الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ترجمَةِ ما لا يُتَرْجَمُ؛ تجربةُ المُسْتشرقِ الإيطالي أليسّاندرو بَوْزاني اختياراً

أسماء غريب

2018 / 9 / 24
الادب والفن


(1)
أنا وكِتابُ الله في إيطاليا

«...أشعرُ بأنفاسِ الله بداخلي، إنّهُ حاضرٌ وموجودٌ فيّ، وهذا أمرٌ لا أعاينُهُ بشكلٍ محسوس إلّا عندمَا أكونُ سعيداً. فاللهُ سعادةٌ وفرحٌ لا يمكنُ وصفهُما بكلماتٍ بسيطة. أمّا الحزنُ والشّقاء فهُما ينتميان للإنسان ولا علاقةَ لله بهما» (1) من هذا الباب تعرّفتُ إلى أليسّاندرو بَوْزاني(2)، أيْ من بابِ العرفانِ والتصوُّف، وكمْ كنتُ سعيدةً بهِ للغاية حينما علمتُ بعد ذلك أنّهُ منَ المترجمين العالميّين القلائل الّذين اقتربوا منَ اللغة العربية بقلبٍ مُفْعم بالخشوع والتواضع. وكيْفَ لا يكونُ كذلكَ، وهو الرّجلُ المشبعُ بمحبّة الحرفِ ووَحْيِهِ المُتجلّي في كلّ اللغات!
كان والدُهُ ــ كما يروي عنه شخصياً في مذكّراته ــ منَ المتعبّدين الزّهاد، بل صوفيا لمْ يعرفِ التاريخُ ولا أهلُهُ عنهُ شيئاً. وهذا يعني أنّ أليسّاندرو الصّغير تلقّى في كنفِ أبيهِ تربيةً دينيةً عميقةً، اطّلعَ فيها على العديدِ منْ كُتب اللاهوت المسيحي، لكنّه حينما كبُرَ واشتدَّ عودُه اتسعتْ رؤاه، وبدأتْ أسفاره في كتب حضارات وديانات أخرى جديدةٍ عليه تماما، دفعتهُ إلى الاهتمامِ أكثرَ بالدّين الإسلامي ممّا قادهُ إلى تعميقِ علاقتهِ بالله والنّظر إليهِ بعينٍ أخرى أبعدتْهُ كلّ البُعد عنْ كلّ ما لهُ علاقة بالدوغمائيات الدينية الجاهزة المُتحجِّرة التي تحصرُ اللهَ في مجموعةٍ من قواعد ووصايا تُلغي فكرَ الإنسانِ وقلبَه، وتسيطِرُ على روحهِ لتجعلَ منهُ في نهاية المطافِ مسخاً يضيعُ منهُ اللهُ والدّينُ والدُّنيَا، ويُصبحُ هُو وغيرهُ كمن يغوصُ في ظلمات بَحرٍ لُجِّيٍّ يَغشاهُ موجٌ منْ فَوقهِ موجٌ مِن فَوْقهِ سَحَاب، ظلمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرجَ يَدَهُ لَمْ يَكدْ يَرَاهَا، أو كَمَثلِ الَّذِي اسْتَوْقدَ نَاراً فلمَّا أَضاءتْ مَا حَوْلهُ ذَهَب اللَّهُ بنُورهمْ وَتَرَكهمْ فِي ظلمَاتٍ لا يُبصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (3).
