الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرية باذخة

سمر المحمود

2018 / 9 / 23
الادب والفن


- هذه ألف ليرة .. بينما تشذب ياقة قميصه وتشد حزام البنطلون واضعة اللمسات الأخيرة على مظهره لتردف بحنق رافعة سبابتها في وجهه كتحذير: إياك أن تضيعها كما في المرات السابقة
- حسنا يا أمي .. بينما الأفكار البهيجة تغمره هو الطفل البكر لعائلته ذو العشر سنوات الفائض الطاقة والشقي هكذا يطلقون عليه .. يرى تلك القطعة من النقود ورقة تسريح مؤقت من المنزل وهم يرونها مشتريات الصباح مفكرا
بينما يهم بالخروج بينما تتابع والدته تحذيرها: إياك أن تخرج بالشحاطة والغبار يعبق خارجا
فيمتثل في إحجام وبابتسامة ماكرة يعيد الشحاطة لمكانها ويشرع بارتداء الحذاء محدثا نفسه بانفعال الريح التي تلعب معه في الحديقة محفزة مشاعره ليتناهى إلى مسمعه حديث جانبي لأخوته
– يا ماما نفضل أن نتناول الإفطار بما هو متوفر لأنه سيعود بخفي حنين بعدما يكون قد أضاع الألف ليرة
يمد رأسه من حديقة المنزل يتلصص من شفوف ستارة النافذة فتلمحه أخته الصغرى المرتابة في أمره وتزم شفتيها مدعية عدم رؤيته:
- هذا الولد لا يعرف أن يكون رجلا مرة واحدة في غياب والدنا .. يعقد حاجبيه مدعيا الانزعاج يطوف ببصره في الحجرة مترصدا والدته التي اختفت في المطبخ فيسرع كسهم عبر الفسحة الأمامية للبيت مغلقا الباب الخارجي وراءه كأنما أغلقه على تعاقب يومي مشحون بعواطف خضعت لفيزيولوجيا معينة مع تقليد رتيب زج فيه دون الأخذ برأيه .. وبلهفة مبطنة بالانتقام يرمي بالحذاء في الهواء كسجين يخلع عنه قيده ويفك حزام البنطلون ويحرر جسده من القميص النظيف ذو الرائحة الطيبة ليبقى بقميصه الداخلي نافشا شعره ثم يشرع بالركض ثم الركض مخترقا الجو الحار المثقل بالرطوبة لتلبسه الطبيعة بالأشجار التي يظنها تركض معه لاهثة بأوراقها الخضراء المصفرة والتراب يثير عجاجا في دوامات تدغدغ قدميه وقرص الشمس المتأجج حرارة يمد يده الضوئية ليزيد طبقات السمار على وجهه متجها نحو السوق القريب بانفعال مستعذب يسري في كيانه متنقلا عدة مرات بين واجهات المحلات ليجيل بصره على الخضروات ،البندورة الفتية في أقفاصها ، العنب الذي يتدلى في مجموعات مظهرا تعاضده وتلاحمه والبرتقال الذي يعشق لسعة مُرّهِ ، لبن حليب مواد غذائية مواد غذائية : مفكرا باستغراب كيف يقضي الناس على كل هذا الطعام ما أكثر الطعام ما أكثر الطعام ... ممممم ليجد قدميه تشدانه متجاوزا السوق الرئيسي حتى المحلات المجاورة التي تستعرض آخر منتجاتها من الدجاجات المدعوجة البياضة والديكة الفخورة بالحجم الكبير لعائلتها ، قطط ترمقه بشذر من وراء أقفاصها تمد قائمتيها بشراسة تنم عن جوع شديد وكلب صغير طليق يحرس ملكيته ، يأمل نفسه أنه سيحصل على واحد يوما ما .. ويتابع سيره حتى محلات تعرض سلعا مغرية من حلويات متنوعة تلبث في واجهة متزينة بثياب من الكريمة مختلفة الألوان يحدث نفسه بشعور ممتع: بوسعي أن أبتاع كل هذه الأشياء .. ولكنني لن أفعل هاأنا ما زلت أحمل النقود وسأعود للبيت محملا بالأكياس لأسلمه لوالدتي بعناية على مرآى من أخوتي المندهشين الواجمين .. ربما أمرر بها عقوبتي على توسيخ ثيابي وتمرغي بالتراب
وبسرور صبياني مبالغ فيه يدس يده في جيب بنطالونه يتحسس النقود يقطب حاجبيه كأنما يستذكر شيئا ما لينقبض قلبه وتكفهر تعابيره، يهز رأسه ثم ينكسه بينما خطواته المثقلة توحي بالتردد ولكن هذا الشعور يزول حين تقوده قدماه حتى الطريق المعتاد إلى الحديقة ليعود الابتهاج يسري في داخله تدريجيا شاعرا بنفسه حديقة صديقة تحمل لها النقود ليقتحمها متهيجا بشعره المشعث يطوف ببصره في أرجائها الفارغة من الزوار ، يمط شفتيه ويفتح فمه للريح كأنما يبتلعها بغبارها وحشراتها الصغيرة يختار زاويته المعتادة بين الشجرة والسور ليتبول فيها مع حساب الطول الذي خلفه الدفع قياسا بالمرات السابقة يرفع بنطالونه الذي فقد ثباته بعد انتزاعه الحزام و يدس يده في جيبه
مخرجا الألف ليرة ويضعها على راحة يده المنبسطة محدثا الريح أنه سيعاقبها إذا استمرت بالغش محددا مرماه ، تمر دقائق والورقة الخجلة تتراقص بحوافها متهيئة لتعتلي موجة ريح ثم تسكن قليلا ليعود هياجها حين تداهمها نسمة قوية فتحلق بالهواء لينتفخ وجهه من النشوة ويركض وراءها وبصره معلق باتجاهها، ثوان وتسقط على الأرض .. حسنا لقد ربحت هذه الجولة أو تعلنين استسلامك لكن الورقة تبدأ بالحراك كمن تشحذ همتها لتطير مرة أخرى مبتعدة ويعاود الركض خلفها لاهثا حتى تتقطع أنفاسه فيقرر بغيابها عن ناظريه أن يستريح دقيقة ليعاود البحث عنها فيما بعد وبحركة سريعة يلقي بنفسه على الأرض وهو لايزال محمرا متقطع الأنفاس لحظة ثم لحظات ليتقلب على التراب ثم يولي وجهه إلى السماء مفكرا بالعقوبة التي تنتظره في البيت يعقد يديه خلف رأسه مع احساسه بالاختناق .. لابد أن الساعة الواحدة والنصف ويتخيل والدته تعد الغداء في المطبخ تعنفه وتهدد بإخبار والده الطبيب الذي يعمل في إحدى الدول المجاورة ويرسل لهم الكثير من النقود من فئة الورقة النقدية التي هربت منه ، مع سخرية أخوته اللاذعة ، وستثير جلبتها المعتادة حين تفقد عقلها برؤيته متسخا وتؤنبه بأنه يسيء إلى نفسه وللعائلة بتصرفاته لتنهمك بإعداده للحمام بعد أن تخبر عمه الرجل المسؤول عن العائلة في غياب معيلها ليمسك الحزام الذي عثروا عليه في جوار المنزل الكبير وينهال بالضرب عليه ،
يتصاعد الدم إلى رأسه وهو يصك لسانه بسقف فمه محدثا صوتا ينم عن استنكاره
فينهض وإحساسه بالسكون يسيطر على كل شيء يثقل قلبه، سكون يشبه سكون المنزل الكبير بعد وجبة الغداء والانتهاء من التنظيف حيث يتجه كل منهم إلى غرفته ليأخذ البيت بما فيه قيلولته المعتادة أما هو فأشد ما يكرهه النوم في الليل فكيف بالنهار حيث يرن الصمت وتسمر القواعد كالعادة في هوائه ومائه وسقفه وأبوابه: أغلق الثلاجة .. لا تصدر صوتا قويا .. أخفض صوت التلفاز .. لا تفتح الباب لا تحدث جلبة .. أذهب لغرفتك .. أغلق النافذة سيهجم الغبار .. وهو يجهد نفسه ليتحمل سكونه ويكبح جماح رغبته في الخروج واللعب مع الأولاد تحت وطأة حر الشمس لكنه يستبق عقاب والدته بحركة ما لتنهره : من يخرج للعب في منتصف النهار إلا أولاد الشوارع
كم مرة فكر بالهرب .. لا أحد يسأله فقد فكر مئات بل آلاف المرات واضعا عدة سيناريوهات طفولية ، لكنهم قد يضعونه في ملجأ للأيتام ليس إلا سجن من نوع آخر، أو ربما تتبناه امرأة حنون كأمه تماما لكن برية تقطن في بيت بعجلات متنقل وربما تكون لاعبة سيرك تجول وإياه والفيلة والقردة المدن والقرى وقد ينقطع بهم الطريق يوما ما في غابة مخيفة لتعوي عليهم الذئاب طيلة الليل .. يضحك بخشوع لينتقل لسيناريو أقل رعبا قد يتجه للعاصمة متنكرا ويتحول إلى بائع يعيش في الطرقات مثل هؤلاء الذين شاهدهم نائمين تحت الجسر حين كان مع عائلته في زيارة لبيت جده ليتذكر كيف رمقهم بدهشة مبطنة بالحسد موجها الحديث لوالده الذي أحكم قبضة يده: أبي كيف سمحت لهم عائلتهم بالنوم في الشارع ؟! ليبدو أن ما أثار عجبه ليس نومهم في الشارع... ليجيبه أبوه بصوته الرزين مع ابتسامة مخفية: لابد وأنهم سيقضون وقتا طويلا في الحمام يغتسلون حين عودتهم
أجل .. يحدث نفسه بحماسة وبصوت مسموع .. يطلق عليهم مشردين لا مأوى لهم .. شاهدتهم في التلفاز
ولكنْ .. يكفهر وجهه مفكرا أنه لن يعود بإمكانه مشاهدة برامجه المفضلة
لينتفض كملسوع مخمنا أن الساعة ربما تجاوزت الثانية وستفوته حلقته الكرتونية المفضلة ولابد أن عائلته ظنت أنه خطف أو حصلت مصيبة ما ليبدو كأنه استفاق من شروده وعاد للتفكير المعذب بالعقوبة، يحث خطاه مسرعا بالعودة ليتراءى له المطبخ في مقدمة المنزل ولاح رأس والدته ثم تبينت الغرف كلها ، لابد وأن أقرانه يهيئون الحزام الذي يبدو أنه اختفى مع القميص والحذاء حيث وضعهم ووجدوهم بحكم التكرار ليتناولوا إفطارهم متأكدين من عدم عودته بالمشتريات فشعر برضى خفيف كون سلوكه لم يعد مستغربا لديهم حتى أن والدته اعتادت أن تطرد وسواس الخوف عليه من مصيبة ما ، لأنه سمعها تردد في المطبخ بصوت يائس متوعد : سيكون عقابه شديدا هذه المرة .. ماذا أفعل يا إلهي؟ هذا الولد سيقتلني بسلوكه








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما