لصالحِ تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من الأرباح للفئة الأولى.
في المقال التالي والأخير نتعرف على الأسباب الحقيقية وراء هذا الوضع المتأزم في مصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكاتب بحاجة لدرس في التاريخ
محمد أبو هزاع هواش ( 2018 / 9 / 23 - 18:19 )
يقول الكاتب أن محمد علي قد أتى من : - شمال اليونان عام 1769، لأسرة ألبانية. فحاول انتزاعها من قبضة التخلف الاستعماري العروبي. -

يتكلم الكاتب بالطبع عن مصر.

ياعمنا الكاتب: لم تكن مصر تحت إستعمار عروبي

مصر كانت تحت العثمانيين

هنا توقفت عن قراءة بقية هذه الخربشة العنصرية

العنصرية لاتنتج فكراً وإنما تبرير للكره


2 - هو يقرأ بعواطفه
نيجورا ( 2018 / 10 / 25 - 21:00 )
الأستاذ أبو هواش لا يقرأ جيدًا
ولا يعرف أن قبضة الاستعماري العربي مازالت حتى اليوم ممسكة بأعناق العباد في كثير من البلاد ، والاستعمار العثماني الذي أشار إليه ما هو امتداد لهذه القبضة
ياأستاذ إقرأ بحيادية وبعيدًا عن الأحكام المسبقة لتفهم وتتعلم

اخر الافلام

.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #


.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع




.. #shorts yyyuiiooo


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. يهود #بريطانيا يعتصمون أمام البرلمان في العاصمة #لندن للمطال