إلى جانب (الكوميديا الإلهية) لأبِ اللغة الإيطالية وشيخِها الأوّل دانتي أليغييري، كانت ترجمةُ القرآن الكريم للبَوْزاني (4) أوّل ما اقتنيتُ من كتبٍ في إيطاليا، أتذكّرُ جيّداً ذاك اليوم الذي توجهتُ فيه إلى إحدى كبريات المكتبات الجامعية في مدينتي، وسألتُ بائع الكتب عن النسخة الإيطالية للقرآن الكريم، فاعتذر مني بداية لعدم توفرها بين الرفوف ووعدني باستقدامها من مدينة ميلانو في الأسبوع المقبل، وذاك ما كان بالفعل، إذ في غضون أسبوع حضر الكتاب، إلا أنّ صدمتي لدى رؤيته كانتْ شديدةً، لدرجة أنني شككتُ في أن يكون ذاك الكتاب هو القرآن حقا! لقدْ كانَ شكلُه وحجمُه أقربَ إلى قاموس لغويّ منه إلى كتابٍ له قيمتُه ومكانته لدى قلوب أهله من كافّة مُسلمي العالم، فالغلافُ كان بسيطاً جدّا وتُزَيّنُهُ صورة مرسومة باليد هي أقربُ إلى منمنمة فارسية، ولا يُمكنُكَ أنْ تعرفَ منْ يكونُ الرّجُلُ المرسومُ فيها أمحمّد (ص) هُو، أمْ شخص آخر وهُو يطرقُ بيده باب الكعبة وإلى جانبه نخلة طويلة؟ وعلى الرّغم من ذلك، حاولتُ ألّا أضخّم الأمرَ وأعطيهُ أكثر ممّا يستحقُ من الاهتمام، وفتحتُ الكتابَ - القاموسَ علّني أجدُ في صفحاته الأولى أو الأخيرة معلوماتٍ عن المُنمنمَة ومن يكونُ صاحبها، أبهزاد هُوَ أمْ أقاميرك؟ لكن لا حياة لمنْ تنادي، لا شيء يدلّ على أيّ شيء، فقلتُ ما علينا، ما بالأغلفة يُحكمُ على الكُتُبِ بل بمضمونها(5)، فتوقّفْتُ بعد ذلك عند العنوان، وعلى الرغم من حداثة سنّي آنذاك، وجدتُني أقولُ؛ هذا ليس بقرآن، فلماذا يقال عنهُ كذلك وبخط عريض في أعلى الصفحة؟ إنه ترجمة للقرآن، وإلى هذا الأمر وجب التنبيه، ذلك أنّ الترجمة شيء، والقرآن شيء آخر تماماً. إلا أن الجواب جاءني سريعا من جملة توضيحية في أسفل صفحة الغلاف يقول فيها النّاشر ما يلي: (المقدمة، والترجمة والتعليقات الهامشية هي لأليسّاندرو بَوْزاني). وعليهِ تجاوزتُ الأمرَ، ثمّ بدأتُ في قراءة بضعةِ أسطرٍ من مقدّمةِ المُتَرجِم الوافية عن القرآن الكريم، فاستحسنتُ الأسلوبَ والمضمونَ، وشعرتُ بأنني أمام مُتَرْجِمٍ من طينة خاصّة، فاشتريتُ الكتابَ وما إنْ بدأتُ في قراءَته ومقارنته مع النصّ الأصلي، حتّى شعرتُ بالخشوع، ذلك أنني اكتشفتُ أنّ أليسّاندرو مترجمٌ من الطرّاز الرّفيعِ قولاً وفعلاً، فهوَ عارفٌ بالسيرة النبوية كاملة وبكلّ تفاصيل القرآن وعلومه، وأسباب النزول وقصص الأنبياء، وتاريخ الإسلام ومذاهبه وكتب التفسير، فقلت في نفسي: هذا الرّجلُ فعلَ بترجمتهِ هذهِ ما لم يفعلهُ العديدُ من جهابذة علماء الإسلام القدماء منهم والمحدثين، لذا فإنه يستحقُّ كل تقدير وإجلال واحترام، زد على هذا رهافة حسّه وعمق إيمانه واحترامه للإسلام والمسلمين، مع شاعرية شفيفة تطغى على طريقته في الترجمة تجعلُكَ تشعرُ وكأنّ الرجلَ يتعبّدُ داخلَ محراب الحرف القرآني، ولكن بلغةٍ أخرى!

(2)
مِنَ الإعجاب إلى الفحص والتّدقيق

كما عادتي مع كلّ كتاب تنشأ بيني وبينه علاقة فكرية خاصّة، كان عليّ أن أنتقلَ بترجمة أليساندرو بَوْزاني للقرآن الكريم من مرحلة الإعجاب إلى مرحلة الفحص والتدقيق، وهو أمرٌ اقتضى منّي المرورَ أولا بمرحلة الهجر، أيْ قطع كل رابط كان يصلني بالكتاب إلى أن تختمر بداخلي طريقةٌ جديدة لمحاذاته بقلم النقد والتمحيص، فهجرتُ ترجمة البَوْزاني ولم أعُد لأقرأها مرة أخرى إلا بعد مضي أزيد من ثلاث سنوات، كانت كافية لتجعلَ الكتابَ يظهرُ لي بصورة أخرى، وبدأتُ أضعُ يدِي على العديدِ من الميزات قبل الفجوات في طريقة وتقنيات الترجمة، ذلك أنّ أليسّاندرو استهلّ أوّلاً الكتابَ بمقدمة مُفصّلة عن محمد (ص) وعن تاريخ الدعوة الإسلامية، ومرحلة جمع القرآن ثم طبعه، وكذا عنْ مدى تأثير هذا الأخير في الأدب العربي، مع التوقف طويلا عند شتى علومه، وكذا المترجمين الأجانب الأوائل الذين اهتموا به من مختلف الأقطار الأوروبية منذ عام 1530 إلى عام 1923م، أمثال المترجم الإيطالي لودوفيكو مرّاتشي والذي صدرت ترجمته سنة 1698، أيْ بعد ما يزيد عن أربعين سنة قضاها في دراسة القرآن وتصفّح العديد من المصادر العربية الخاصة بعلومه المختلفة.
أمّا ترجمة أليسّاندرو بَوْزاني فقد اعتمد فيها على ما كان يسمّى آنذاك بمصحف الملك فؤاد، والذي تمّ جمعُه وترتيبه بالمطابع الأميرية عام1337 ه وتمّت طباعتُه عام 1342 ه / 1923 م، إذ حينذاك كانت قد تشكّلتْ بإقرار من قبل الملك فؤاد الأول، لجنةٌ عليا من مشيخة الأزهر، مستعينة بكبار العلماء كان قوامها كلّاً من: شيخ المقارئ المصرية محمد خلف الحسيني، والعالم اللغوي حفني ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري. وقد قامت هذه اللجنة بمهمّة ضبط المصحف ورسمه وشكله، فكُتب القرآن بإقرارها موافقاً للرسم العثماني، وبرواية حفص بن سليمان الكوفي، وعلى قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي.
وتعدّ ترجمةُ عناوينِ السور القرآنية من بين أهمّ القضايا التي أشار إليها المُترجم في مقدمته، حيث أنه برّر عدم الترجمة الحرفية لها لما وجدَ في ذلك من مخالفة للمعنى الحقيقي للعنوان الأصلي، واكتفى بتخصيص ما يقارب مئتي صفحة للهوامش والتعليقات والحواشي من أجل شرح طريقته في الترجمة والأسباب التي دفعته إلى اختيار كلمة أو فعل ما دونا عن آخر، ولا سيما في تلك التي اختلف في ترجمتِها العديد من مترجمي ومدقّقي العالم، كمثلا مصطلح (مسلم) و(كافر)، و(مُشرك) و(رسول)، و(زكاة) و(الآخرة) وما إلى ذلك من المصطلحات.
أمّا العناوينُ التي أثارت انتباهي فهي كثيرة جدّا، منها (الفرقان) الذي ترجمه بالمصطلح الإيطالي [(سورة الخلاص (La Salvazione)]، وكذا عنوان (النّمل)، والذي تمّت ترجمته بـ (سورة النّملة)، مكتفياً بصيغة المفرد المؤنث للنمل، وفقا لما جاء في مضمون السورة من خطاب النملة التي قالت ((يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)) (6)، وتبقى ترجمته لعنوان سورة الأعراف هي الموقفُ الذي استدعى منّي الوقوف عنده بعين التأمل كثيرا، خاصّة وأنني لاحظتُ استخدامَه كبديل عنه المصطلحَ الكنيسي (اللّيمبو)، والمشتقّ من المصطلح اللاتيني (اللّينبس) والذي يعني حافّة الشيء وجانبَه أو إطاره، كما يعني المكانَ المُغلق، إشارةً إلى حالة الأموات الّذين غادروا الحياة الدنيا ولا هُم في الجنّة ولا في جهنّم ولا حتّى في المطهر، وغالبا ما يُقْصَدُ بهم الأطفال الذين لمْ ينالوا المعمودية، وهي عقيدة يرفضُها مُعظم رجال اللاهوت المسيحي المعاصر لأنها تتناقضُ وفلسفة الخلاص التي تقوم عليها الديانة المسيحية، لذا، وبعد مخاض عسير ونقاشات وكُتب لاهوتية عديدة (7) عن قضية اللينبس هذه، قررت الكنيسة إلغاءه تماما بقرار رسمي صدر سنة 2007 عن قداسة البابا بنيدكت السادس عشر (جوزيف راتسينغر)، وعليه وجب التساؤل: ألمْ يكن من الأفضل تركُ العنوان كما هو عليه منذ البداية دون ترجمته والاكتفاء بنسخه هكذا: (La sura di al-a‘rāf)، أي بالطريقة نفسها التي اعتمدها أليسّاندرو في ترجمته لسوَر أخرى كالحجر والأحقاف ويس، وطه، مادام حتّى معظم فقهاء وشرّاح المسلمين لم يجتمعوا لليوم على قول فصل في مسألة الأعراف هذه، وركّزوا بشكل أكبر على تفسير المصطلح لغويا باعتبار أن الأعراف هي الشيء المشرف، أو حاشية سور أو مكان مرتفع هو في هذه السورة إشارة إلى حاجز يمنع وُصُول أَهْل النار إِلَى الجَنَّة، ولربّما يكون هو السُّور نفسه الَّذِي جاء ذكره أيضاً في سورة الحديد: (فَضُرِبَ بَيْنهمْ بِسُورٍ لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهِره مِنْ قِبَله الْعَذَاب) (8) وهو معنى قريب جدا لما ذكره البَوْزاني في هوامش ترجمته عن المطهر المسيحي؟! (9)
سؤالي هذا، هو في حقيقة الأمر أوجّههُ لنفسي كمترجمة قضت عمرها تحاول فك بعض طلاسم الحرف العربي وإيجاد طريقة تكون الأقصر لفتح قناة تواصل تسمح بمرور قطرات من ماء أبجديته الزلال إلى حقول اللغة الإيطالية في كل تمظهراتها، فماذا عساي كنتُ سأفعل لو كنتُ مكان أليسّاندرو؟
أعلمُ أن الرّجل ما ترك كتابا من كتب تفسير القرآن إلا وقرأه بصبر وتؤدة، وأعرف أنه أيضا في كثير من الأحيان كان يلجأ إلى حلّ بعض إشكاليات الترجمة الحرفية من خلال تعويضها بتلك التي تعتمدُ على مضمون أو معنى المصطلح ذاته، كما أعلم أنّ كلّ هذا هو في حدّ ذاته أمرٌ مُحبطٌ للغاية بالنسبة لكلّ مترجم متخصّص في ترجمة القرآن الكريم، لأنّه سيجعلهُ ينتبه في آخر المطاف أنه كغيره ممّن سبقه وقع في فخ التقيُّد بما قاله المفسرون جميعا، القدامى منهم على وجه التحديد، الشيء الذي يعني إغلاق باب الاجتهاد في الترجمة كما تمّ إغلاقه سابقا في تفسير القرآن الكريم في لغته الأمّ. وهذا ما سيدفعني إلى طرح سؤال آخر قد يكونُ من باب الاستفهام البلاغي ليس إلّا: هل على المترجم أن يكونَ أيضا من علماء التفسير؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يعني أنّه عليه أن يكون مُلمّاً أيضاً بكل مدارس التفسير الإسلامي ومذاهبه، ويكون أيضا على علم بما يستجدُّ في الساحة من إضافات وتصويبات، ومن يدري فقد يصبح هو الآخر مطالبا بالإدلاء بدلوه في هذا الباب عبر الكتابة بحرف التجديد في علوم القرآن الكريم.
