الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باي باي لندن

سندس القيسي

2018 / 9 / 23
كتابات ساخرة


ها أنا أعود إلى لندن بعد طول غياب لأودعها الوداع الأخير، فهذه المرة وبعد حوالي ثلاثة شهور من الآن، سأودعها إلى الأبد أو هكذا آمل على الأقل. إذ أني لن أعود من سكان لندن بل من سكان عمان. خطوة جريئة وقد تكون محزنة بعض الشيء. فقد قضيت ما يزيد عن اثنين وعشرين عامًا في بريطانيا، ثلاث سنوات منها عشتها في إسكتلندا والباقي في لندن. وبالطبع، فإن البعض يتحداني بل ويراهن أني لن أصمد في الأردن وينصحني أن أترك خيار العودة مفتوحًا وأن لا أحرق سفني وأن لا أحطم جسوري مع لندن العظيمة. وَيَا ليت الأمر بهذه السهولة وتلك البساطة. فلطالما اعتبرت بريطانيا أفضل بلد في العالم للعيش فيها. وكم من مرةٍ قارنا بين نحن وهم وغرقنا في تحليلاتٍ لامجدية حول لماذا لا نستطيع أن نصنع عوالم لأنفسنا مثلما صنعوا هم لأنفسهم.

وبعد اثنين وعشرين عامًا من الحياة البريطانية، أتمنى أن أكون قد تخلصت من عقدة الأجنبي الراسخة فينا منذ الصغر. لكن مع كل زخم التجارب التي منحتني إياها حياتي في لندن وإدنبرة وما ترجم منها في شكل أعمالٍ إبداعية بهدف الإندماج في المجتمع البريطاني مع الإحتفاظ بخصوصيتي الثقافية وصوتي المميز، ظلت حياتي بلا معنى ولم يغادرني الحنين إلى الوطن بمعناه الكبير من البحر إلى المحيط وظل العالم العربي قبلتي المفضلة في الأسفار رغم تخلفه ورجعيته وتمزقه. شيء واحد وحيد ساحر آخاذ لم يفقد بريقه ألا وهو دفئه بشقيه المادي والمعنوي. ومن يعيش في أوروبا يصيبه هوس بشمس الشرق الساطعة. وبريطانيا لم تعد الآن من أوروبا وبدأت رحلة القوقعة على ذاتها وهي تركز على علاقاتها مع دول الكومنولث التي كانت جزءًا من مستعمراتها السابقة. وأنا سعيدة لأني لن أكون جزءًا من بريطانيا الجديدة هذه.

وأعترف أن الحياة في بريطانيا لم تكن سهلة، لكني عرفت فيها معنى الحرية إلى درجة أصبحت معها الحرية كلمة خاوية عندما تقارنها بالثمن والتضحيات والتبعات المقرونة فيها. فليس هناك حرية مطلقة وليس هناك حرية لا تأتي على حساب شيء آخر. فما معنى أن يكون الإنسان حُرًا؟ إنه أمر يختلف من ثقافة لأحرى. فالحرية في الشرق لها معنى مختلف عنه في الغرب لأنها ترتبط بالفردانية. وبالطبع، نحن نصاب بهوس الحرية ولا ندرك مدلولاتها حين نعيش في أوروبا لأن كل ما حولنا يغير من معاييرنا. ونعيش في ازدواجية لا مناص منها.

لقد أصابني هوس العودة إلى الوطن وإلى أحضان أسرتي منذ زمنٍ طويل. بالتحديد منذ أيام انتقالي من إدنبرة إلى لندن في 2006. لكني كنت أؤجل المشروع وأرميه خلف ظهري لأن بريطانيا ما زالت تعطيني زخم تجارب ولأني كنت أؤجل اتخاذ القرار والبريطانيون لا يحبون اتخاذ القرارات، فلربما هذا من دواعي التأثير الثقافي علي. وفِي الحقيقة، قرار عودتي إلى الأردن اتخذته عائلتي التي تعاني من إجراءات تأشيرة السفر إلى بريطانيا، فيظل جزءًا من حياتي منقوصًا في بريطانيا، إذ لا يسمح لأخٍ أو أخت بزيارتي. الوحيدون الذين قاموا بزيارتي هم والدي ووالدتي ولم تبهرهم الحياة في بريطانيا ولا البرد القارص. وقد وجدت نفسي وقد وصلت لآخر المطاف. فأي تجارب جديدة في بريطانيا ستكون إعادةً وتكرارًا لما مضى. ولم يعد هناك زخم تجارب جديدة. وآن الآوان لأرتب حياتي المستقبلية التي أعددت لها منذ سنواتٍ وسنوات. ولكن في مكانٍ آخر ليس هو بريطانيا ولا فرنسا (مع أنها تظل حلمًا) ولا أمريكا (ولو أن عندي رغبة بتجربة الحياة فيها) ولا كندا ولا البرازيل إنما الأردن حيث أهلي وعشيرتي.

كثيرون في الغربة لديهم هوس العودة إلى الوطن لكنهم لا يقدرون على ذلك سبيلاً. فمن ناحية عملية، يصعب ذلك. في نهاية الأمر، أنا سعيدة بهذه الخطوة التي لا أخفي توجسي منها قليلاً. لقد فعلتها أخيرًا واتخذت قرارًا كان ينبغي أن أخذه مبكرًا قليلاً أي قبل عدة سنوات. لكن كل شيء يأتي في الوقت المناسب. سأفتقد لندن بالطبع وخياراتها المفتوحة وسهولة الحياة فيها نسبيًا. لكن أمامي ثلاثة شهور لأودعها على مهل. أزور أماكني المفضلة وأنهي ما لدي من أعمال عالقة. ومن ثم باي باي لندن!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن