الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنوع الثقافي ثروة مستدامة

هازان كاريسي

2018 / 9 / 24
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


في المدن الاوربية عموما وفي مدينة هامبورغ (التي اكملت فيها اليوم عامي الثاني) خصوصا , تلتقي الناس من كل الاعراق والأجناس والألوان والشعوب والملل والنحل والمعتقدات والأديان والمذاهب والأفكار والثقافات والطبقات والمجموعات الثقافية واللغوية. يمر الناس من امامك في الحدائق العامة والشوراع او يجلسون بجانبك في القطارات او المقاهي , وهم لا يخافون من اختلافات بعضهم البعض بل يتبادلون التحايا والابتسامات . هذا هو المعنى الحقيقي للمجتمع الحاضنة لكل أشكال التعدد والاختلاف. معنى أن نختلف ونعيش معاً. فالثقافة تحويل للمُعطى الطبيعي والفطري الخالص. لهذا وجب التمييز بين الثقافة والحالة الطبيعية، فالأولى تُفيد التنوع والتاريخ والتربية، في حين أن الثانية تدل على مَاهو مشترك بين الجميع بشكل فطري. فالتوالد على سبيل المثال فعل طبيعي لأنه ظاهرة بيولوجية مشتركة أما السلوك الجنسي فهو ثقافة لأنه مرتبط باستعمالات وتمثلات مؤطرة اجتماعيا. فالثقافة إذن ثروة مكتسبة خاضعة لشروط تاريخية واقتصادية وسياسية، بل هي الدعامة الأساسية لرأسمال المجتمع المادي واللامادي. و أن التنوع الثقافي لا يشكل عائقا أمام تنمية وتقدم المجتمعات، وإنما يمثل أحد عوامل تحقيق السلم الاجتماعي الذي بدونه لن تتحقق التنمية والممارسة الديمقراطية والتطلع إلى الحداثة. عندما تعيش مجتمعات بشرية من ثقافات مختلفة في فضاء جغرافي واحد من استحضار مفاهيم التسامح والاعتراف والقبول المتبادل في وجه المشاكل التي عادة ما تنتج عن العيش المشترك وتتطلب وجوب التعايش، وأن هذا التعايش يتجلى في ظل "التنوع الثقافي" الذي يعني، بالأساس، الاعتراف بلغات مختلفة وبتاريخها وكذا بهويات وأديان وتقاليد وأنماط حياة مختلفة وخصوصيات ثقافية مغايرة. يمكن اعتبار التنوع الثقافي ثروة حقيقية ومورداً لا ينضب لهذا البلد لو أحسنا استثماره والإفادة منه. فعلى الصعيد الاقتصادي ثمة علاقة وثيقة بين التنمية والتنوع الثقافي. تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو إن التنوع الثقافي يشكّل قوة محركة للتنمية، ليس على مستوى النمو الاقتصادي فحسب بل أيضاً كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً وتؤكد اليونسكو على اعتبار التنوع الثقافي ميزة ضرورية للحدّ من الفقر وتحقيق التنمية المستدامة . فمن الناحية الاجتماعية تجعل حالة التنوع الفرد في مواجهة ومعايشة واحتكاك مع الآخر بصورة دائمة ولذلك يكون ملزماً بالاهتمام بمشاعر الآخرين ومراعاة آرائهم واتجاهاتهم مثلما يكونون هم أيضاً ملزمين بالمعاملة بالمثل. ولهذا الاحتكاك والتفاعل اليومي واللحظي أثر كبير في تهذيب سلوكيات الانسان وتنمية أخلاقياته وإنضاجه نفسياً وتطويره اجتماعياً وعقلنة المجتمع سياسياً وترشيد الأمة حضارياً. أما على الصعيد الاقتصادي فإن التنوع مهم للازدهار الاقتصادي لأنه يوفر الفرصة لتعددية الاهتمامات والأذواق الاستهلاكية، وبالتالي يتيح المجال للمنتجين من صناعيين وتجار لتلبية هذه الاحتياجات والرغبات فتنمو الأسواق وتتسع وتتطور أفقياً وعمودياً. كذلك فإن الحياة الاقتصادية الثرية والنامية تخدم التنوع الثقافي لأن الروابط الاقتصادية بين البشر والمصالح المشتركة تعزز فرص القبول بالآخر واحترام الاختلاف والتنوع والتسامح الثقافي. إنه لا يمكن تصور حوار حقيقي بين الثقافات والحضارات إذا لم يكن هناك إقرار بمبدأ التنوع الثقافي، ومهما كانت هناك بعض وقائع الصدام والصراع، فالأمر ليس قدرًا محتومًا لأن العنف والجهل بالحقائق والخوف من الآخر ليست أمورًا حتمية بل هي نتاج للتربية والثقافة التي ينشأ عليها الفرد وتطبع سلوكه وردود أفعاله، ولذلك كان لابد في إطار التفاعل الحضاري من التمسك بالهوية الحضارية وحماية الشخصية الثقافية، ولاشك أن في كفالة الحق في التنوع الثقافي تأكيدًا على الخصوصية الثقافية لكل شعب من شعوب العالم وإبرازًا للهويات الوطنية ذات السمات الحضارية التي تشكل في مجموعها الهوية الإنسانية العامة القائمة على أساس وحدة الجنس البشري ووحدة الصفات المشتركة. من جهة أخرى تتأكد خصوصية كل ثقافة في إغناء التراث الإنساني من خلال الاقتناع بعدم وجود ثقافة راقية وأخرى منحطة، فلكل ثقافة غناها المتميز وثراؤها الخاص . وواحد من أهم الأسئلة في عصرنا الحالي كبشر، هو ما مدى استعدادنا لفهم الثقافات الأخرى؟ وكيف يمكننا أن نتكلم عن الحوار بين الثقافات إذا كانت هناك فجوة وعدم كفاية في المعرفة المتبادلة بين القيم الأصيلة والأطروحات الشعبية المجتمعية والثقافية والفكرية والدينية كما هي بين الحضارات؟ ولكي اجيب على السؤال فاني استشهد بمنظمة اليونسكو التي ترى أن ثلاثة أرباع الصراعات الدموية في العالم لها أبعاد ثقافية، أو بمعنى أدق كانت مسبباتها مرتبطة بهيمنة ثقافة على أخرى، فقد رأينا كيف اندلعت الحروب والنزاعات الدولية حولنا لتبتلع ثقافات بأكملها وتمزّق النسيج الإنساني كاملاً وتتركه مهلهلاً بالخروق، فالانتصار لوجهة نظر أحادية لا يشوّه الوجود الإنساني المادي وحده، بل يصيب العمق الروحي والفكري للبشرية جمعاء بأعطاب بالغة , وعلية فان التكنولوجيا المتقدمة ووسائل الاتصال الحديثة تتيح لنا إمكانيات مذهلة لرتق جروح الإنسانية وتجبير كسورها، وتلافي الوقوع في أكثر خيباتها تدميراً؛ الحروب. لكن هذه الوسائل لا تنجح من دون التسليم بالتنوع الثقافي والخيارات التي يتيحها في البلد الواحد، والعمل على تجسير الهوة بينها من خلال التحاور الدائم، وتحقيق التوازن بتمكين كل المكونات الثقافية من الظهور على سطح المجتمع بشكل متساوي من دون طبقية اجتماعية أو فوقية، فالتنوع الثقافي قوة محركة للتنمية حينما تتوفر خطط عملية مدروسة لمشاركة الأفراد بشكل متساوي، بما يحقق التكامل الفكري والعاطفي والمعنوي والروحي للجميع على حد سواء. واستناداً إلى التعريف المتداول للتنمية بأنها عملية الإرتقاء الشامل بالفرد والمجتمع اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً يمكن التحرك لفهم المقاربة السياسية في التعامل مع التنوع الثقافي . ولا ننسى طبعاً أن تطوير اقتصاد قائم على المعرفة يأتي من تحضير النسيج الثقافي المتنوع للمشاركة الفاعلة في عمليات التنمية، وتكوين حاضنات آمنة وتشجع على الابتكار لكل الأفراد القادمين من خلفيات ثقافية متباينة، وإعطائهم المساحة الرحبة للتعبير عن الممارسات التي ترتبط بتكوينهم الروحي والعاطفي دون الخوف من المختلف، فطالما كان الاختلاف قوة لاختراق المستحيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في معرض البندقية


.. الهجوم على رفح أم الرد على إيران.. ماذا ستفعل إسرائيل؟




.. قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في المحادثات بين إسرائيل وحماس


.. إسرائيل تواصل قصف غزة -المدمرة- وتوقع المزيد من الضحايا




.. شريحة في دماغ مصاب بالشلل تمكّنه من التحكّم بهاتفه من خلال أ