(3)
ترجمة ما لا يُتَرجم: إشكالية اسم الجلالة

في خضم حديثي عمّا يمكنُ أن يحدث من فقدان لبعض تفاصيل النصّ الأصلي أثناء عملية نقله من لغة إلى أخرى، فإنّي أعتقدُ أنه توجد إشكالية أخرى لا تقلّ أهمية عن سابقاتها وأقصدُ بها ترجمة اسم الجلالة: الله. وقد فتحَ العديد من المترجمين في هذا الصدد مناقشات ثرية ومتنوعة لإيجاد حلّ لها، إلّا أنهم ظلّوا على الرغم من ذلك منقسمين بين من يقولُ بجواز ترجمته، وبين من لا يجيزها بتاتا، وبدأت تظهر في المكتبات الإيطالية ترجمات سوقية استهلاكية تُتَرجِمُ اسم الجلالة تارة بــ (Allah) وتارة بــ (Dio)، دون الوقوف أبداً عند الأسباب التي تمَّ بموجبها تقرير الترجمة الأولى أو الثانية.
وبالعودة إلى ترجمة الإيطالي أليسّاندرو بَوْزاني فإني لاحظتُ أنه ترجمَ اسمَ الجلالة بكلمة (Dio)، بدون أدنى مشقّة، ولمْ يكُن لترجمته هذه أدنى تأثير سلبي على تسلسل المعاني القرآنية للآيات والسّور. لكن منْ أين أتت كل هذه التطاحنات حول اسم الجلالة منقولا إلى لغة أخرى بما فيها الإيطالية؟
ثمّة منذ البداية شيء أوّليّ غير قابل للترجمة، وهو تنوعُ اللغات واختلافُها، لأنهُ يُقدّمُ فكرةً حقيقية عمّا يسمّى بالتنافر الجذري الذي يجعلُ من ترجمةِ كلمة معينة أمرا مستحيلا. واللغات ليست فقط مختلفة بطريقتها لتقطيعها للواقع، وإنما كذلك بسبب إعادة تركيبِ هذا الواقع على مستوى الخطاب، والخطابُ هنا بشأن اسم الجلالة خطاب لاهوتي وفلسفي محض تمّتْ مقاربته من قِبل مُعظم المترجمين بشكل سطحي تماما، وهم يكيلون لبعضهم بعضا التّهَمَ والأقاويل في أنّ (الله) كما يعتقده المسلمون ليس هو نفسه (الله)، الذي يعتقده أهل اللغات المترجم إليهم حرف القرآن؟ أيْ أنّ (الله)، ليس هو نفسه (Dio). ومنْ هُنا يأتي سؤالي: ما دليلهم على هذا الأمر؟ ولماذا يقحمون دائما ماهو ديني فيما هو فكري؟ أوليس الغرض من الترجمة مدّ الجسور الفكرية بين الشعوب المختلفة في زمن نحن في أمسّ الحاجة إلى نبذ كل النزاعات الطائفية والدينية المقيتة التي أتت على الأخضر واليابس في كل أرجاء المعمورة؟! وإلّا فماذا يعني أنّ معظم من ترجموا القرآن وأوصلوه إلى الضفة الأخرى لم يكونوا من المسلمين، وإنما معظمهم مسيحيون، وكثير منهم كانوا على ديانات أخرى ومعتقدات لا شأن لها بديانات التوحيد، ونحن مازلنا نتهاتر ونتقاتل فيما بيننا أالله هو (Dio)، أو (Dieu)، أو (God)؟ ثم ماذا عن المسيحيين الناطقين باللغة العربية، ألا يُطلقون هم أيضا على خالق الكونِ اسم الله، مثلهم في هذا مثلَ المسلمين؟ وقد ينبري بعض الدارسين ليقولَ إنّ مفعول اسم الجلالة منطوقا هكذا كما هو لن يكون أبدا مطابقا لما يُحدثُه لدى الإنسان حينما ينطقه بلغة أخرى مستعيضا عنه بعبارة (Dio) مثلا. وأجيبُ قائلةً إنّنا هنا لسنا في حلقة ذِكرٍ حتّى نركّز على المفعول الروحي لاسم الجلالة وطاقاته الكيميائية لدى الإنسان المسلم العابد، وإنما نحن بصدد الحديث عن تقريب فكر لفكر، وقد تُحلّ المشكلة بكلّ بساطة بوضع نقطة هامشية في كلّ الترجمات يتمُّ فيها تحديد ما يعينهِ اسم الجلالة عند المسلمين دون الدخول في نظريات العزل والفصل الدّائم بين النحن والآخر، لا سيما وأن القرآن ذاته جاء للعالمين، وليس لقوم دونا عن آخرين. وبعيدا عن أسلوب الجدال والتهاتر، فإني أرى أنه من الأفضل التوقف وإن بإيجاز عند أصل المشكلة في ترجمة اسم الجلالة إلى لغة أخرى.
إذا كان الاسمُ هو ما يُعينُ المتلقي على فهم المُسمّى وتصويره في خياله وحصرهِ في فكره وعقله سواء كان المسمّى حاضرا أو غائبا، موجودا أو معدوما، فإنّ أوّل درجات الكمال لا تقعُ إلا حينما يُعَرِّفُ المُسمّى بنفسه إلى من يجهلهُ بالاِسمِ، فكذلك الحق جلّ جلاله، لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق أسمائه وصفاته، التي إذا توصّلَ المتلقي إلى معانيها كان مع الله تعالى باسمه، وإذا تجاوزَ حجابَ المعنى، جاوزَ الوصفَ والاسمَ واستخرجَ كنوزَ الأشياء كلها. والنّاظرُ إلى اسم الجلالة كالناظر إلى وجهه في المرآة التي بها يَعلمُ الحقيقة المتجلية في (( كان اللهُ ولا شيء معه)).
ولقد اختلفَ الفقهاء كثيرا في تفسير هذا الاِسم، فمنهم من قال إنّه جامد غير مشتق، ومنهم من قال إنه مُشتق من أله يأله، بمعنى عشقَ وتعشّقَ الكونَ بعبوديته وتسبيحه الذي لا يفقهه الجميع مصداقا لقوله عز وجل: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)) (10).
أمّا وأن يكونَ إله المسلمين إلها لا يشبهُ إله الآخرين من أهل ديانات التوحيد، وبالتالي لا تجوزُ ترجمة اسمه إلى أيّة لغة أخرى فهذا ما لا يقبلُه عقل ولا منطق، ذلك أنّ من يقول بهذه الفكرة يعتمدُ في دعمِ قوله على قضية التثليث لدى المسيحيين على وجه الخصوص، وعليهِ وجب رفعُ حجاب الغموض والخلط والتشكيك. والبداية ستكون من قوله تعالى حينما سأل السيّدَ المسيح عيسى ابن مريم:(( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (11)، وهي الآية التي سأعقّبُ عليها كما يلي: إذا كان أول القرآن بـسم الله الرّحمن الرّحيم، فإنّ أوّل الإنجيل باسم الأب والابن والرّوح القدس، وما وقعَ الخطأُ إلّا في طريقة التّأويلِ لكلتا البسملتيْن فأخذَ قوم عيسى في بداية العهد المسيحي الكلامَ على ظاهره فظنَّ البعضُ منهم أنَّ الأب والابن والروح القدس شيئا واحدا، وقالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، دون أن يعلموا آنذاك أنّ المُراد باِسم الأب هو الله، وباسم الابن هو ماهية الحقائق، وباسم الرّوح القدس هو الوجود المطلق لأنّهُ نتيجة عن ماهية الكينونة والجوهر مصداقا لقوله عزّ وعلا: (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (12)، وعليه يصبحُ ردّ سيدنا المسيح على سؤال الله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) دليلا على براءته مما توهّمَهُ قومه لأنّهُ زاد في بيان وإيضاح ما التبس على الناس. فليس عيسى هو الله، ولا أمُّه كذلك معتذراً في الوقت ذاته لقومه طالبا من الربّ ألّا يلومَهم على ما فعلوهُ من خلال ما علمُوه بالإخبار الإلهي في أنفسهم، لذلك قال عيسى: (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وهو يعلمُ جيداً أنّ قومَه لم يخرجوا عن الحقّ، وإلا ماكان طلبَ لهُمُ المغفرةَ، واكتفى بفعل ما فعلهُ إبراهيم (ع) مع أهله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (13). وهذا ما يفسّر كيف أنّ جواب الله كان بأحسن مايكونُ الجواب الإلهي دائماً حينما قال: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (14)، أيْ أنهم لمّا كانوا صادقينَ في تأويلهم لكلام الله على ما ظهرَ لهُم منهُ، فإنّ صدقَهُم هذا نفعهم عندهُ حتّى آلوا إلى الرحمة الإلهية فكانَ الإنجيلُ عبارة عن تجليات الذات في الأسماء، والتي يُعدُّ التجلّي في الواحدية إحداها، وأعني بهَا تلكَ التي ظهر بها على قوم عيسى في عيسى، ومريم وكذا في الروح القدس، فشهِدوا الحقَّ في كل مظهر من هذه المظاهر مصداقا لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (15). فهل بعدَ هذا أيّها السّادة يجوزُ الاستمرار في الجدال والتطاحن حول اسم الله عز وجل ومدى أحقّية ترجمته باللفظ الحرفي أو بمعناه الكنهي لدى بقية شعوب الخليقة؟!
على المترجمِ أنْ يتجاوزَ العقبات بما فيها الاعتراض النظري لعدم القابلية المبدئية للترجمة من لغة إلى أخرى، وإن اقتضى الحالُ اللجوءَ إلى بناء لغة جديدة (16) لأن الأصل هو التعددية التي تُعتبرُ اللغاتُ مظهرَها الأكثر قوةً وتأثيراً. فالإنسانُ هو هكذا بتكوينه؛ كائن متعدد اللغات، ومن هذا الباب وجبَ البحث دائما عن طريقة تخفّفُ من حدّة التنافر بين هذه اللغات وتعالجُ بالتالي العلاقة بين المعنى والمرجع، أيْ بين الواقع والقول، وبين السرّ وبين ما لا يُعَبّر عنه، وبين ما قد يُتَرْجَمُ وما قد لا يُترجمُ أبداً، وإن كانَ الثمنُ في سبيل تحقيق ذلكَ التخلي عن حلم الترجمة المثالية مع الاعترافِ باستمرار وجود ذلك الاختلاف الذي لا يمكنُ تجاوزه بين الذاتي والأجنبي. إنها لعبةُ الترجمة يا سادتي الكرام بكُلِّ ما فيها من مخاطرَ خلّاقة، أيْ تلك التي تقودُ المترجم إلى المعنى، ثم إلى الحرف والصوت والإيقاع والصمت بين الكلمات، هذا المترجمُ الذي يُفترضُ فيه أن يكون أديبا وعالما ورجل تأريخ وفقيها ومفسّرا للكتب السماوية، وأولا وقبل كلِّ شيء إنساناً عارفا يحملُ الحرفَ في قلبهِ، يخاطبُهُ كلّ ليلة قبل الذهاب إلى سرير المحبة والأسرار، ويقبّلُه فوقَ جبينِه ما إن يَهتفَ المؤذّنُ وتُقْرَعُ الأجراسُ مُعلنةً بزوغَ فجرٍ جديدٍ!

الهوامش
(1) Giuseppe Griceo, Il bisogno di Dio, Rusconi, Milano, 1979, p. 58.
(2) ولد أليساندرو بَوْزاني في التاسع والعشرين من أيار 1921 بروما، ووافته المنية بالمدينة ذاتها في 12 آذار 1988. كرّس حياته للدراسات الإسلامية، واختصّ بداية في التاريخ والحضارة واللغة الفارسية، وأصدر العديد من الكتب في هذا المجال أجردُ بعضها: (بلاد فارس المتديّنة، من زاردشت إلى بهاء الله، ميلانو، 1959) و(تاريخ الأدب الفارسي، ميلانو، 1960)، إضافة إلى أعمال أخرى ترجمها من اللغة الفارسية بما فيها (عمر الخيام، الرباعيات، إيناودي، تورينو، 1956)، (ابن سينا، في الشعر، البندقية، 1956)، (الرومي، قصائد صوفية، رتسولي ــ بور، ميلانو، 1980)، (نظامي، الأميرات السّبع، رتسولي ـــ بور، 1982)، ثمّ (محمد إقبال، القصيدة السماوية، ليوناردو دافينشي، باري، 1965).
كان البَوْزاني يجيد ما يزيد عن ثلاثين لغة إلا أن كتاباته كانت تنصب على دراسة اللغات العربية والفارسية والتركية والهندية وكذا الأردية والصينية والروسية أيضا. ويبقى القرآن من اللغة العربية إلى اللغة الإيطالية، أهمّ ما صدر له على الإطلاق.
(3) النور: 40.
(4) Alessandro Bausani, Il Corano, 10ªed, Rizzoli Libri, Milano, 1999.
(5) تجدر الإشارة إلى أنّه بعد هذه الطبعة التي اقتنيتها ظهرت إصدارات جديدة للترجمة ذاتها ولكن بأغلفة أكثر جدية ورونقا تزين معظمها سور قرآنية بالخطين الأندلسي أو الكوفي.
(6) النّمل: 18.
(7) انظر في هذا الصدد:
Rapporto sulla fede. Vittorio Messori a colloquio con Joseph Ratzinger, San Paolo Edizioni, Italia, 2005.
(8) الحديد: 13.
(9) ظهرت بعد ترجمة أليساندرو بَوْزاني، ترجمات جديدة لمترجمين آخرين تمّ فيها استدراك ما كان في الكتاب الأول من هفوات أعتقد أهمّها لليوم ترجمة كل من "إيدا دزيليو غراندي"، و"حمزة روبيرتو بيكاردو".
(10) الإسراء: 44.
(11) المائدة: 116/117.
(12) الرعد: 39.
(13) التوبة: 114.
(14) المائدة: 119.
(15) فصّلت: 53.
(16) يرجى الاطلاع في هذا المجال على كتاب الناقد والفيلسوف الإيطالي أومبيرتو إيكو: البحث عن اللغة المثالية في الثقافة الأوروبية، [Umberto Eco, La ricerca di una lingua perfetta nella lingua europea, Laterza, 7ªed, 2006].








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج